.. وأنا مستلقي على فراشي أستعد للنوم وأستعرض ما بقي في ذهني من حكايات عمّ ابراهيم العيّاط وعذاباته.. وما تعرض له من أتعاب ومصاعب وتعذيب وانتقام وحشي بدعوى أنه من أتباع صالح بن يوسف استوقفني قوله الذي حدد لي فيه صورة الخلاف البورڤيبي اليوسفي وكيف ان بورقيبة استثمر الخلاف لمصلحته الشخصية وتدعيم زعامته.. عندئذ تذكرت أنني سألته: ولكن يا عمّ ابراهيم هل تعرفت على صالح بن يوسف وهل كانت لك علاقة مباشرة معه.. فقال لي: والله العظيم لم أره في حياتي ولو مرة واحدة.. نعم.. رأيته في بعض الصور التي تنشرها الصحف التي كنت أدمن على قراءتها.. أما أني هل رأيته وجها لوجه فلم يحدث.. فقلت: كيف إذن تغامر بنفسك وكرامتك وها قد ضيّعت عمرك من أجل رجل لا تعرفه.. ولا تكاد تعرف عنه شيئا.. كيف؟ قال بمرارة وحسرة: يا سيدي لست أنا الأول أو الأخير الذي يذهب ضحية الإعجاب ببعض الأفكار التي يجسدها من يدعون البطولة فيدفعون الثمن غاليا ولا يجنون في النهاية شيئا.. إن أمثالي يصنعون ببراءتهم وصدقهم وعفويتهم وربما بطيبتهم الأبطال الذين سرعان ما ينقلبون الى جلادين.. وطغاة.. وجبابرة.. إن أمثالي يتحوّلون الى مسجونين في سجن كبير.. هم الذين صنعوا سجانيه وجلاديه.. وعندما أخذت أستعرض ما سمعته من عمّ ابراهيم واستغرقتني ذكرياته وآلامه وما عاشه ومعاناته جافاني النوم.. وتقلبت في فراشي.. واستعطفت النوم ولكن دون فائدة.. إن صورة عمّ ابراهيم البائس التعبان لا تريد أن تفارق مخيّلتي.. لقد طغت شخصيته عليّ حتى صرت أتصوّر أنه أبي أو أخي الأكبر.. بل صرت أشعر بذلك شعورا كبيرا.. وكنت في بعض الأحيان أتخيّل أنه أبي الضائع الذي كنت أبحث عنه.. وأنا كنت دائما أتمنى لو أن أبي كان بطلا قويا.. الى أن تمتّنت العلاقة بيني وبين عمّ ابراهيم وأحسست بمعاناته.. وتعاطفت معه.. ولم أصدّق أن أستاذ فلسفة يحدث له ما حدث.. ومتى؟.. يحدث له في بداية الاستقلال الذي كان التوانسة جميعا يحلمون به.. وناضلوا من أجله.. وكانوا يعتقدون أنه ما أن يحل الاستقلال حتى تحلّ معه أسباب الكرامة والحرية والعزّة والرفاهية والحياة الشريفة الكريمة.. قال لي عمّ ابراهيم: لما كثرت حوادث الانتقام والعقاب والملاحقة والمطاردة و«الطرايح» في عهد الخلاف البورڤيبي اليوسفي سألني ذات يوم بائع بسيط يشتغل عند تاجر كبير للأقمشة في المدينة العتيقة.. سألني قائلا: «بربي يا سي ابراهيم انت أستاذ ومتعلّم ما شاء الله عليك ومطّلع وتعرف خير مني نحب نعرف منك وقتاش زعمة باش يوفى الاستقلال؟».. استغربت قوله هذا وكظمت غيضي وقلت له بغضب ولكنني كأنني ألومه: كيف تريد أن ينتهي الاستقلال بعد أن دفعنا ثمنه غاليا من دماء الشهداء ومن العذاب والصبر والكثير من التضحيات.. فنظر إليّ بدهشة ولم يصدق أنني أتكلم معه بجدية وظنّ أنني غير جاد في ما أقول فقال لي: «بالله يزيني منّك يا