من المسائل الجوهرية التي خاضت فيها الطبقة المثقفة قديما و مازالت إلى اليوم تحظى بنفس الوهج مسألة الفصل بين الدين و السياسية خاصة مع ظهور الإسلام السياسي في تونس بعد 14 جانفي 2011 و الذي يحتل مرتبة متقدّمة مع الذين يسيّرون شؤون البلاد. و نظرا لأهمية الموضوع ارتأينا التحدث إلى الأستاذ محمود بن جماعة المتفقد العام في التربية اختصاص فلسفة (1) حتى يمدّنا بوجهة نظره في هذا الموضوع فأفادنا مشكورا بما يلي: "في رأي اليساري أن الفصل بين الدين والسياسة هو من مستلزمات فلسفة الحريات وحقوق الإنسان، إذ تشترط حرية التفكير والمعتقد مهما كان- دينيا أو فلسفيا-أن لا تتدخل السلطة السياسية لفرض دين معين على المواطنين أو قراءة معينة للدين، وأن يكون الدين في منأى عن الصراعات السياسية ،أي عن الصراعات الدنيوية التي تخضع بالضرورة للمصالح الفردية والفئوية. ويرتبط بهذه المسألة الجدل القائم حول الهوية العربية الإسلامية بين تصورين اثنين: التصور الأول لا ينكر أهمية البعد العربي الإسلامي في تحديد الهوية الجمعية، ولكنه ينزلها ضمن منظور تاريخي انتروبولوجي بحيث تتشكل الهوية وفق مسار متجدد قابل للاغتناء بمختلف الروافد الحضارية،منفتح على الحداثة بما قدمته من مكاسب للبشرية قاطبة.وهي(أي الهوية الجمعية) غير قسرية ولا قاهرة بالنسبة إلى الأفراد،على اعتبار أن الهويات الفردية لا تتماهى بالضرورة مع الهوية الجمعية . فالهوية الفردية تقوم على إعادة تملك ما اكتسبه الفرد من البيئة الاجتماعية والتجربة الخاصة.ولا يخفى أن تشكل الهوية الفردية يتضمن تأثيرا متبادلا بين الفرد والبيئة بحيث تتدخل في هذا المسار طموحات الفرد و ما قد يتخذه من مسافة نقدية بينه وبين المؤثرات من حوله وما يتوفر لديه من حرية في الاختيار. ومؤدى هذا التصور لدى الإنسان اليساري من منظور حضاري وفلسفي وسياسي أيضا،أن لا سبيل إلى دولة دينية تعيد إنتاج الاستبداد بشكل آخر، بالاستناد إلى مقولة الهوية الجمعية وتوظيفها سياسيا. أما التصور الثاني، فينطلق من التسليم بالهوية الجمعية الثابتة عبر التاريخ، بما هي هوية عربية إسلامية ليجعل منها ذريعة لقيام دولة دينية تلزم الأفراد كما الجماعات بثوابتها ضمن هذا المنظور، وذلك من خلال التشريع وأنماط السلوك وتقنين الحياة العامة والعلاقات داخل الأسرة من زواج وميراث... وبين هذا التصور وذاك،نجد مواقف تذهب إما إلى نسف فكرة الهوية على اعتبارها إيديولوجية بحتة تخفي وراءها مطامع سياسية أو اعتبارها مزيجا غير ثابت لتأثيرات حضارية متلاحقة، وإما إلى الجمع بين القول بالهوية العربية الإسلامية والقبول ببعض مكاسب الحداثة، خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة كما نصت عليها مجلة الأحوال الشخصية (1956) ، مع الإحالة إلى المرجعية الإسلامية التي تظل ركيزة هذا الموقف الأخير. و في الواقع ، يصعب الإمساك بحقيقة هذا الموقف بالذات لما يعتري مختلف التصريحات المعبرة عنه من اختلاف وازدواجية لعل مردهما تجاذبات في الرؤى داخل هذا الفريق وبينه وبين القاعدة الحزبية الملتفة حوله، ثم ما يستدعيه الوضع من حسابات في علاقة بالقوى السياسية الأخرى والجمهور المتلقي للخطاب. ولا يغرنا اتفاق العديد من القوى السياسية على الفصل الأول من دستور 1959 الذي ينص على أن تونس دولة دينها الإسلام ولغتها العربية. ذلك أنه قابل للتأويل في اتجاهات متباينة حتى أنه في نظر البعض لا يحتمل سوى تأويل واحد، وهو الإقرار بالدولة الدينية.