أرجوكم وأستسمحكم... وأطلب منكم أن «تأخذوني على قد عقلي البسيط «المزمّر» إن عقلي هذا المخروب يقول لي إنه يجب علينا في هذه الأيام أن لانسمح لكائن من يكون بالتدخل في شؤوننا الداخلية وأن لانسمح بأن يركب الثورة... وبأن يدخل على الخطّ... وبأن يتحوّل شيئا فشيئا إلى طرف من أطراف اللعبة! وعقلي المتواضع يقول لي إن عدم تدخل الشقيق أو الصديق أو الأجنبي في ما يجري هذه الأيام في بلادنا يجب أن يكون بمثابة خط أحمر. وعقلي المزمّر يقول لي أيضا: إن المسألة ستبلغ مبلغ النكبة إذا أصبحنا نحن بأنفسنا نعمل على تمهيد الطريق وفتح الباب أما هذا أو ذاك من الخارج ونطلب منه أن يقدم لنا «النصائح»... و«الفتاوى»... و«الحلول». هذه مصيبة ستجر علينا مصائب أعظم وأفدح وأكبر. المفروض أن «الشكشوكة شكشوكتنا»... و«العشاء عشاءنا»...«والدار دارنا»... فكيف نسمح لزيد أو عمر بأن يضع يده في شكشوكتنا فيحرقها. ومرّة أخرى... أطلب منكم السماح... فعقلي قد لايكون في أحسن حالاته. اتركوا الأمر لأفذاذ وعباقرة تونس أنا لا أعتقد مطلقا بأن هناك تونسيا لايحبّ بلاده أو يسعى إلى تخريبها أو الحطّ من شأنها أو الإساءة إليها. طبعا، هناك لصوص وهناك مرتزقة وهناك مرضى... وهناك أشرار... ولكنهم مالهم في النهاية إلا أقلية قليلة وحالات شاذة ستحفظ ولايقاس عليها... ولكن ينبغي أن ننتبه إليهم ونقف لهم بالمرصاد... ونعمل على الحد من تصرفاتهم. وأعود إلى الأغلبية الغالبة من التونسيين الذين يحبون بلادهم ويذودون عنها وقد يموتون من أجلها... هؤلاء هم الذين أريد أن أتحدث عنهم واليهم أريد أن أتوجه وأتحدث فهم يستحقون الاحترام والتقدير مهما تباينت مواقفهم... واختلفت تحليلاتهم... حول ما نعيشه هذه الأيام... وما نعيشه صعب بكل المقاييس ومفتوح على كل الاحتمالات. إلى هؤلاء أريد أن أقول إن صفحة الماضي طويت وأن علينا أن نفتح صفحة جديدة وأزعم أننا تأخرنا في فتحها والانتقال إليها والانطلاق في تعميرها. ويبدو لي وأرجو أن أكون مخطئا مازلنا نتمسك بصفحة الماضي وكأننا تجمدنا فيها... وكأننا لا نريد أن نتجاوزها.. إن الوقت يمضي... ومع مضيه هناك فرص بصدد الضياع... ومشاريع بصدد التراجع... واستثمارات بصدد الذوبان... وخصوم بصدد التقدم على حسابنا، ونتيجة كل ذلك خسائر إضافية تنضاف إلى خسائر أخرى سجلناها في الفترة الأخيرة. نعم... من حقنا أن نفكر في مشروع سياسي يخرج بنا من مجتمع العبيد إلى مجتمع الأحرار... من حقنا أن نتطلّع إلى انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة بلا تزوير من حقنا أن يكون لدينا برلمان يمثل الشعب بالفعل ويراقب ويحاسب الحكومة. من حقنا أن يكون لدينا رئيس جمهورية غير مؤبد. كل ذلك لاغبار عليه... ولا اختلاف حوله... ولكن هل ذلك من مشمولاتي ومن مشمولات أمثالي ممن لايفقهون في الدستور والقانون والسياسة وليست لديهم الخبرة الكافية وليسوا من أصحاب الاختصاص؟ انني أتساءل فقط. انني أتساءل لأنني لاحظت أن الجدل حول تلك القضايا الكبرى والمصيرية أصبح شأنا عامّا ويكاد يطغى على حياتنا وفي ظلّه نسينا مهماتنا الأخرى. بكل تواضع أرى أننا إذا أردنا للثورة المباركة أن تنجح وأن تؤتي ثمارها الطيّبة أن يتفرّغ كل واحد منا لمهمته... ولوظيفته... ولمهنته... ويترك الأمور الأخرى لأهل الخبرة والاختصاص ولدينا والحمد لله عظماء وعباقرة وأفذاذ تعتزّ بهم تونس لنمنح هؤلاء ثقتنا وهم بها جديرون ونتركهم يفكرون... ويتناقشون... ويختلفون... وفي النهاية سيخرجون لنا ببرنامج سياسي ودستوري وديمقراطي يستجيب إلى طموحات الشعب ويرتقي بتونس إلى مستوى الدول العريقة في الديمقراطية... لنتركهم يشتغلون... ولنتفرغ نحن لأعمالنا ووظائفنا... ومهماتنا... وإلاّ فإننا سنضيّع الثورة المباركة ونجد أنفسنا في مهبّ الريح.. تظاهروا يرحكم الله! كأني بالتوانسة نسوا أن لديهم كمبيالات وقروضات... وشهريات تسلموها قبل أوانها لماذا أقول ذلك؟ لأنني لاحظت أن هناك حالة عند البعض على الأقل من التلذّذ بالساعات المحدودة من العمل... أو بعدم إمكانية الذهاب أصلا إلى العمل... والجلوس في البيت ومتابعة القنوات الفضائية وكأني بهم في «شيخة» من أمرهم... وكأن المسألة عادية وبسيطة وسهلة. لقد قال لي أحدهم بكل عفوية: «والله أنا شايخ ها الأيام وكأني في رمضان نضرب ضربة ونجي في قاع الحانوت». وكان يضيف: «ربي يدوم علينا ها النعمة» فهل هذه نعمة؟ فهل عندما تكون البلاد «واقفة» والأمور معطّلة... والاقتصاد في أزمة... والأمور تنذر بكلّ ماهو خطير وسيء نقول: ربّي يدوم علينا ها النعمة..؟ وللأسف الشديد هناك من يفكر بهذه الطريقة ولايشعر بما قد سيواجهنا في المستقبل من مشاكل وصعوبات وأزمات إنني أسمع أحيانا كلاما غريبا وعجيبا يدفعني دفعا إلى التساؤل: هل نحن نعرف ماذا سيحدث لنا في المستقبل القريب إذا استمرت الأوضاع على ما عليه؟ يا سيّدي. أنا مع الحرية... والديمقراطية... وحقوق الإنسان... وحق الإضراب والتظاهر... والاحتجاج... ولكنني كذلك مع الاستقرار الذي يوفّر لي أسباب العيش بأمان والعمل بأمان والاشتغال بأمان. ومن أعجب ما سمعت هذه الأيام ما سمعته من أحدهم وكان يتكلم عبر إحدى الإذاعات لقد قال: «المظاهرات هي الابداع الحقيقي... الاحتجاجات هي الإبداع الحقيقي...» وقياسا على كلام هذا الأخ يمكن أن نقول إن الشعوب التي أبدعت لنا الدواء والسيارة والطيارة والكهرباء والبورطابل والتلفزة والأنترنات وما إلى ذلك من أدوات الحضارة التي وللأسف الشديد لم نبدع منها نحن ولو إبرة كان عليها أن تتفرغ للإبداع الحقيقي وهو التظاهر والاحتجاج. وليعذرني هذا الأخ فلقد أكون أسأت فهمه. كيف (أكل الصيد الدّابة)! الكرسي وما أدراك ما الكرسي... إنه كالمرأة الجميلة التي يتهافت عليها الجميع... ويسعى إليها الجميع... ويتودد اليها الجميع... ويتمناها الجميع وقد روى من يعرفون الزعيم الحبيب بورقيبة جيّدا أنه لو تمّ انتخابه أول رئيس جمهورية وقف أمام المرآة وأخذ يرقص ويغني: «وينك يا أمي راهو ولدك ولّى باي». ومن يجلس على الكرسي في العالم العربي يتحول بين عشية وضحاها إلى ملك الملوك... بغض النظر إن كان رئيس جمهورية أو ملكا... وبسرعة يسكر بخمرة السلطة وينسى أنه انسان عادي يمرض ويتعب ويموت... هذه هي أكبر مشكلة في العالم العربي وإلى الآن لم نجد لها الحلّ المناسب والدواء الناجع وأتمنى أن يخرج الحلّ ويضم الدواء من تونس حصيد ثورته المباركة وإن كنت ألاحظ بصورة جلية أن المعركة الكبرى التي تدور رحاها الآن في تونس إنما تدور حول الكراسي ولاشيء غير الكراسي... وعنوانها الكبير: من سيفوز بالكرسي الأول ويحجز أكبر من الكراسي الثانوية لمؤيديه ومناصريه وجماعته وأخشى ما أخشاه أن يموت البوعزيزي وبقية الشهداء الذين استشهدوا في سبيل الثورة مرّة أخرى ويتم دفنهم تحت الكراسي وبطبيعة الحال أتمنى أن لايحدث ذلك ولكن أليس من حقي أن أعبر عن خشيتي... وتوجسي... وخوفي خصوصا وأنني رأيت في السابق كيف (أكل الصيد الدابة)!!! القاضي الرحموني وضّح الصورة هل تأذنون لي بأن أوجه تحيّة تقدير وإعجاب للقاضي الأستاذ الرحموني رئيس جمعية القضاة؟ أوجه له هذه التحية لأسباب كثيرة منها غيرته على القضاء المستقل النزيه وكفاءته... ورجاحة عقله وحكمته وبصورة أخصّ على ما وصف به أجواء وأوضاع وأحوال القضاء في العهد البائد والمبار. لقد قال: إننا لا نستطيع أن نصف القضاء إلا بأنه كان «سيستام» مثلما كان في الإعلام «سيستام».. وهذا «السيستام» يتقيّد به الجميع ومن يرفضه أو يتمرّد عليه يقع استبعاده أو تأديبه أو عقابه! وكلمة «السيستام» هذه التي استخدمها القاضي الرحموني هي مربط الفرس. إن «السيستام» هو الذي كان يوجهنا بل ويستعبدنا ويحدد لنا السبيل... ويضع أمامنا خريطة العمل شعاره في ذلك «أشرب وإلا طيّر ڤرنك» وكم عانينا؟ وكم «قاسينا»... ومنا من عاش وغصّة في قلبه... وشوكة في حلقه... ويشعر في قرارة نفسه بأنه مهان... و«مفعول به» إنه القهر... ولاشيء غير القهر فشكرا للقاضي (الفاضل) وان كان يعترض على مثل هذه الصفات لأنه وضّح الصورة للرأي العام كأحسن ما يكون التصوير