يتعرّض التراث المعماري بقلب مدينة صفاقس الى إساءة واضحة قد تطمس تاريخ الجهة الضارب في القدم.. صيحات فزع ارتفعت من هنا وهناك تنادي بتدخل الجهات المعنية حفاظا على هذا الإرث. فقد كان المهندس المعماري «رافييل غي أب» الهندسة التعريبية بصفاقس، وصاحب كتاب الهندسة المعمارية الحديثة ذات الطراز العربي مصدر الأشكال الاولى للأسلوب المغربي الإسباني بمدينة صفاقس، وهو ما يطلق عليه أيضا بالنيو موراسك. وأسس هذا المهندس المبدع لمدرسة معمارية بباب بحر صفاقس على خلفية تراثها المعماري العريق بالمدينة العتيقة استمرت في المباني العمومية على الأقل إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية. وما نلاحظه أن المهندسين الأوروبيين لم يقوموا بنقل قوالب جاهزة من العمارة التقليدية، وإنما اتخذوا المدينة العتيقة منطلقا نحو فهم عميق لمعطيات حاضرهم وصياغة شكل معماري يعبر عن روح العصر. باب بحر في جميع تجلياته أعاد العناصر والخطوط المعمارية العربية الاسلامية في شكل مغاير وحديث، وبالتالي قام هؤلاء المهندسين بتحديث المنجز التقليدي مما أثرى التراث المحلي وجعله ذا قابلية لمواجهة ما طرأ على المدينة من أنشطة وتقنيات ووظائف. وهكذا ظهر باب بحر في واجهاته الخارجية متشبعا بالخطوط الهندسية المعمارية المحلية، ومن الداخل وفي الارتفاع يستجيب للهندسة الأوروبية الحديثة. والواقع أنه مثلما انتقل تأثير المدينة التاريخية إلى باب بحر، فإنه بالمقابل اخترق النمط الأوروبي المدينة العتيقة، مما خلق تبادلا وتواصلا بين المدينتين، وهذا موضوع آخر سنعود اليه.
هدم إدارة عمرها 100 سنة
اليوم يتألم الكثير من التلوث البصري الذي يشوه المعمار الحضري بباب بحر، والذي يضم التراث المعماري للقرن العشرين وهو في ذات الوقت تراث متوسطي مشترك، وذلك بسبب ترك الحبل على الغارب لكل من هب ودب ليقيم مكانه او حوله ما يشاء من عمارات دون أية اعتبارات أو قيم أو ضوابط معروفة لدى الإدارة والمهندس المعماري والمقاول.
ويتواصل مسلسل الإساءة الى تراث باب بحر بصفاقس، ففي الفترة الأخيرة وقع هدم إدارة البريد القديمة القريبة من قصر البلدية، ولهذا المبنى قيمة تراثية كبيرة فقد صمّمه المهندس المعماري «رافييل غي» الذي يعود إليه تصميم قصر البلدية والبنك التونسي. وهو مشيّد على النموذج التعريبي الذي يستمد روحه من المدينة العتيقة بصفاقس.
وتزداد قيمته التاريخية لأنه محاذ لعمارة النوري المحمية من وزارة الثقافية سنة 2010 باعتبارها نموذجا فريدا لعمارة الفن الحديث ليس بصفاقس فقط إنما بالبلاد التونسية.
شيّد المبنى القديم للبريد سنة 1907، وظهر نادرا في البطاقات البريدية القديمة عن مدينة صفاقس. وتشير الجهات المختصة بالجهة أن المبنى من المعمار المميّز للقرن العشرين، وأن الاتفاق عند إسناد الرخصة نص الإبقاء على الواجهتين الشمالية والغربية للمبنى، ولكن المقاول لم يقم بالتدعيم اللازم وقد اختار يوم السبت، وهو يوم عطلة لإزالة التدعيم المنقوص فانهارت الواجهتان وسويّتا بالأرض. وللتخلص من غرامة التأخير قدم المقاول شكوى للتعطيل والضرر بمقاولته. والثابت أن المعهد الوطني للتراث بالجهة من ناحيته بصدد القيام بالإجراءات اللازمة لدى الجهات المختصة والمصالح القانونية لحماية هذا المبنى التاريخي الهام.
من المسؤول ؟
والسؤال الذي يطرح هل المقاول هو المسؤول عن هذه الكارثة ؟ علما وأن المسؤولية في صفقات المباني العمومية كما أشار لنا بذلك أحد المختصين مشتركة بين المقاول والمصممين وعلى رأسهم المهندس المعماري وصاحب المشروع وهو إدارة البريد في هذه الحالة.
وهل هذه الحادثة ترجع إلى خلل في التشريعات أم الى سوء نية من قبل أحد الأطراف المتدخلة في المشروع أم إلى سوء متابعة من قبل الادارات المعنية أو قلة كفاءة، سيما وأننا نعلم أن التدخل في مثل هذه المعالم متعارف عليه لدى المتدخلين في المشروع جهويا ووطنيا ودوليا.
وإلى جانب هذه الإساءة المفضوحة، هناك انشغال كبير لدي «الرأي العام التراثي والتاريخي» على مصير البنك التونسي، ومقر صفاقس-قفصة، والبنك الجزائري( قباضة المالية بنهج أبي القاسم الشابي سابقا)، وانشغال مضاعف على الوضعيه المتدهورة لكل من العمارة المعروفة حاليا باسم الفريخة، وعمارة بن رمضان، وعمارة النوري حاليا.. وحسرة على ما آل اليه مبنى مونوبري القديم الذي إساء أيما إساءة لجمالية قصر البلدية وقصر بن رمضان، إضافة الى ما لحق الطراز المعماري باب بحر من تشويه متعدد إما بالاستعمال العشوائي وغير المدروس للالمنيوم أو للاليكوبون Alucobond، أو بالترميم الخاطئ.
فما هي جدوى مجلة حماية التراث الأثري والتاريخي التي يسهر عليها المعهد الوطني للتراث؟ لأنه إذا تواصل هذا النسق على ما يجري عليه اليوم فسوف تفقد المدينة على مدى سنوات المستقبل القريب تراثا بباب بحر لا يقدر بثمن.