أصدرت الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بتونس العاصمة المختصة في مكافحة الإرهاب يوم الثلاثاء 2 مارس الجاري ستة أحكام بالسجن مدى الحياة وأحكاما أخرى تراوحت بين سنتين و ثمانين سنة سجنا في حق عدد من المتهمين في خمس قضايا إرهابية متعلقة أساسا بعمليات التسفير نحو بؤر التوتر سوريا وليبيا والعراق وبجرائم أخرى شملت عناصر قيادية في تنظيمات إرهابية. هذه الأحكام الهامة التي صدرت عن القضاء التونسي في ملف من أخطر وأهم الملفات الحارقة التي تشغل الرأي العام في الداخل والخارج والتي ينتظرها الجميع لمعرفة حقيقة الإرهاب في تونس ومعرفة من يقف وراء ما عرف بعمليات التجنيد التي حصلت بعد الثورة والتي تورط فيها الكثير من الشباب التونسي الذي أرسل إلى القتال فيما عرف ببؤر التوتر في سورية وليبيا في حروب لا تعنيه ولا تهمه ولتحميل المسؤولية للجهات التي تقف وراءها والضالعة في تسهيل عمليات تنفل هؤلاء الشباب المقاتلين، هذه الأحكام القضائية قد تم مع كل أسف التعتيم عليها وتجاهلها جزء كبير من الإعلام التونسي الذي على يبدو تفاجأ بنتيجة الأحكام القضائية التي لم تورط الطرف السياسي والجهة التي اشتغل لسنوات على اتهامها والتي خصص لها برامج تلفزية ومقالات صحفية تكاد تكون يومية لهرسلتها بخطاب إعلامي موجه من أجل صناعة رأي عام لا ينظر لهذه القضية إلا من زاوية واحدة هي زاوية هذا الإعلام المؤدلج. إن الملفت في الموضوع إلى جانب تغييب هذه الأحكام من التغطية الإعلامية أن يتم التكتم على أسماء الأشخاص المورطة في عمليات التسفير وعدم التعرف على الجهات الضالعة فيه والتي أصدر بشأنها القضاء أحكاما تصل إلى حد السجن المؤبد ومع ذلك لم نر حرصا على إظهار الحقيقة وكل ما حصل هو تصريح وحيد جاء على لسان نائب رئيس القطب القضائي المكلف بالإرهاب وحتى وكالة تونس إفريقيا للأنباء فهي الأخرى قد تعرضت إلى الخبر عرضيا ودون الدخول في تفاصيل معطياته ما يوحي بأن هناك نية مبيتة للتكتم عن المعلومة و توجه واضح نحو التعتيم عن هذه الأحكام إعلاميا وعدم نشرها للعموم خاصة وأن الإعلام لم يواكب الحدث ولم يخصص له مساحة تليق بقيمته علما وأن ملف التسفير يعد أحد أخطر الملفات التي تشغل الرأي العام مع ملف الاغتيالات السياسية التي حصلت في سنة 2012 والتي كان سببا رئيسيا في تحويل وجهة الثورة وسقوط حكومتين منتخبتين في زمن حكم الترويكا وكادت أن تعصف بكل المسار الانتقالي وتذهب بالبلاد نحو المجهول بعد أن هددت المعارضة وقتها بالحرب الأهلية وكانت ترتب لعملية انقلابية بتواطؤ مع جهات أجنبية وبتنسيق مع دول خليجية في محاولة لاستنساخ السيناريو المصري. وعلى هذا يكون ملف التسفير و ملف الاغتيالات السياسية ملفين يكتسيان أهمية بالغة في تاريخ تونس المعاصر وفي سردية الثورة التونسية ومعرفة الحقيقة من أجل تنقية تاريخنا الراهن وأحداث الثورة من كل تشويه ومغالطات ومحاولات التلاعب واستراتيجيات توجيه الحقيقة نحو وجهات لا تخدم إلا أجندات جهات سياسية ليست من مصلحتها نجاح