على أن الموقف اليساري الداعي إلى الفصل بين الدين و الدولة يجد ما يدعمه في بيانات الكثير من الأحزاب، وهو ما ينبئ بأنه بالنسبة إلى أوساط واسعة من النخب السياسية على الأقل، يبدو هذا المطلب أمرا لا مناص منه إذا أردنا بناء نظام ديمقراطي قائم على مبدأ سيادة الشعب و على الحريات وحقوق الإنسان." و في موضوع متصل حاولنا أن نتعرف أيضا على مفهوم الاستبداد لدى محاورنا فأجابنا مشكورا بالتالي: " الاستبداد يتخذ أشكالا مختلفة:يمكن أن يتلبس بالدين أو يمارس باسم إيديولوجيا دنيوية مهما كانت.الدين عقيدة تقوم على الإيمان.أما الاستبداد، فهو نظام سياسي تنتفي فيه الحريات ويعم الجور والتعسف. إنه يفرض سلطانه الغاشم بالقوة والايديولوجيا، دينية كانت أو غير دينية. هذا ولا تعارض بين الإسلام و الديمقراطية بناء على قراءة مقاصدية تبرز قيم الحرية والعدل والمساواة."لا إكراه في الدين" :مبدأ يؤكد حرية المعتقد ويعتبره العديد من المفكرين أساسيا من هذا المنظور للتعايش بين الناس وفي العلاقة بين الحاكم والمحكوم.ثم إن الأدلة العقلية والنقلية تثبت أن الإنسان كائن حر بحيث يصبح القول بالجبرية )أي بأن الإنسان كائن مسخر) قولا متهافتا يتعارض في آن واحد مع الدين والعقل.إن مذهب الجبرية المنتشر إلى الآن في بعض الأوساط يحبط العزائم ويشل قدرة الإنسان.كما يستغل لتبرير الخصاصة والفقر والتفاوت الاجتماعي، و لدعم الاستبداد وتأبيد خنوع "الرعية". فليس ثمة قراءة واحدة للدين،بل هنالك قراءات مختلفة للمدونة الدينية تعكس في الغالب مواقف مختلفة من الصراعات السياسية والإيديولوجية القائمة.وتتدخل المصالح السلطوية والاقتصادية لتغليب القراءة المتناغمة معها بالدعاية والنشر والمال.ولنا مثال بارز في ما تلقاه الوهابية من حشد للأتباع بواسطة الدعاة والقنوات التلفزية وتدفق البتر ودولار." (1) الأستاذ محمود بن جماعة مترجم وشاعر. كتب العديد من المقالات في الفلسفة والتربية. عرّب عددا من المؤلفات صدر من بينها عن دار التنوير "أجمل قصة في تاريخ الفلسفة" (لوك فيري Luc Ferry، 2015) و"قصص في الحب" (جوليا كريستيفا، 2017). كتب حوالي خمسمائة قصيدة بالفرنسية وقرابة ستين قصيدة بالعربية، كما ترجم الكثير من الأشعار إلى هذا أو ذاك من اللسانين، لاسيما كلمات البعض من أغاني أم كلثوم. يعتزم الآن إصدار مجموعة شعرية أولى تشتمل على زهاء مائة قصيدة في شتى الأغراض: الحب، الصداقة، التحرر، الطبيعة، الفن... أما على صعيد الترجمة، فالجدير بالإشارة أن المركز القومي للترجمة يعدّ الآن طبْع كتاب في تاريخ العلوم قام بتعريبه الأستاذ محمود بن جماعة، وهو من تأليف الباحث الفرنسي ميشال ريفال Michel Rival ، بعنوان: "التجارب العلمية الكبرى". وكما يدل عليه العنوان، تغطي هذه الدراسة الميسّرة أهم الاكتشافات والمصطلحات العلمية من العصر القديم إلى الآن.