بعد المحنة الطويلة التي عرفتها بلادنا من جرّاء الديكتاتورية العنيفة التي تسلّطت عليها، واستحوذت من خلالها على العقول والأبدان والوجدان، نعيش اليوم الفترة التي نتنعّم فيها بحرية الفكر والتعبير بفضل الثورة العظيمة، وعلينا الابتهاج بالسير رويدا رويدا نحو ارساء نظام انتخابي ديمقراطي، وإن كان ذلك بصعوبة. بهذه المقدمة المفعمة بمعاني التفاؤل، استهلّ الدكتور عياض بن عاشور رئيس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي مداخلته التي ألقاها بمقرّ الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، بحضور الرئيسة المؤقتة للاتحاد وداد بوشماوي، وجمع من رؤساء الاتحادات والغرف الجهوية. وأثار خلالها جملة من المواضيع المتمحورة أساسا حول ظروف ومراحل تكوين الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، وكيفية قبوله بمهمة ترأسها، من أجل العمل على خدمة الوطن وإنجاز منظومة قانونية جديدة تقطع مع المنظومة القديمة التي لوّثها النظام الديكتاتوري بممارسات الرشوة والفساد والتهديد والوعيد والتعذيب، بالاضافة الى موضوع تأجيل انتخابات المجلس التأسيسي، والتأكيد على عدم ملاحقة من ساندوا الديكتاتورية وتجنّب التشهير بهم، والدعوة الى التضامن والالتفاف والتآزر بين مختلف مكونات المجتمع للخروج بالبلاد من مرحلة الخطر.. لا أحبّ التحزّب والعمل السياسي «لم أتعاط السياسة في حياتي أبدا، ولا أحبّ التحزّب.. كما أن من معي من الخبراء في القانون لم يتورطوا بمحنة السياسة قطّ».. هي من الجمل الاعتراضية التفسيرية التي ساقها بن عاشور في كلمته، حين تم التعريج على ملابسات تسلّم مهمة تسيير لجنة الإصلاح السياسي، قبل دخول مجلس حماية الثورة على الخطّ، بعقلية دفاعية تفتقد الى التعامل الديمقراطي والهدوء والمرونة. بن عاشور أوضح في الأثناء، أنه والخبراء الأعضاء، وجدوا أنفسهم أمام برلمان بأعضاء يحملون عقلية معيّنة، وهم جديرون بالاحترام حسب قوله، ولكن قد تمّت اضاعة الكثير من الوقت في ظل مجلس متنوع من حيث النزعات الفكرية والسياسية والايديولوجية، وخلص الى القول أن كل طرف مسؤول عن تأجيل انتخابات المجلس التأسيسي، ناهيك مع وجود أسباب موضوعية لذلك متمثلة بالخصوص في ضرورة إعداد قائمات انتخابية صحيحة للناخبين، والأخذ بعين الاعتبار مسألة تسجيل 3 مليون تونسي لم تدرج أسماؤهم في القائمة الانتخابية، إضافة الى التحضيرات الفنية واللوجيستية، من تكوين ل 4500 عون، وما يلزم في المقابل للقيام بهذه الخطوة، من استقطاب 500 مكوّن، وكذلك تنظيم مكاتب الاقتراع التي هي في حدود 8 آلاف مكتب اقتراع (13 ألف سابقا)، مع تكليف 5 أعوان على كل مكتب، ليصبح المجموع بعملية حسابية بسيطة 40 ألف عون لإجراء العملية الانتخابية. وفي السياق ذاته، كشف رئيس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، أنه من الأهمية بمكان استغلال الثروة البشرية العارفة بدواليب العملية الانتخابية وذات التجربة في المجال. وبخصوص اتهام الهيئة التي يرأسها بالوقوف وراء تأجيل الانتخابات، بيّن أن التهمة تلفيقية، وهي متأتية من بعض رجال القانون العابثين بالقانون والساعين الى إثارة الفتن، أضف الى ذلك أنه ثمة من يتهم الهيئة العليا المستقلة للانتخابات من جهة والحكومة من جهة أخرى بهذا التأجيل. وجدد بن عاشور القول أنه لا يتّهم أحدا بتأجيل انتخابات المجلس التأسيسي، وفي المقابل لا يرى مبررا للغة الاستقصائية، فالوظيفة الأهمّ في الظرف الحالي، هي تهدئة الرأي العام حسب قوله، بالنظر الى صعوبة المرحلة الانتقالية. العقلية الشعبية ترفض رائحة دستور 59 الضغوطات الاجتماعية كثيرة، والمخاطر موجودة، ولكن لا يمكن تجاوز هذا المأزق، إلا بالتضامن لأن الوضع الأمني هشّ، وليس بمقدور الجيش تجاوز المطلوب منه، لا سيما مع تفجّر الوضع في المتلوي وقفصة، علاوة على الوضع بالحدود التونسية الليبية. وحول مقترح الاستفتاء على دستور 59 المنقح، بيّن عياض بن عاشور أن التنقيح يتطلب وقتا طويلا، ثم إن مسألة الاستفتاء تحيل في رمزيتها ولدى العقلية الشعبية، الى رائحة دستور 59 التي لا يريد الشعب العودة الى شمّّها، منتهيا الى القول أن الاستفتاء لا يصلح بالبلاد في المرحلة الحالية، رغم احترام الداعين لهذا المقترح. وعاد ليبدي تحفّظه الشديد من مسألة الاستفتاء، في حين أنه تحمّس كثيرا لمبادرة انعقاد مؤتمر يجمع بين قيادات منظمة الأعراف وقيادات اتحاد الشغل، وذلك في القريب العاجل للخروج من المأزق ومن زنقة الخطر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. ونادى بن عاشور الى ضرورة إعادة النظر وبصورة جذرية، في النظام الجبائي الذي وصفه بكونه غير مستقيم إذ لا بدّ من إقامة العدل الاجتماعي من أجل تحسين مستوى الطبقة الدنيا.