الواقع السياسي في تونس : حساب البيدر مرة أخرى... بقلم : الحبيب بوعجيلة (كاتب وناشط سياسي) بنهاية السنة الدراسية وخلود التونسيين إلى عطلة الصيف تنتهي السنة السياسية كما تعارف النشطاء على تسميتها غير أن صيف هذا العام لن يكون متسما بالاسترخاء التام إذ سوف يتواصل النشاط النسبي للأحزاب المشاركة في انتخابات 2009 التي يحل موعدها شهرا واحدا بعد الفراغ من فريضة الصيام ... وهو ما سيجعل ليالي الصيف والسهرات الرمضانية فرصة
جيدة لإعداد القائمات وتدبيج البيانات الانتخابية وتسوية ما بقي عالقا من حسابات بين الأطراف والجهات المتنافسة داخل الأحزاب و خارجها غير أن اللافت للانتباه فعلا هو مرور هذه السنة دون أحداث سياسية تذكر رغم طابعها الاستثنائي وهو ما يسمح بالقول إن الاستحقاقات المقبلة في الخريف القادم لن تغير شيئا في توازنات المشهد القائم فبعد أن تمت المصادقة التشريعية على القانون الاستثنائي المتعلق بالرئاسيات وعلى التعديلات المجراة على المجلة الانتخابية أعلنت الشخصيات الأولى في أحزاب معارضة ثلاثة مشاركتها في الرئاسيات إلى جانب الرئيس زين العابدين بن علي واتجهت الأحزاب القانونية التسعة في البلاد إلى إعداد نفسها للتشريعيات وقد بدا الواقع السياسي على امتداد هذا العام عاديا لا يختلف كثيرا عن سابقيه فقد واصل الحزب الحاكم تصدر الساحة معتمدا على النجاحات الاجتماعية والاقتصادية للسلطة في تبرير مشروعه السياسي القائم على فكرتي الاستمرار والاستقرار أما أحزاب المعارضة فقد واصلت نشاطها المحدود على قدر قوتها متجهة إلى ترتيب أوضاعها الداخلية استعدادا للموعد الانتخابي خصوصا وهي تتنافس هذه المرة أيضا على نيل المرتبة الأولى بعد الحزب الحاكم و بعد ارتفاع "الكوتا" المخصصة لها في قبة البرلمان ومن المهم أن نشير أن ما يمكن تسجيله من أحداث على ساحة المعارضة يتلخص أولا في عودة المبادرة الوطنية للديمقراطية والتقدم إلى النشاط بعد اعلانها ترشيح الأمين الأول لحركة التجديد السيد أحمد ابراهيم إلى الرئاسيات وما رافق هذا الاعلان من ارتفاع لنبرة الخطاب المركز على الاستقلالية ومبدإ التنافس الجدي مع مرشح الحزب الحاكم . كما نشير ثانيا إلى انعقاد المؤتمر الأول للتكتل الديمقراطي وما رافقه من تراوح بين الاستمرار المبدئي في سلوك منهج الاستقلالية والضغط الاحتجاجي عبر اعلان السيد مصطفى بن جعفر عن ترشحه للانتخابات الرئاسية في انتظار ما سيقرره المجلس الدستوري وبين اعتماد الواقعية والاعتدال عبر دعوة التجمع الدستوري لحضور افتتاح المؤتمر وعبر الاشارات الواردة في خطاب السيد بن جعفر عن استعداد التكتل للحوار والتفاعل مع معطيات الواقع السياسي القائم وعلى صعيد ثالث سجلت ساحة المعارضة حدث استقالة عدد من كوادر الحزب الديمقراطي التقدمي على أنها ايذان ببلوغ الترشح الاحتجاجي للسيد نجيب الشابي نهايته دون نتائج تذكر لاثبات قصور الأسلوب والتمشيات المعتمدة داخل هذا الحزب رغم محاولاته الأخيرة اثارة الاهتمام وصنع المبادرة عبر الدعوة إلى رقابة دولية على انتخابات 2009 وهي دعوة يبدو أنها لم تلق حماسا لدى أغلب مكونات الحركة الديمقراطية فضلا عن دوائر القرار الدولي المهتمة بالشأن التونسي بل انها قد أثارت احترازات البعض في علاقة باشكالية ما يعرف بتهمة الاستقواء بالخارج . ومن الجدير بالملاحظة أيضا على صعيد الوضع في ساحة المعارضة ما برز من حراك نسبي في نشاط الأحزاب المحسوبة تقليديا على الموالاة كما يحلو للبعض تسميتها فبالإضافة إلى انتظام صدور جرائدها هذه السنة وكثافة اجتماعاتها و منتدياتها فإن عددا من هذه الأحزاب قد اتجه جديا إلى ابراز تباينه بالفعل والقول مع حزب السلطة رغم محافظتها على المسافة النقدية التي تفصلها عن المعارضة الاحتجاجية . أما المعارضة القصووية ممثلة في بعض التشكيلات والجمعيات غير القانونية فإن صوتها قد كان خافتا هذه السنة خصوصا بعد انفراط عقد حركة 18 أكتوبر ولعل ما جرى على صعيد اتحاد الطلبة ورابطة حقوق الانسان بالاضافة إلى مآلات أحداث الحوض المنجمي وغيرها من الوقائع المتعلقة بالحريات يكشف بوضوح حدود المناهج والأساليب التي اعتمدتها هذه المعارضة القصووية في إدارة علاقتها مع السلطة . وما دمنا في سياق أحداث السنة المنقضية فإن أحدا لا يستطيع أن يغفل حالة الاستقرار اللافت على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي على عكس ما توقعه البعض من تأزم للوضع لتسويغ مناهجهم في الضغط والمواجهة لإكراه السلطة على الانصياع إلى مطالبهم العاجلة في الانتقال الديمقراطي الناجز فقد انتهى الحوار بين الأطراف الاجتماعية تقريبا إلى المحافظة على التوازنات القائمة كما تبدو السلطة في وضع نجاح معقول في التعاطي مع انعكاسات الأزمة المالية رغم الصعوبات التي لا ترقى إلى ما يفترضه البعض من وضع تأزم هيكلي . أما أهم ما أثار الانتباه في أحداث السنة الماضية فقد كان ثقافيا بامتياز حيث ثار جدل بين أطراف محمولة على معسكر الحداثة والتنوير وأخرى منسوبة إلى تيار الأصالة والتجذر وذلك على هامش زيارة بعض الشخصيات الثقافية إلى تونس وظهور بعض الكتابات في المسألة الدينية وخصوصا بعد انتقال ملكية إحدى الصحف الكبرى بالبلاد إلى شخصية مقربة للسلطة يرتبط اسمها حالياب بعض المشاريع الثقافية والاقتصادية ذات "التوجه الحضاري" وقد انحدر هذا الجدل في الغالب إلى مستوى من المماحكات الشعبوية والشعاراتية بين الطرفين في ظل رقابة صامتة من طرف السلطة .إن هذا الجرد السريع لأحداث السنة المنقضية يسمح لنا بالخروج بجملة من الاستخلاصات نوردها جزافا كما يلي : 1 – انتهت هذه السنة دون أن تضطر السلطة إلى تقديم تنازلات موجعة من شأنها أن تغير جذريا توازنات الواقع القائم وهو ما يؤكد مرة أخرى صوابية ما انتهينا إليه سابقا في توصيف اختلال ميزان القوة بين سلطة قادرة باستمرار على رسم حدود المشهد الذي ترتضيه ومعارضة لا تملك القدرة على تقرير مشهد على مقاس طموحها الجارف أو على اكراه السلطة على ما لا تريده . 2 – لم يتحقق ما بشر به بعض الناشطين من امكانية صنع الفراغ حول السلطة بل إن بعض الأطراف القصووية قد وجدت نفسها مرة أخرى في وضع من العزلة داخل مشهد سياسي و اجتماعي يحقق للسلطة مطلوبها في تسويغ مشروع الاستمرار والاستقرار حيث تتجمع قوى المعارضة الوسطية أو القريبة من السلطة في المواقع الحزبية و المنظماتية التي لم تختر نهج القطيعة وإن اتجهت أكثر فأكثر نحو استقلالية متناغمة مع المنظومة القانونية والشرعية القائمة أما الوضع الدولي كعنصر حاسم في اختيارات أي سلطة قائمة فيبدو مواتيا لمواصلة خيار الاستمرار والاستقرار خصوصا بعد تغير اولويات البيت الأبيض و الاتحاد الأوروبي على صعيد ما سمي بالاصلاح السياسي في بلدان العالم الاسلامي . 3 – يتعلق آخر الاستخلاصات وأهمها بحقيقة العلاقة بين السلطة والمجتمع من ناحية وبين هذا المجتمع و المعارضة من ناحية أخرى إذ أثبتت وقائع السنة المنصرمة أن المجتمع التونسي في عمومه لا يزال في وضعية اندغام ايجابي أو سلبي مع سلطة راعية مازال يراها قادرة أكثر من غيرها على تأمين احتياجاته التقليدية رغم بروز احتياجات جديدة تكشف عنها مظاهر احتجاج صامت أو ناطق مثل مظاهر العنف في الملاعب والشارع والفضاءات التربوية ومثل مظاهر التحول في السلوك الثقافي و الديني وهو ما لا يغيب عن حسابات السلطة في مقابل نخب معارضة يبدو أنها لا تملك تشخيصا دقيقا لهذه الاحتياجات الجديدة ما دامت تواصل الاغراق في هموم فكرية وسياسوية دون قدرة على الانصهار و الاستشراف . إن هذه الإستخلاصات لا تهدف إلى التأكيد على مكاسب دائمة للسلطة أو إلى تبخيس ذكاء المعارضة وقدراتها إذ لا بد أن نسجل للإنصاف جملة من نقاط الضوء في أسلوب هذه المعارضة وفعلها و دون إغراق في التنجيم يمكن أن نتوقع بأن تطور خطابات بعض الأطراف المعارضة المحسوبة تقليديا على قربها من السلطة سوف يمكنها هذه المرة من حيازة قدر من المصداقية لدى عموم الناخبين إذا ما توفر لها المقدار المطلوب من الجرأة و المبدئية . ومن ناحية أخرى نقدر دون تفاؤل واهم أن حركة التجديد ومن حولها من أطراف المبادرة وأن التكتل الديمقراطي بعد مؤتمره الأخير قادرون على التحول فعليا إلى أرقام معتبرة في المشهد السياسي القائم ما دامت هذه الأطراف منحازة على ما يبدو إلى أسلوب عقلاني واقعي واستقلالي في تمشياتها الحالية شرط أن تحذر من مطبات الوقوع مرة أخرى تحت ضغط مزاج سياسي تحكمه المزايدة ويوجهه التشنج وشرط أن تأخذ أيضا بعين الاعتبار الواقع الثقافي و القومي للجماهير التي تتعامل معها ولكن هذه التوقعات تبقى رهينة استعدادات السلطة للقبول بمعارضة لا تمنعها واقعيتها من الدفاع المبدئي على استقلاليتها ... وأخيرا فإن مجال السياسة ليس مجال الحقيقة المطلقة أو الخطإ المطلق ولا مجالا لطهورية المبادئ الطوباوية بل هو فن محاولة الممكن ... أقول جيدا فن محاولة الممكن.