حديث الصباح:الانتخابات: في خيار المقاطعة بقلم: عبد الحميد بن مصباح مع كلّ مناسبة انتخابيّة، يكون الموعد مع مقولة "مقاطعة الانتخابات"، وهذا الأمر لا تختص به الحالة التونسيّة وحدها، وإنما نراه في كثير من التجارب، بما فيها المعدودة ضمن التجارب العريقة.غير أنّ ما يلاحظ بالنسبة إلى المحطة الانتخابيّة التي نحن مقبلون عليها، أنّ مسالة المقاطعة لم تطرح بجديّة من قبل مجمل الفاعلين في الساحة السياسيّة الوطنيّة، باستثناء بعض الأصوات الخافتة التي لم تستطع باعتبار محدوديّة تأثيرها، وباعتبار عجزها عن تأصيل موقفها أن تؤثر في حالة الإجماع الوطني حول ضرورة المشاركة وجدواها. ومبدأ مقاطعة الانتخابات، يمكن اعتباره من "المبادئ الكونيّة" أو هو من "السلوكياّت السياسيّة العابرة للقارات"، إذ لا يمكن أن نربطه بنظام سياسي معيّن، ولا بفضاء مكاني معيّن، بالنظر إلى امتداده، والى اعتماده من قبل أكثر من طرف سياسي في أكثر من مكان في العالم، مع اختلاف في الدوافع والمنطلقات. وفي تونس، حصل "تجريب" هذا المبدأ سابقا، سواء من قبل طرف سياسي واحد أو من قبل مجمل الأطراف الفاعلة حقيقة في الساحة السياسيّة، ولعلّ المثال الأبرز، هو مقاطعة تشريعيّة 1986، التي كانت من الوجهة الزمنيّة لاحقة لانتخابات 1981 "الشهيرة"، و"التاريخيّة"، إلى جانب ما سجّلناه من مقاطعات "متقطّعة" من قبل بعض الأحزاب السياسيّة القانونيّة في مناسبات انتخابيّة لاحقة. منطق الكراسي الشاغرة موضوع المقاطعة من المواضيع الموغلة في التعقيد، وهو موضوع إشكاليّ بامتياز رغم ما يظهر عليه من وضوح خادع، والسبب في ذلك، أنّ هذا الموضوع يتطلب الخوض فيه، الإلمام بخصائص الفضائين المكاني والزماني اللذين يحصل فيهما فعل المقاطعة، وبالتالي الإلمام بتفاصيل المشهد السياسي وطبائع مكوّناته. فالمقاطعة، وبقطع النظر عن "حجم" الجسم السياسي الذي يدعو إليها، يمكن أن تكون ذات جدوى سياسيّة وذات نجاعة نضاليّة، طالما توفّرت شروطها الموضوعيّة. فالمعلوم أنّ "الشرعيّة الأسمى" هي تلك التي يفرزها الصندوق (صندوق الاقتراع)، وشرعيّة الصندوق بدورها لا تتحقق إلاّ عبر آليّة التنافس التي تتطلب طرفين على الأقل، وعليه، فانّ القراءة العكسيّة لهذا التسلسل المنطقي، تجعل من نفي فعل المنافسة مساسا بشرعيّة الصندوق، وبالتالي من شرعيّة العمليّة الانتخابيّة ككل. كان هذا هو "المنطق" الذي سيّر مقاطعي انتخابات 1986، تأسيسا على أنّ سلطة دولة 1986 كانت ذات شرعيّة "ممسوسة"، وقد ظهر ذلك بجلاء، في المظهر الشعبي للشرعيّة (الشرعيّة الشعبيّة) من خلال النتائج الحقيقيّة لانتخابات 1981، وفي المظهر المؤسساتي للشرعيّة، من خلال ما ظهر بوضوح من عجز المؤسسات عن تأطير الفعل الشعبي وتوجيهه، ومن أمثلته البارزة، مثال "أحداث الخبزة" في مستهل 1984، هذا بالإضافة إلى الشرعيّة "الدوليّة"، من خلال ما ظهر في تلك الفترة من انعدام الثقة لدى المحيط الدولي في مستقبل تونس ومستقبل نظامها السياسي. وبالفعل، فقد كان لفعل المقاطعة ذاك أثره، وليس أدلّ على ذلك، من إصرار الإدارة على اعتبار الأحزاب السياسيّة مشاركة في الانتخابات رغم أنها (أي الأحزاب) أعلنت انسحابها قبل الاقتراع بأيام. منطق "الكراسي الشاغرة" بالنسبة إلى سلطة مرميّة بنقص الشرعيّة، لا يمكن ان يكون إلاّ محرجا، وهذا ما راهن عليه المقاطعون. والسؤال الذي يطرح الآن، هو هل يمكن ان نقيس واقع انتخابات 1986، عن واقع انتخابات أكتوبر القادم؟ الجواب يبدو بديهيّا، وتلخيصه، أنّ السلطة السياسيّة الحالية مستوفية لجملة "شروط الشرعيّة"، ومحققة لجملة تمظهراتها، وهو ما يعني بالنهاية، أنّ أيّ دعوة إلى المقاطعة لن تكون أكثر من فعل عبثي، وإهدار غير وظيفي للطاقة الذاتيّة السياسيّة. منطق "الكراسي الشاغرة" في الحالة التونسيّة الرّاهنة لا يمكن ان يكون ذا موضوع، لانّ الكراسي لن تكون شاغرة في كلّ الأحوال، بحكم الالتفاف الشعبي والمؤسساتي حول عديد الثوابت الوطنيّة، وبحكم تطابق وجهات النظر السياسيّة بين السلطة ومعارضيها في كثير من الملفات، على الأقل في مستوى الخطوط العريضة. المقاطعة: المقاصد في النوايا صعوبة تحليل فعل المقاطعة، لا يقف عند هذا الحدّ. فلئن كان "الرّكن المادّي" للمقاطعة واضحا، وغير مختلف فيه، فانّ الاختلاف كلّه في "الرّكن المعنوي"، أي في النوايا، ذلك أنّ الفاعل السياسي يمكن ان يعبّر بالفعل الواحد (فعل المقاطعة) عن الأمر ونقيضه. فالمقاطعة يمكن ان تكون تعبيرة من تعبيرات الاحتجاج عن نظام سياسي ما، وعن واقع سياسي ما، سواء عن تشريعاته أو عن تطبيق تلك التشريعات، كما يمكن ان تكون المقاطعة "حيلة" من حيل الهروب من المواجهة، وخوفا من ان تكشف الانتخابات الحجم الحقيقي لجسم سياسي ما، من خلال تبيّن امتداده في الوسط الشعبي، كما يمكن ان تكون تبريرا "نضاليّا" للتكاسل والتواكل. وتمييز هذا من ذاك، يمرّ عبر دراسة النوايا والمقاصد، وهي (أي النوايا) مسالة باطنيّة، لا "تدركها الحواس". وتزداد الصعوبة، حين نعلم، انّ قيس نسب المقاطعة من الصعوبة بمكان، خلافا لقيس نسب المشاركة، فعدم التصويت لا يفهم ضرورة على انه استجابة لدعوة المقاطعة، لانّ ذلك قد يكون مردودا إلى سلوك فردي تلقائي، أو نتيجة لطارئ أو مانع شخصي أو نحو ذلك. وعلى هذا الأساس، فانّ ملاحظة مدى اثر الدّعوة للمقاطعة، إنما يقاس بمدى تأثيره واقعيّا في جمهور الناخبين، ولا اعتقد أنّ الأمر في حاجة إلى مؤسسات مختصّة في سبر الآراء، لنعلم ان لا اثر ولا تأثير، بل لا وجود أصلا لتفاعل من لدن المواطن التونسي مع الدعوة إلى المقاطعة، وان وجد من هو غير معني بالانتخابات (وهم كثيرون)، فانّ ذلك قد يكون مردودا إلى افتقاد الحقّ في التصويت لعدم الترسيم (وتلك مسالة ثانية لا نخفي أهميتها)، أو لأنّ البعض يعتبر "صوته غير مهم" (وتلك مسالة ثالثة لا نخفي أهميّتها كذلك). انتخابات قياسيّة غياب الجدوى من المقاطعة، يبدو أنّ الجميع أدركه، لذلك سجّلنا إقبالا جماعيّا من مختلف الأحزاب السياسيّة على المشاركة في الموعد التشريعي. وانّ النظر إلى الملامح الأوليّة للمشهد الانتخابي في وجهيه الرّئاسي والتشريعي، يجعلنا نحكم بمنتهى اليقين، أننا مقبلون على انتخابات بقياسات غير مسبوقة، وذلك من خلال: - العدد القياسي للمترشحين إلى الانتخابات الرئاسيّة. - العدد القياسي للأحزاب السياسيّة المشاركة، إذ لأوّل مّرة تتقدّم إلى الانتخابات تسعة أحزاب، باعتبار أنّ حزب الخضر للتقدم الحديث التكوين يتقدّم للمرّة الأولى، وباعتبار قطع الجميع مبدئيّا مع المقاطعة. - العدد القياسي للقائمات المتقدمة، مع التحاق بعض الأحزاب ب "نادي الكبار" (حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، حزب الوحدة الشعبية، الاتحاد الديمقراطي الوحدوي)، الذين تعوّدوا على تغطية كافة الدوائر الانتخابيّة، في انتظار ان تقول الإدارة كلمتها في قانونيّة الترشحات - المشاركة القياسيّة للأحزاب، والعدد القياسي للقائمات، سيتبع آليّا برقم قياسي آخر يتعلق بعدد المترشحين. انتخابات ذات ميزات انتخابات 25 أكتوبر القادم، عنوانها: مقاطعة المقاطعة ونصها: أصل لا نسخة له.