الثورة أو جهات ليس من مصلحتها أن تخسر مواقعها وتخرج من المشهد السياسي دون مكاسب و ترك الميدان لخصمها السياسي الذي تفوق عليها وهزمها من خلال العملية الديمقراطية وصناديق الاقتراع . وحتى نفهم لماذا كل هذا التجاهل من إعلامنا للحقائق الأخيرة التي ظهرت و كل هذا التكتم الإعلامي عن الأحكام القضائية التي اتهمت جهات ليس لها علاقة بحكومة الترويكا واستبعدت الحكومات التي جاءت بعد الثورة والأحزاب التي وقفت وراءها علينا أن نعود قليلا إلى الوراء وننشط الذاكرة ونتذكر ماذا حصل مع النائبة ليلى الشتاوي عن حزب نداء تونس الذي كان يقود الائتلاف الحاكم بعد انتخابات سنة 2014 والتي كانت وقتها مكلفة بملف الإرهاب وتشغل منصب رئيسة اللجنة البرلمانية التونسية للتحقيق في تجنيد وتسفير التونسيين الذين التحقوا بالجماعات الجهادية أو ما يعرف بالجماعات المقاتلة في كل من سوريا وليبيا هذه النائبة بعد أن أتمت تحقيقها في ملف التسفير وانتهت إلى نتائج غير متوقعة و غير مرغوب فيها وتوصلت إلى حقيقة تورط جهات سياسية غير منتظرة ووقفت على أن التسفير وراءه أشخاص وجهات من خارج دائرة الحكم ومن خارج دائرة الترويكا يتم إقالتها من رئاسة اللجنة ويتم ابعادها كذلك من لجنة الأمن والدفاع بالبرلمان ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تم طردها من حزب نداء تونس وقد أفادت ليلى الشتاوي في توضيح لما حصل لها من إقالة من لجنة التحقيق في ملف التسفير وكل الإقالات الأخرى أنها جاءت بعد المضايقات الكثيرة التي تعرضت لها وذلك بسب كشفها عن حقائق غير مرغوب فيها وخاصة كشفها عن حقائق تورط جهات وتزعج أطرافا تعمدت عدم ذكر أسمائها أو تحديدها ليبقى إلى اليوم التقرير الذي أعدته غير منشور ولا يعلم به أحد والحال أن ليلى الشتاوي لو واصلت على رأس اللجنة لكانت قد نشرت تقريرها البرلماني الذي يدين جهات وأشخاص من خارج دائرة الترويكا. اليوم بعد صدور الأحكام القضائية عن قطب الإرهاب وإدانة جهات باتت معلومة ولكن يتم التستر عن إخراجها للعلن وللرأي العام هناك حديث مكثف عن تورط أفراد في أحزاب معينة وهي اليوم تعطل المطلب الذي تقدمت به ليلى الشتاوي إلى الحكومة السورية لتقديم كل المعطيات المتوفرة لديها عن من كان يقف وراء الجهات الضالعة في التسفير بما يؤكد كل الشكوك التي أصبحت اليوم حقيقة من أن أطرافا ربما تورطت في عمليات التجنيد وتسهيل تسفير الشباب إلى بؤر القتال . وبعد فإن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو هل فعلا كان الاعلام التونسي نزيها ومحايدا في تناوله لملف الإرهاب ؟ وهل كان موضوعيا وحرفيا في تعاطيه مع كل الأحداث المؤثرة ومنها ملف التسفير ؟ أم أن جزءا كبيرا من الإعلام هو نفسه مورط في هذه القضايا بتعمد إلهاء الناس بقضايا هامشية وتعمده تحويل وجهة الجمهور وتكوين رأي عام على المقاس وهو اليوم مورط في إخفاء الحقائق وتعمده تجاهل ما ينتظره الشعب من حقائق بخصوص أخطر ملفين حولتا وجهة الثورة التونسية وهما الاغتيالات السياسية وعمليات التسفير.