إذا كان النصف الثاني من القرن التاسع عشر قد تزيّن في أريانة بالقصور الحسينيّة التي أحصتها الأستاذة بيّة العبيدي في أطروحتها التي أشدنا بها سابقا، فإنّ النصف الأوّل من القرن الموالي شهد تشييد عدد من المباني ذات الطابع المعماري المنمّق وقد طمس البعض وقضى نحبه ولعلّ الباقي ينتظر، فدار المستيري تركت مجالها إلى بناية تجارية أطلق عليها أصحابها اسما إفرنجيّا Ariana Center ودار قائد السبسي التي آوت مركزا للحرس الوطني وتلاه الأمن الوطني، فلقد هدمت وقام على أنقاضها ما كان يدعى في زمن الرومان "Le Forum" وهذه دار تاج التي نشأ فيها الرائد محمد عزيز الشهيد في معركة بنزرت تحوّلت إلى مبنى يحتلّ أسفله فضاء للأكل، وتلك دار عبد الباقي انتفت عن شكلها البديع لتفسح المجال إلى عمارة تشبه عمارات السنيت وتؤمّ في أسفلها عددا من المقاهي والمطاعم. أمّا دار الزبيدي فلقد قطّعت إربا إربا وأصبحت مقاسم يحدّها نهج ابن طفيل وغير بعيد عنها فلقد أضحت دار بوسن بعد هدمها مقرّا للصندوق الوطني للتأمين على المرض. ولم يسلم إلى حدّ كتابة هذه السطور إلاّ النّزر القليل من حبّات عقد الجواهر الأريانية كمثل دار بسّيس Bessis ودار كوفوبولو Couvopolos ودار زيتون وقصر تاج و "بالاس" السنوسي. إنّ عبارة Palace وهي إفرنجية بالضرورة وقع اعتمادها في اللهجة العاميّة تعني بحسب المناجد الفرنسيّة: مقر إقامة إمّا لشخصية معتبرة أو لثري متميّز أو من باب أولى وأحرى رئيس دولة، ولكن في هذه الحالة الأخيرة فإنّ الأكثر شيوعا في نفس اللهجة هي عبارة قصر ولو أنّ هذه الأخيرة سحبت على قصور بطانة الملوك وأتباعهم. ولنا في مدينتنا ثلاثة من أهمّ القصور الحسينية المتواجدة في أحواز الحاضرة: بن عيّاد والبكوش ورافو. وصاحب "عمارتنا" هو من فئة الأثرياء إذ هو ينتسب إلى طبقة الشوّاشين وهي تعدّ تاريخيا من أرقى المهن وليس أدلّ على ذلك موقعها المتميّز بجوار الجامع الأعظم. المختار السنوسي باني " البالاس" اشتغل لفترة من الزمن أمينا لسوق الشوّاشين وهي لعمري مرتبة لا يرتقي إليها إلا من حاز ثقة فائقة من لدن أرباب هذه القبعة المميّزة التي شهدت إلى حدود النصف الأوّل من القرن العشرين رواجا تجاوز حدود البلد. كان عمّ المختار يقطن بسوق النحاس أي أسفل القصبة درّة المدينة العتيقة، ثمّ بدا له أن يبني مقرّا جديدا بأريانة، هذه القرية التي تغنّى بها شيخ الشعراء الطاهر القصّار وهو المقيم بالعزّافين في أعلى القصبة. يمّم رياض الورد ظهرا واجعل بأريانة المقيلا واختار موقعا متميّزا محاذيا لدار المستيري وقبالة سانية بن عيّاد، كما اختار السنوسي أن يكون البناء مرتفعا ذا طابقين فوق الطابق الأرضي، أمّا عن الهندسة المعتمدة في الواجهة فهي ذات تأثيرات إيطالية ولكن بالاستئناس من بعض الأشكال التقليدية التونسية فكانت النتيجة معمارا ذا بال ولقد تصدّر هذا "البالاس" الذي انتهت أشغال بناءه سنة 1945 المشهد العمراني المحلي بفضل ضخامته ولونه المتميز المائل نحو الوردي. ومع مرور الزمن شحب هذا اللون بفعل تراكم كمّ هائل من حبّات الهباء . فكان من الضروري بالنسبة لنا بحكم أنّ البلدية تتعهّد أيضا بجمالية الواجهات أن تتدخل لإزالة الغبار من فوق الجدران فسخرنا فريقا من الحماية المدنية لغسل البناية ولقد تمّ ذلك بالتنسيق مع المنعّم المنصف الشويب حفيد السنوسي والذي آلت إليه ملكية العقار عن طريق والدته. ولقد مكننا سي المنصف من السماح للشركة العمومية للنقل بتركيز محطة بجوار المبنى. وفي المقابل فقد تعمّد بعضهم طمس إحدى الواجهات بتغليف جزء منها بكساء ممّا يشبه الرخام وهو ما أثار حفيظة السيدة جميلة بينوس بصفتها من المدافعات الشرسات عن الموروث المعماري وهي التي تقطن من الجانب الآخر من ساحة سلا التي يطلّ عليها "البالاس" فتظلّمت لدى السلط التي استمعت لها بكل انتباه ولكن لا توجد في ترسانة التشريع العمراني ولو مطّة واحدة تسمح بالتدخّل في مثل هذه الحالات وهي ليست نادرة، ف "الملاّك" عندنا هو مالك مطلق وهو ربّ الدّار في الباطن وفي الظاهر. والحال أنّ رجلا غير مختصّ في شؤون المعمار كان قد نبّه منذ قرنين أنّ العمارة أي عمارة هي ملك لصاحبها فقط داخل الجدران أمّا الواجهة فهي ملك المجموعة بما أنها في مجال الناظرين. صحيح أنّ هذا الرجل هو عملاق الأدب في فرنسا: Victor Hugo.