من منّا لا يستحضر صورة ذلك الكهل الذي وبصوت ممزوج بالفرح و الحزن في آن واحد ذات شتاء 2011 ردّد بأعلى صوته "لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة"؟ ومن منّا لا يتفكّر صوت ذلك المحامي الذي تحدّى حظر التجول وغامر من أجل أن يزّف للشعب التونسي بأنّ "بن علي هرب "؟ ومنّا نسي تلك اللوحة الجميلة التي انضم إليها الآلاف من أفراد الشعب التونسي، أمام مقرّ وزارة الداخلية، وهم يلوحون بأياديهم و حناجرهم تهدر و بصوت واحد " Dégage..Dégage " و من منّا ينسى تلك اللحظات ذات سنة 2014 حين خرج عليها السيد بن جعفر وأعلنها و بصفة قطعية و بصفة الواثق بأنّ الدستور الحالي لسنة 2014 هو «أفضل دستور في العالم»!!! فضلا عن بقية المطبّلين والمنظّرين و المهلّلين لهذا الإنجاز العظيم الذي أنتجه المجلس التأسيسي؟ ومن منّا لا يستحضر مغادرة همّة الهمامي الدهاليز المظلمة لوزارة الداخلية أثناء تلك الفترة العصيبة التي تمرّ بها البلاد وسواد الشعب لم يستوعب ما يحصل آنذاك في الوطن؟ والآن و بعد مرور عقدا من الزمن بتمامه وكماله و بعد رصد ما تمّ من « إنجازات" بعد كل هذه الفترة فماذا سيكون موقف كلّ هؤلاء لو طلب منهم تقييم مواقفهم تلك؟ و الأهم هل سيخرجون إلى العلن ويعترفون إنّهم كانوا على صواب أم لا، حين تبنوا تلك المواقف في بداية " الثورة " ؟ و هل فعلا بن علي هرب أم هناك من دفعه "للهروب" حتّى يتمّ تنفيذ بقيّة ما تمّ التخطيط له لبلادنا وزعزعة استقرارها؟ وهل مازالت اسطوانة النّظام القديم تنطلي على الشعب التونسي كأصل تجاري راهن عليه خاصة جماعة الإسلام السياسي والبعض من اليسار؟ و هل فعل نجحنا في الانتقال الديمقراطي وقطعنا مع الأنظمة الكلية؟ وهل توقفت اختلاسات الأموال العمومية؟ و هل غنم الشعب الكريم من الرفاه الاقتصادي و الاجتماعي زمن الثورة كما سوّق بعض الساسة لذلك؟ وهل أضحت تونس بالفعل كما كانت أوّل مرّة في المحافل الدولية و قد صفق لها كل العالم باعتبارها القاطرة " للثورات " العربية الأخرى؟ و هل مازال جواز السفر الأخضر يحظى بنفس القيمة خارجيا؟ ربما المجال لا يسمح للإجابة على كلّ هذا الفيض من الأسئلة و لكن فقط سنتوقف عند البعض منها و خاصة المتعلقة بتلك المواقف في بداية الثورة و أيضا بوصف دستور 2014 على أنّه أفضل دستور في العالم وأخيرا ما أسفرت عنه ثورتنا المجيدة من رفاه على المواطن و الوطن؟ 1/ مواقف فنّدها الواقع : شخصيا على يقين أنّه لو تمّت دعوة كلّ أولئك الأشخاص الذين أدلوا بمواقفهم في بداية الثورة بما فيها الآلاف التي علت حناجرهم أمام مقر وزارة الداخلية – و التي نتفهمها جميعا عند تلك اللحظات – وسألوهم هل مازالوا يتشبثون بنفس تلك المواقف التّي صدعوا بها سنة 2011 لأعتذر أغلبهم عمّا صرّحوا به سابقا وعلّلوا ذلك بما كانوا يشعرون به من نشوة الفرح لإزاحة نظام له و عليه وذلك على أمل و أنّ القادم سيكون أفضل و أحسن في كلّ الحالات باعتبار و أنّ الشعب سيكون سيّد الموقف مستقبلا و سينحت غده على الشاكلة التي تخدم مصالحه و مصالح وطنه بعيدا عن الغطرسة و تجميع السلطات و احتكار القرار . نعم سيندم الجميع عن تلك المواقف الأوّلية لأنّ الواقع كذّب كل تلك الأحلام و أسفر الواقع عن " منامة عتارس " باعتبار ما تعانيه كلّ الطبقات و الشرائح بفضل " الثورة المباركة " من الضنك و المتاعب و الابتعاد كليا عن كل تلك الأحلام و الشعارات الوردية..؟ 2/ أفضل دستور في العالم: لا أعتقد و أنّ الطبقة السياسية - التي ألّفت المجلس التأسيسي و أعلنت الأفراح و المسّرات في رحاب هذا المجلس لتزف لنا فرحة انجابها لدستور 2014 بعد 3 سنوات من المخاض و الأخذ و الرّد و الحراك و التفاخر و النخوة و الافتخار و حتّى التعالي و أيضا مقابل هدر حوالي 3 مليارات من المال العام و لمدّة 3 سنين من عمر الشعب و الدولة التونسية – هي الآن تحمل نفس الشعور بالنخوة و النشوة لذلك الإنجاب التي وصفه وقتها رئيس المجلس التأسيسي جعفر بن مصطفى بأنّه أفضل دستور في العالم و الذي صفّق له و كثيرا كلّ من كان داخل هذا المجلس اعتزازا بهذا المولود الجديد