كلما قابلت قادما من تونس ، امرأة كانت أو رجلا ، تونسيا أو أجنبيا ، وسألت كيف وجدت تونس ، أو كيف حال تونس ، كان الجواب واحدا الشعب يشكو ويتذمّر ، والبعض يضيف : الفقر يتسرّب أي الطبقة المتوسطة تتقلّص. تمرّ الساعات وعندما أختلي بنفسي وأستعيد ما قيل لي وما وصف ، أحاول جاهدا تصوّر الواقع علّي أقترب من الحقيقة ، فيعاودني القول الكريم ، أو هو حكمة بليغة ، فأجد نفسي أقول وأكرّر: كيف ما تكونوا يولّى عليكم ، ثمّ أجعل أتساءل: نشكو ، لماذا ؟ ننتقد عجز أو خطأ رئيس الحكومة ، لماذا ؟ نطالب بتنحيته ، لماذا ؟ قبل الإجابة يسطو على فكري سؤال آخر هو ماذا فعلنا نحن ؟ إن يوسف الشاهد رئيس حكومة لأننا أردنا ذلك ، إذ نحن الذين وضعناه هناك. لا يوم اختاره اتفاق ومباركة حزبين ، بل يوم الانتخابات ، يوم قصدنا صناديق الاقتراع يوم الانتخابات ، يوم أدلينا بأصواتنا. فعلنا ذلك كما فعلنا ، قمنا بواجبنا فأحسنّا أو لا ، كان اقتراعنا وتصويتنا نتيجة تعقّل وتفكير أم لا ، طغت العاطفة أو التصرّف المسيّر بدماغ مغسول أم لا ، فأيّا كانت صفة وطبيعة تصويتنا ، فتصرّف الشاهد اليوم ، ما يفعل ويقول أنصاره ومعارضوه ، هو نتيجة ذلك الاقتراع والتصويت ، تلك الانتخابات ، ذلك التصويت الجماعي الذي ساهمنا فيه جميعنا بالتنويب الذي قرّرناه يومئذ، وبالتوازنات التي شئناها أو قل التي نشأت عن ذلك. اليوم ترتفع الأسعار، ينحسر الاستثمار الداخلي - الخارجي تسوّل وخناق في الأعناق- يزداد عدد العاطلين ، رؤوس الأموال والمالية عموما يذهبان إلى حيث يذهبان دائما وفي كلّ بلاد وقطر ، يذهبان أي يفعلان ما هو من خصائصهما ولفائدتهما. تقوم تحركات شعبية احتجاجية أو يثقل كاهل الاقتصاد بإضرابات أخرى ، أو يجري بحث عن متنفس ، أو تصريف خيبات الأمل والطموحات، فتنشأ انتقادات ، اتهامات ، نعوت ، إن لم تكن شتائم ، وتظهرصراعات بغية الحصول على تعيينات ، ويحدث طرد أو نقل ، فيولد كلّ هذا صياحا وشتما وتصفيقا ، فيجد الخبر منشأه ومصدره ، فيحتلّ عناوين الصحف ونشرات الأخبار المسموعة والمرئية فإذا به في الصّدارة ، لكن لا تأثير له أمام تأثير النشاط السياسي الصامت الذي نبديه جميعا.. مهمّ أن يكون الشاهد رئيس حكومة أو لايكون ، بل يصبح أكثر أهمية لو جاء نتيجة نشاط سياسي منا جميعا. نشاط يأتي بما هو أفضل لا بما هو أسوأ . مهم أيضا ما يقوله رئيس الحكومة ، لأنه يمسّنا ويعنينا جميعا. لكن ما هو أكثر أهمّيّة من مقدوراته وحدودها ، أكثر أهمية من نجاحه أو فشله ، أكثر أهمية من مؤيديه ومعارضيه ، أكثر من كلّ شيء هو أنّ رأس المال هو أساس نظامنا ، ولو غضضنا النظر عن ذلك أو أنكرناه ، وراس المال له شروطه. أمّا الديمقراطية التنويبية الحرّة ، والاتفاق أو الميثاق الاجتماعي الوطني المبرم بين الجميع ، فهو النظام الذي يسيّر فيعطي شكلا لأيّ وضع مهما صعب وتعقّد ، هو الذي يقود نحو وإلى الحلّ ، هو الذي يعطي التداول لرئاسة الحكومة. انطلاقا من هذه الحقيقة فإن ما يأتيه الشاهد أو غيره ، ما هو إلا ثمرة مَقْدُرة أو انعدامها ، لكن إلى جانب ذلك هناك قيم عليا من الواقع الوطني ، مثل التعايش بين الجميع ، والتنظيم الاجتماعي واٌلإقليمي أو الجهوي اللذان يجعلانه ممكنا. كي نفهم هذه المعايير، يكون من الأنسب أن نتحمّل ونقبل بأنّ النشاط السياسي منا جميعا ، هو أساسي ، فلنتهيّأ لتحمّل وقبول خطر الأحزاب السياسية. إن تلك الأحزاب ما هي إلا منظمات تُوَجِّه