سي ابراهيم.. يظهرلي فيك ماكش اتبع في اللي صاير في البلاد من اللي خذينا الاستقلال».. أجبته بسرعة وقلت له: إذن.. نوّرني.. ما الذي يجري في البلاد.. قال بكل ثقة في نفسه: «من اللي خذينا الاستقلال دخلنا بعضنا.. ولّينا جماعة بورڤيبة.. وجماعة بن يوسف.. وكثروا القوادة بيناتنا.. وما عادش تعرف اشكون الصبّاب.. واشكون القوّاد.. واشكون المنافق.. واشكون اللي يحبّ يحرقك باش يطلع على أكتافك.. هذاكة علاش سألتك وقتلك وقتاش يوفى الاستقلال ونرجعو كيف ما كنا وخيّان.. والأمور واضحة.. التونسي تونسي.. والفرنساوي فرنساوي.. هوما مع بعضهم.. واحنا مع بعضنا».. قال عمّ ابراهيم: استمعت الى الرجل البسيط بذهول ونظرت اليه وكأنني أتأمل فيه وفي كلامه الذي فعل فيّ فعله وكشف لي عن حقيقة لم أكن أقدرها حق قدرها ولم أعط لكلامه أهمية حقيقية إلاّ بعد «طريحة صبّاط الظلام».. بعدها أدركت أهمية وحقيقة كلام هذا البائع المتواضع الذي لا يكاد يشعر بوجوده أحد في السوق فهو رجل من ايها الناس يعيش على باب الله ويبحث عن رزقه ولا يأكل إلا مرة واحدة في اليوم.. قال لي عم ابراهيم: صورة هذا الرجل بعد الذي تعرضت له بسبب تعاطفي مع صالح بن يوسف ارتسمت في ذاكرتي واصبحت مثل الوشم.. وقد رجعت للسوق أبحث عند بعد الذي حدث لي في «صباط الظلام» وايقافي من طرف الشرطة لأعترف له بمشروعية سؤاله حول متى سينتهي الاستقلال ولكنني لم أجده والغريب أنني كلما سألت عنه أحدهم أنكر معرفته به ويؤكد لي أن لا صلة ربطته به.. حتى التاجر الذي كان يشتغل عنده ويعرفني جيدا أنكر وقال لي وهو يقسم بأغلظ الإيمان أنه لم يكن يشتغل عنده.. ولم تكن له معه أي علاقة.. وأصبح عندي ذلك الرجل واسمه المعروف به في السوق مرزوق وهو أسمر اللون ويميل قليلا الى السواد ويبدو لي أنه من المرازيق وفي لهجته شيء من لهجة ڤبلي كاللغز الغامض.. حاولت أن أطرد عمّ ابراهيم من مخيلتي فلقد تقدمت الساعة كثيرا وتجاوزت منتصف الليل لكي أنام وأستريح قليلا بعد يوم طويل وشاق من العمل المضني في المزرعة ولكن دون فائدة.. إن الأرق نزل عليّ ولم يعد يريد أن يتركني.. وأمضيت الليل إلى الفجر وأنا مشغول البال بالعمّ مرزوق الرجل البسيط البائس الذي يتكلّم بعفوية وينظر الى الأمور نظرة بسيطة ولا يتفلسف مثلما يفعل الزعماء مع شعوبهم ومثلما يتصرّف «بزناسة» السياسة مع عامة القوم.. لقد أحببت العمّ مرزوق من خلال ما حكاه لي عنه عمّ إبراهيم.. فهو من صميم الشعب الذي راهن على الاستقلال وعاش ينتظره وبنى عليه أحلامه ولما جاء الاستقلال اكتشف أن الدنيا هي الدنيا.. وأن الأقوياء هم الأقوياء.. وأن الضعفاء هم الضعفاء.. وأن القوادة زاد عددهم وقوي انتاجهم.. ولكنني بقيت أتساءل أين يمكن أن اختفى عمّ مرزوق..؟ وإلى أين ذهب..؟ وهل «هجّ» من البلاد..؟ ثم ما حيّرني أن كل الذين سألهم عمّ ابراهيم عنه أنكروا وجوده.. وقالوا أنهم لم يعرفوه وهو ابن السوق الذي عاش معهم السنوات الطوال وعاشرهم وأكل معهم «الماء والملح».. لقد تحوّل إلى «فصّ ملح وذاب»!.. وهذا لغز حيّرني وسألحّ على عمّ ابراهيم أن «يفرك لي رمانته».. ولكن! حذار من السكرة! طيلة يوم أمس أمضيته وأنا أستمع الى شبه تعليق واحد يتكرر على ما كتبته أمس بعنوان «حب إيه.. وانتخابات إيه» وكنت قلت في ما قلت في هذا الذي كتبت ان الناس نفضت أيديها من الانتخابات ولم يعد أمرها يهمّها و«فدّت» من الكلام بينما مشاكلها الحقيقية تزداد ثقلا.. والأعباء العائلية تضغط عليها ضغطا شديدا وقاسيا.. هذا التعليق الذي جاءني إما مباشرة وإما بواسطة الهاتف أسمعه على لسان كل من يخاطبني وبنفس العبارات تقريبا وهو يقول: إن ما كتبته أمس كأنك كتبته عني أنا شخصيا فمن حكى لك عن وضعي حتى تكتب عني بتلك الدقة وتقدم صورة مطابقة للأصل عن وضعي.. كنت أستمع الى هذا التعليق وأنا مقدر لظروف الناس فكل واحد منهم يعتقد في قرارة نفسه أنه هو الوحيد الذي يعاني ويكابد ويتحمّل بينما الواقع يقول وخصوصا في المرحلة الحالية أننا جميعا الحال حال الله ونعاني ولكن بدرجات متفاوتة.. فالبلاد ويجب أن نقولها بصراحة في أزمة مسّت كل القطاعات والمجالات وكل حديث عن نفي الأزمة وإطلاق الوعود ومخاطبة الناس بالكلام المعسول أعتبره أنا شخصيا مغالطة صريحة وغير صادقة ولن تزيد الأوضاع إلا صعوبة وتعقيدا.. نعم.. التفاؤل مطلوب.. نعم.. للبلاد رجالها.. وكفاءاتها.. نعم.. تونس تتمتع بقدرات وإمكانيات ووسائل وذكاء.. نعم.. كل ذلك صحيح مائة بالمائة.. ولكن لا يجب أن نبني قصورا فوق الرمال.. ونحلم كثيرا.. ونعد بعضنا البعض بوعود لا يستطيع أوباما نفسه أن يعد بها الشعب الأمريكي لأنه عاجز عن تحقيقها.. يجب أن نصارح بعضنا البعض.. لكي نفهم حقيقة وضعنا.. وحقيقة المصاعب التي تواجهنا.. وما سنواجهه.. في المستقبل القريب من هزّات حتى نكون على بيّنة ونستعد ونتعامل مع الحقائق بجدية ولا نغرق في بحر من التفاؤل الكاذب فنسكر ثم عندما تطير «السكرة» نجد أن الواقع لم يتغيّر وازداد صعوبة فيصيبنا الإحباط ونجد أنفسنا وجها لوجه مع صدمة قوية المفعول قد تتطور لا قدر الله الى كارثة.. إن المواطن اليوم «فادد» من أشياء كثيرة وعلى رأسها أنه أصبح «يشهق ما يلحق».. وأن معيشته اليومية العادية في حد ذاتها أصبحت همّا يوميا وصداعا مزمنا في رأسه.. وأؤكد لكم أن «الفدّة» تتسع يوما بعد يوم وتتكرر في اليوم الواحد عشرات المرات وهي «فدّة» تضغط تقريبا على كل مواطن.. تضغط عليه مباشرة بعد كل رأس شهر.. وتضغط عليه اذا وقف أمام الخضار أو الجزار أو العطار.. تضغط عليه كلما أدخل يده الى جيبه.. وتضغط عليه إذا طلبه أحد أولاده في طلب ما.. واللهم اجعل عواقب هذه «الفدّة» سليمة.. ولا تجعلنا نسكر ثم (توفى السكرة ويحضرو المداينية)..