و لكنّي أعتقد و أنّه بعد 7 سنوات من عمر هذا الدستور/ المولود بدأت عيوبه تظهر تباعا خاصة على مستوى توزيع المشمولات بين السلطات الثلاث حيث أهدانا سلطة تنفيذية برأسين ( رئيس جمهورية و رئيس حكومة ) و ها نحن نعيش «محاسن» هذا التوزيع الذي تسبّب تقريبا في تعطيل كلّ دواليب الدولة رغم العدد اللاّ محدود من الحكومات التي عرفتها البلاد و العدد أيضا الكبير التي عرفته الدولة من رؤساء الجمهورية و العدد الكثير من رؤساء السلطة التشريعية . أمّا العلاقة بين رئيس السلطة التنفيذية و رئيس السلطة التشريعية فحدث و لا حرج من " تناغم " بينهما و من " تنسيق " و من " تقارب " في وجهات النّظر و من العمل من " أجل المصلحة العامّة " و من " التركيز " على ما ينفع البلاد و العباد لتجاوز ما تعيشه البلاد من مطبات و مشاكل جمّة و على كلّ الأصعدة؟ 3/ حصيلة عال العال لثورة " الغنائم ": ليس من باب جلد الذات إن قلنا و أنّ " الثورة " التونسية لا تمجّدها إلاّ الطبقة السياسية لما تمتّعت به من غنائم شرعية و غير شرعية فصعدت أسهم أناس، ما كانوا حتّى في الحلم يتوقعون ما ستغدق عليهم " الثورة " من الجاه و المال و المكاسب و المغانم و المراكز، و طبعا من حلالك و حرامك و نقول مثل هذا الكلام لظهور طبقة " طرابلسية جدد " استفادوا من الثورة المجيدة و غنموا منها من الرأس حتّى القدمين و " كلّ هذا من فضل ربّي "؟؟ وفي المقابل نجد سواد الشعب ندم بل " أكل البصل " كما يقال لانسياقه وراء السّراب ليعيش الضنك و يذوق الأمرين بل و لينزل إلى الدرك الأسفل تفقيرا و احتياجا و مهانة إلى درجة أصبحت بعض الأصوات تتعالى هنا و هنالك ممجدة للنّظام السابق لبن علي و ندما على مزاياها بل إلى درجة تقلّص منسوب الثقة بين الشعب و الطبقة السياسية التي أتت بعد " الثورة " و لم تعد تنطلي عليه أكاذيبها و وعودها و سفسطتها خاصة و قدّ اتضح ذلك جليّا مع قدوم هذا الوباء اللعين - الذّي عرّى ضعف الطبقة السياسية و كشف عورتها - كيف لا و قد ظهرت على أنّها غير قادرة على حماية شعبها و ذلك بتوفير اللقاح الضروري للحدّ من انتشار هذا الفيروس القاتل. إضافة على الانهيار الذي تشهده كلّ المجالات، اقتصاديا و ماليا الى درجة أضحت الدولة مهددة بعدم قدرتها على الايفاء بواجباتها تجاه هذا الشعب حتّى لا نقول على وشك اعلان افلاسها ودون أن ننسى أيضا الفساد المستشري في مفاصل الدولة سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا في غياب الإرادة الحقيقية لإيقاف زحفه ( قمح مسرطن و أرز أيضا و بقول موردة و تحمل بعض الخطورة و فضلات أجنبة و خطيرة تجتاح بلادنا و القائمة طويلة ) فضلا عن انهيار القيم و الأخلاق و انتشار الجريمة بشكل رهيب إلى جانب تربص الإرهاب باستقرار و أمن البلاد..؟ ملاحظة أخيرة تقول وأنّ "الصريح " منذ أن كانت ورقية إلى يوم النّاس هذا نبّهت استباقا إلى ما يمكن أن تؤول إليه الأمور في ظل دستور كلّف البلاد ما كلّف من مال و وقت و كان ذلك في مقال بعنوان "الدستور بداية جيّدة و لكن الطريق مازال طويلا ( فيفري 2014 ) " و في مقال آخر " هل يمكن أخلقة السياسة و ردع السياسيين " و ذلك أمام ما شهدته الساحة السياسية التونسية من انزلاقات و أيضا مقالا بعنوان " هل نحن نمرّ بمرحلة انتقالية أم انتقامية ( ماي 2013 )" و مقال رابع " كثيرون حول السلطة قليلون حول الوطن ( ديسمبر 2012 ) و أيضا " لفائدة الكراسي ضاعت أهداف الثورة ( فيفري 2013 ) " و مقالا آخر بعنوان " الطرابلسية الجدد ( 2012 ) " و غيرها من المقالات التي رصدت خطوات الثورة لتشير إلى نقاط ضعفها و تنبّه إلى خطورة نتائجها على البلاد و العباد و لكن لا صدى لما كتبنا و نبّهنا فاشهد يا تاريخ أنّنا قمنا بواجبنا كإعلام ملتزم بقضايا وطننا و أبناء شعبنا معتمدين على الموضوعية في الطرح لآنّنا لم نكن نعمل لفائدة دوائر السياسية أو أبواق دعاية لها و لم نخضع لأيّ ضغوطات أو ابتزاز .عند طرحنا.لكلّ هذه المواضيع بل كلّ ما نستحضره هو مصلحة البلاد و العباد و نحت غد أفضل للأجيال القادمة و لكن " لمن تقرأ كتابك يا داوود "...