وقعت ليبيا، بعد أن أطاحت بالنظام السابق، وأخذت تعد وتستعد لحاضر ومستقبل مزدهرين، ترفل فيهما بالحرية والديمقراطية، والازدهار، بينما يشمر أبناؤها المخلصون القادرون على سواعد الكد والجهد، لمواصلة التقدم والتطور، حتى تحتل مكانا ومكانة جديرين بها بين دول العالم، وقعت في شباك جمهرة من الدول النهمة الطامعة، من بينها دول تقول إنها أخوات شقيقات، مستعملة مختلف الوسائل، جالبة الضالين والمغرورين والمنتهزين والطامعين من أبناء ليبيا نفسها، فإذا بالفريسة في حرب أهلية، تمونها بالعتاد والسلاح والمرتزقة، تلك الدول على أعين العالم، الذي التفت إلى وجهة أخرى، كأن الأمر ليس فيه اعتداء على الحق، وعلى كل القوانين المتعامل بها دوليا. لم كل هذا؟ لأن المصلحة الخاصة تسبق كل مبدئ وقانون، عملا بمثل شعبي مفاده: "نفسي، نفسي، لا رحم الله من مات." لا غرابة في مواقف الدول الأخرى، بما فيها الكبرى القوية المدعية الدفاع عن الحق والحريات. لكن ما فعلنا نحن، وضمير الجمع يشمل دول ما يُدعى "اتحاد المغرب العربي" عديم الاتحاد الذي تعد ليبيا جزء لا يتجزأ منه وهي من مؤسسيه. لم نر ولم نسمع ولم نقرأ عن أية حركة أو نشاط فعلي، من أية دولة من الدول الأربع، إلا اجتماعات وتصريحات عديمة الفائدة والمردود، فهم منها الكثيرون أنها مجرّد تغطية، تحت مظلة عدم التدخل في شؤون ليبيا الداخلية، وإخفاء التقاعس الفاضح، عن الوقوف حقا وفعلا إلى جانب أخت وشريكة، إن كانت لا تزال تُعد وتُحسب كما نظن. إن الوضع في ليبيا وصل درجة خطيرة جلية، تبرهن على أنها هوجمت، وشبه احتلت من جيوش، ومرتزقة، ومخابرات، وجواسيس دول أجنبية عديدة، فحكاية الشؤون الداخلية والتستر بها، مردودة مرفوضة، وما هي إلا علة من لا برهان له. مثل هذا التقاعس والتخلّي، أتته الدول الأربع عندما قاسى الشعب الليبي ما قاساه، من آثار الحضر الجوي الذي سُلّط على بلادهم طوال سنوات، بينما كان بإمكان " الأخوات الشقيقات " قولا لا فعلا كسر ذلك الحضر، ودخول الأجواء الليبية شرعيا وقانونيا، لأنها جزء من الاتحاد المغاربي، فأجواؤها تعتبر داخلية لكل دول الاتحاد. فعل ذلك في نهاية المطاف، عندما تحدت إحدى الدول الإفريقية قرار الحضر، ودخلت طائراتها ليبيا وأجواءها. سهم تونس في عدم القيام بما يجب نحو ليبيا أكبر من سهم الدول الأخرى، لأنها علاوة على صلة الجيرة واحترامها، فبين تونس وليبيا صلة رحم، وصلة تاريخ مشترك متواصل جعلهما تعيشان فترات من تاريخهما تحت سلطة واحدة ونظام مشترك. أما صلة الرحم فحدث ولا حرج. عدد من أبرز المناضلين وقادة الحركة الوطنية في تونس، هم من أصل ليبي، لا يبعد تاريخه أكثر من تاريخ الاحتلال الإيطالي أي سنة 1911. فالرئيس بورقيبة رحمه الله، قال كم من مرّة أن أصل عائلته طرابلسية - حسب التسمية القديمة لليبيا – وأنا عرفت أفراد عائلة شهيرة من مصراتة تحمل لقب بورقيبة. الباهي لدغم، عائلته من مصراتة أيضا وتسمى هناك الأدهم. أذكر أني رأيت، في صباي، أبا سي الباهي، على ما أذكر أو أحد أقربائه، مرتديا " الحولي " ذلك الرداء الليبي الجميل. علي الزليطني وأخوه فتحي، هما ابنا محمد حميدة الزليطني، جدي، كان بمرتبة وزير اليوم، مسؤولا عن المواصلات في ليبيا تحت الحكم العثماني. بعد كفاح طويل ضد الاحتلال، حجزت باخرة