إرادة الجميع لكن ، لخاصية يجب أخذها بالاعتبار، عند اسقاط رئيس أوالمجيئ بآخر. إن من مميّزات النظام الديمقراطي هو أن المسؤولية السياسية هي اختصاص وأهلية ومقدرة الجميع ، لذا لا يناسب ولا مكان لإخفاء أو نكران مسؤوليات ، ولا يصحّ تحميل الأحزاب السياسية وزعمائها ذنب نتيجة القرارات التي اتخذناها نحن. لأنّ من تلك القرارات أي اقتراعنا وتصويتنا ، يخرج تعيين الشاهد وآخرين من قبله. فرئيس الحكومة لا يعينه رئيس الدولة ، ولا نواب الشعب ، أو تناحر الأحزاب واتفاقها وتقاسم المصالح بينها ، بل نحن ومنا يجيئ التعيين. فإذا فهمنا هذه الحقيقة وعرفنا كيف نعمل ونتصرّف من خلالها ، نستريح من كثير الكلام والتشكي والتذمّر. ما الفعل إذن ؟ قبل الإجابة علينا أن نطرح سؤالا آخرهو: هل أحسنّا أم أسأنا عندما أدلينا بأصواتنا وانتخبنا ؟ وَضْعُنا الحالي جواب صريح عن ذلك وهو يطرح سؤالا آخر: لماذا لم نحسن أو لم نوفق ؟ أسباب ذلك كثيرة ذات أبعاد تفرض العناية والإصلاح والتكوين لانتخابات مستقبلية لتفادي الوقوع في نفس الشباك. أقبلنا على الانتخابات كالذي طال به العطش والظمأ ، فعثر على عين رقراقة صافية براقة ، فارتمى ينهل بلا حيطة ولا تروٍّ. أضف أنّ معظمنا عديم الخبرة والتجربة ، ولد وعاش وعايش الحزب الواحد ، القائمة الفريدة ، والانتخاب المُسيَّر. ثمّ إن الكتل التي قدّمت مرشّحيها أدخل عددها وكثرتها البلبلة والذبذبة ، لم يقدّم أيّ منها برنامج حكم وإدارة ، بل جاء هذا مبشّرا ، والآخرمحذّرا ، وذاك واعدا أو متوعّدا ، وذلك رافعا شعارات تغري ولا تغذي. لذا انتخبنا بأدمغة مغسولة ، وأحكام مسبقة ، وعواطف فياضة أثارها الطموح والأمل ، ودفع بها حسن النية والثقة في الآخر، وسيّرها اليقين بأنّ الوطنية والإخلاص ليستا حكرا عليّ ، بل الآخر مخلص أيضا ولا يبغي إلا ما ابتغيته ، ولا يحلم إلا بأحلامي ، ولا يطمح إلا لما يطمح له الجميع. هذه لعمري مشاعر ونفسية وتفكير المواطن الوطني البعيد عن السياسة ، وهي التي حرّكتنا جميعا ، فانتخبنا آملين طامعين منتظرين زوال الضيم والظلم والتحايل والنهب والتبعية ، واستقبال الحرية والعمل والتآزر والتعاون ، تعاون الجميع لفائدة الجميع وكلّ الطموحات تبلورت في مفردة واحدة نادت بها كل الحناجر الكرامة. نسينا أو تناسينا أو جهلنا ، أنّ عهد الوطنية الصّرفة قد ولّى ، فساد عهد السياسة التي لا تعمل إلا بمبدأ واحد هو الغاية تبرّر الوسيلة ،وكّ ما يتضمّنه هذا المبدأ من فروع وهوامش منها أن الكذب دبلوماسية ، والاعتداء دفاع عن النفس ، ووحدانية الرأي الصائب ، والمال قوّام الأعمال ثمّ إنه عديم اللون والرّائحة. أين مصلحة الوطن في كلّ هذا ؟ هي في ما أراه أنا ، وفي ما أقرّرها أنا ، وفي النهاية مصلحة الوطن في مصلحتي لأني على حقّ ورأيي صائب وما عداي خطأ خاطئ وخطيئة. هذا ما أوصلنا لما نحن فيه ، وإذا شئنا الخروج علينا بفعل ما نصحت به زعيما ثائرا ، نجحت ثورته وفشل حكمه وهو: إن شئت خدمة بلادك فاقلب سترتك واضعا الوطنيّ في الباطن والسياسي في الواجهة العمليّة. نعم ، فالوطنيّ لا يستطيع أن يكون سياسيّا ، لكن الساسي يمكن أن يكون وطنيا وإن قلّت الأمثلة. علينا أن نواجه أوضاعنا والناشطين على الرّكح من أجلها بروح وعقلية وتصرّفات عقلانية ، عملية ، لأنّ المشاعر الوطنية " ما تغليش في الطنجرة " حسب تعبير ابن أحد شيوخ التراب أيام الحكم الاستعماري ، أي أنها لم تعد تجدي نفعا.