عندما أخذت جرأتي بكلتي يديّ فألّفت كتابي " إسبايا من الدكتاتوريّة إلى الديمقراطية " أمثولة وقدوة " كان فكري وقلبي ونظري مركزاعلى الوطن الحبيب الذي كان – كما قلت في المقدّمة – على فوهة بركان ، وكنّا والعالم أجمع كان يقرأ حساب كلّ الاحتمالات بما فيها ما لا تُحمد عقباه. أمّا أنا فكنت ، علاوة على ذلك ، حديث المرور بتجربتين شاهدت الأولى عن قرب ، وعشت وعايشت الثانية ، منغمسا في مياهها الجارفة ، وتياراتها القوية التي سالت دون أن تجرف معها أكثر من نظام طاغ استعبد البلاد والعباد. التجربة الأولى هي الإطاحة بنظام " سالازار " الغاشم بالبرتغال ، من طرف جنود مؤمنين بالحق والعدالة ، فأزالوا الطاغية ثمّ سلّموا الأمور لأصحاب الأمر، فتولت السلطة المدنية شؤون البلاد. أمّا التجربة الثانية ، وهي المثلى من جانب آخر، فهي التحوّل من نظام دكتاتوري إلى عهد ديمقراطي ، بأسلم وأنجع وأقصر السُبل ، بينما كلّ المعطيات والمكوّنات البشرية والمادية ، وكلّ المشاعر وبقايا الماضي القريب ، لم تكن سوى أشبه شيء بتبن وحطب يابس جاف ، وخزان وقود ومتفجرات ، تكفي شرارة لتفجيرها فتأتي على الأخضر واليابس. لكن ، هنا كانت المعجزة ، متمثلة في فقدان وانعدام الشرارة ، باستثناء شرارة حب الوطن ، ولهيب حب السلام ، وأشعة نور الطريق ، نحو الخروج من الهوة والسير الحثيث لإرساء مستقبل الأحلام والوئام ، والتقدّم في سلام. كنت أتابع وأشاهد مذهولا معجبا بشعب أراد الحياة فأخذها ، لأنها لا تؤخذ بالتّمنّي فلا تؤخذ إلا غلابا. لذا كلّما خلوت لنفسي ، غرقت في أحلامي فأنا ابن جيل الأحلام. جيل هو عصارة ورحيق الأجيال السالفة ، أخذ منها ونقل عنها وتعلّم منها ، مبادئها وِصِدْق كفاحها ونبل طموحاتها ، فخاض الكفاح ، بكلّ وسائله وطرقه ، بصدق وإيمان وتآزر، تحت قيادة نخبة من أبناء آخرالأجيال السابقة، فحباه الله بالنصر وتوّج كفاحه بالإستقلال الذي كان يحلم به. حلم تحقّق لتبدأ أحلام أخرى ، هي الحرّية والعمل الجماعي في صالح الجميع ، أي تقدّم وازدهار وصعود ورقيّ. لكن صحونا على حكم سلطويّ ، وأد الحرّيات ، فكانت تضحيات واستشهاد ضمن نوع جديد من الكفاح ، بدأه جيل تلانا راودته هو الآخر، أحلام وطموحات. ثمّ جاء ما سمّوه تغييرا ، فطمعت النفوس واستراحت مهيأة لتنفيذ أحلامها. لكن ، ويا ليت لكن لم تكن ، سرعان ما ساءت الحال فاشتدّ الظلم والطغيان ، وساد الفساد والرشوة ، وعمّت المحسوبية وكلّ المساوي السابقة واللاحقة ، فعاد البركان إلى غليانه ، يزداد كلّ حين حرارة وهيجانا ، وأنا في غربتي أتألم وأتحسر، وأقارن ، فيعاتبني المهدي كاجيجي ، زميل وصديق صحفي ليبي ، أدار تحرير جريدة الحرية ذائعة الصيت فيقول: " لا تقارن يا محمّد ، فالمسألة جينات". لم أكن أعير ملاحظته اعتبارا ، لما كانت عليه ثقتي في شعبنا وإمكانياته ، حتى سطع النور من جديد عبر انتفاضة ، شعبية بما في الكلمة من معنى ، جماهيرمن كلّ الشرائح والأعمار، إناثا وذكورا ، بلا قيادة ولا غاية ، سوى القضاء على الظلم والتعذيب ، والنهب والتزوير، والإطاحة بنظام ظالم غشوم ، واسترجاع الحرية والكرامة ، انفجرت فجرف تيارها الصادق جدار الخوف وفرّ الطاغية ، فعاودتنا الأحلام. عاودتنا لصدق مشاعرنا وصدق تحرّكات الجماهير، بأمن وسلام ، سلاحها الوحيد إيمان