كانت تنقله إلى إسطنبول، فاعتقل في نابولي ثم لجأ بتونس مستقرا بجزيرة جربة. عائلات لا تعد ولا تحصى تتونست وهي ليبية مثل المسلاتي والغرياني وبن كافو واليفرني والدهماني، والفزاني، والتاجوري، وغير هذه النسب والألقاب كثير. أما الذين يحملون لقب الطرابلسي، فلا يحصى لهم عد. أذكر أني نفيت، إداريا، في مستهل الخمسينات بقرية عين طبرنق قرب قرنبالية، فعرفت أغلبية السكان هناك وكانوا يحملون جميعا لقب أو نسبة طرابلسي. لما سألت مستفسرا، قيل لي بأن عائلاتهم نزحت تحت الضغط الاستعماري، فاستفاد أعضاؤها من مرسوم أصدره الباي يومئذ، يقضي بأن أي ليبي يعبر الحدود هو تونسي، فحال بذلك دون إرجاع السلطات الفرنسية أي لاجئ من حيث أتى. فبقوا واستقروا وكان أكثرهم يعمل في الزراعة والفلاحة، مالكا أو عاملا. مثل هذا نجده بقفصة والمناجم، حيث وجد اللاجئون العمل والاستقرار. عاد بعضهم بعد استقلال ليبيا وازدهارها فقوبلوا بأقل ترحاب مما يقابل به التونسي أصلا. قد يعتذر من يبحث عن تعلة وهروب من الحقيقة، بما الذي تستطيع فعله تونس أو غيرها في هذا الشأن؟ يستطيع، من أراد وأخلص وعزم، فعل الكثير. الحوار، والإقناع، واللوم، بالطرق الدبلوماسية. الضغط والمساومة وحتى التهديد، عن طريق الصلات الاقتصادية والمصالح المتبادلة. ثمّ إن ليبيا دولة ذات سيادة، عضو بكامل الحقوق والواجبات بمنظمة الأممالمتحدة، وبجميع مؤسساتها وفروعها، فليس من الصعب تقديم ما يفيد ويستحين من لوائح واقتراحات تغير القرارات الخاطئة التي اتخذت مثل حضر دخول السلاح، بينما أمطِرت البلاد جوا وبحرا وأرضا بكل أنواع الأسلحة حتى أصبحت تباع في الشوارع والأسواق. كان من الممكن أيضا، عن طريق هذه المنظمة العالمية وغيرها، كمنظمة حقوق الإنسان، وحقوق الطفل والمرأة، وغيرها، تقديم الشكايات والإدانات، جماعيا، بعد إقناع الدول الصديقة ومحبة العدل والحق والسلم، واتخاذ الخطوات الضرورية، لا باسم الحق والقانون، وردع المعتدي وحماية المعتدى عليه فحسب، بل بحق ردء الخطر عن المنطقة بأكملها، وما يمكن أن يسببه تسرّب القلاقل خارج التراب الليبي، وهو ما كاد يتحقق لولا سرعة تدخل الجيش التونسي وقوات الأمن بالسرعة والفاعلية اللازمتين. ليست هذه سوى أمثلة لما هو في مقدور من يريد الدفاع عن نفسه وعن جاره، لأن إمكانيات التحرك كثيرة لا يعرفها سوى الماسكين بمقاليد الأمور والراسخين في العلم. إن التقصير، والإخلال بالواجب، وإهمال الحذر من الأخطار، والتقاعس الناتج عن ذلك غير مفهوم ولا هو واضح جلي. إن ليبيا، وهي لا تزال في طور الإنشاء، ولم تتخلص بعد كلية من المحتلين العسكريين، بريطانيين وفرنسيين علاوة على بقايا الإيطاليين، قدّمت الكثير، معرضة استقلالها الطري لخطر بل أخطار كبيرة، لكل من تونس والجزائر، ولم تبخل قط بما اعتبرته دائما واجبا يكاد يكون مقدسا لمؤازرة ونجدة والوقوف إلى جانب أي بلد من بلدان الأخوة في الدين والعروبة والإنسانية. أختم بمثل شعبي شهير قديم، من أمثلة هذا البلد، بلد هجرتي، يقول: " إذا رأيت لحية جارك تُحلَق، أبلل لحيتك وانتظر." (كتِب هذا المقال في شهر فبراير، يوم ذكرى الانتفاضة الليبية بحثا وأملا في التغيير لما أحسن، أي قبل أن تتدخل جهارا السيدة ستيفاني وليامز، التي يبدو أنها وصلت إلى حل مناسب حاليا)..