بحقها ، وشعارات معبّرة ، وحناجر تنطق بما في الصّدور. عمّ الخبر أصقاع العالم ، فتهت فخرا وإعجابا ، وقوبلت بالأحضان والتهنئة في كلّ مكان ، خاصّة بين إخواني العرب. عُقدت الندوات في أكثر من مكان وناد وجامعة ، ساهمت في كثير منها ، وفي لقاءات إذاعية مسموعة ومرئية ، اغتنمتها معاتبا عن الصّمت وغضّ النظر عن اجتيازات ومظالم النظام المُطاح به ، شارحا موضّحا ما استطعت لماذا تونس ، ولماذا جرّت معها بقية البلدان العربية. دعيت من معهد الخدمات الصحفية i.p.s.، مؤسسة إعلامية عالمية، كي اساهم في ندوة حول الربيع العربي ، فاستجبت . لكن ما راعني إلا والشك يغمرني ، فقلت في مشاركتي يوم 23 مارس 2011 " أن هذا ليس ربيعا بل هو في اعتباري خريف يتبعه شتاء انتظارا للربيع الحق." صدق حدسي ويا ليته لم يصدق ، فها هي سبع سنوات تمرّ، ولم يحلّ الربيع بعد. لماذا ؟ لأنّ الذي أرادته وطمحت إليه تلك الجموع الثائرة ، ووضعته هدفا لثورة الكرامة ، ليس أكثر من حرية وعمل وسلم وعدالة ، وهذا لم تنعم به تونس بعد ، فخاب الظن وعدنا إلى أحلامنا. أما أنا فعدت أحاسب نفسي وأسألها أين أخطأت في ثقتها الرّاسخة في مقدرة شعبنا على معاملة الحريات والديمقراطية . لماذا لم تلاحظ ما لاحظه الآخرون ، فعارضت أحكامهم بتصميم وإيمان ؟ لماذا ظهر على الساحة ما يهدم ولا يبني ؟ هل طول الغربة والبعاد أبعداني عن واقع بلادي ؟ هل الأجيال الجديدة التي نعمت بما لم ننعم به ، من علم وتقنيات ، لم تنهل من المنابع التي شربنا وارتوينا بمبادئها وإخلاصها وصدق قولها وسموّ غاياتها وأهدافها ؟ هل هذا يعني أنّ الثقافة التي كوّنتنا بالت واندثرت فحلّت محلّها ثقافة جديدة لها غايات وأهداف نجهلها ؟ طال تساؤلي ومحاسبة نفسي فلم أبلغ سوى فهمي أني " عرفت أني لا أعرف شيئا ". هكذا من صومعة غربتي جعلت أتابع وأدقق فتأكدت من غياب أهم المستلزمات : فالبنّاء يحاول وضع السقف ولم يرمِ الأسس ، والمتزعّم يقول غير الذي يقصد ، والقائد أو الدليل يسير في اتجاه غير اتجاه الذين اتبعوه ، والإعلام يحاكي أمما تمرّست وتعوّدت على الحياة الحرّة وأجواء الديمقراطية ، متناسيا أو ناسيا ، أنّ الشعب في أوّل الطريق ، لابدّ له من مرحلة توجيه وإرشاد وإنارة وتدريب . الحوار الحق مفقود بكثرة المناداة به ، فسطعت صورة التمزق : الشعب في واد ، والحاكم في آخر، والبرلمان دأبه الشجار مع نفسه ، والأحزاب تهلّل لتونس ولا تعمل لها ، فأذعنت للواقع فاعترفت بسوء فهمي وخطئي ، وتأكدت أن الجميع نسي مثلنا الشعبي " على قد غطاك ، مد رجليك " فكانت النتيجة أن نطلب من الآخرين غطاء لنا متناسين مثلا آخر هو " المتغطّي بمتاع الناس عريان". دخلت قبل بضعة أيام صيدلية الحيّ ، فسمعت صاحبتها تقول لسيدة تحادثها: ها هو سيد من هناك. تبادلنا التحية فسألتني السيدة: من أين أنت ؟ قلت من تونس. قالت : حديثة الوصول من هناك. كيف وجدتها ؟ قالت مستاءة متألّمة: سيّئة يا للأسف ، الشعب يقاسي والثقة في تونس مفقودة داخليّا وخارجيا. ثمّ ركّزت فيّ ناظريها وسألت: ما الذي دها تونس ؟ عدمت جوابا ثمّ قلت: ضمآن طال ضمؤه فعثر على عين رقراقة فجعل ينهل بلا حذر. أختم بهذا ثرثرتي معتذرا ، مذكرا بمقولة الزعيم الإفريقي نلسن ماندلا : نحن لسنا أحرارا بعد، نحن فقط وصلنا لحرية أن نكون أحراراً.