لبلبة تكشف تفاصيل الحالة الصحية للفنان عادل إمام    بعد هجومه العنيف والمفاجئ على حكومتها وكيله لها اتهامات خطيرة.. قطر ترد بقوة على نتنياهو    برشلونة يقلب الطاولة على بلد الوليد ويبتعد بصدارة "الليغا"    ربيع الفنون بالقيروان يُنشد شعرا    في لقائه بوزراء .. الرئيس يأمر بإيجاد حلول لمنشآت معطّلة    الدوري الفرنسي.. باريس سان جيرمان يتلقى خسارته الثانية تواليًا    غدا: حرارة في مستويات صيفية    منير بن صالحة: ''منوّبي بريء من جريمة قتل المحامية منجية''    مؤشر إيجابي بخصوص مخزون السدود    عاجل/ قضية منتحل صفة مدير بديوان رئاسة الحكومة..السجن لهؤولاء..    صفاقس : المسرح البلدي يحتضن حفل الصالون العائلي للكتاب تحت شعار "بيتنا يقرأ"    الأطباء الشبان يُهدّدون بالإضراب لمدة 5 أيّام    بداية من 6 ماي: انقطاع مياه الشرب بهذه المناطق بالعاصمة    الرابطة الأولى: الاتحاد المنستيري يتعادل مع البقلاوة واتحاد بن قردان ينتصر    القصرين: قافلة صحية متعددة الاختصاصات تحلّ بمدينة القصرين وتسجّل إقبالًا واسعًا من المواطنين    سامي بنواس رئيس مدير عام جديد على رأس بي هاش للتأمين    طقس الليلة: الحرارة تصل الى 27 درجة    وزير النقل يدعو الى استكمال أشغال التكييف في مطار تونس قرطاج استعدادا لموسم الحجّ وعودة التّونسيين بالخارج    نادي ساقية الزيت يتأهل لنهائي الكأس على حساب النجم    كلاسيكو اوفى بوعوده والنادي الصفاقسي لم يؤمن بحظوظه    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: المنتخب التونسي يضيف ثلاث ميداليات في منافسات الاواسط والوسطيات    منوبة: 400 تلميذ وتلميذة يشاركون في الدور النهائي للبطولة الاقليمية لألعاب الرياضيات والمنطق    "براكاج" يُطيح بمنحرف محل 26 منشور تفتيش    غدا.. قطع الكهرباء ب3 ولايات    إحالة رجل أعمال في مجال تصنيع القهوة ومسؤول سام على الدائرة الجنائية في قضايا فساد مالي ورفض الإفراج عنهما    بداية من الاثنين: انطلاق "البكالوريا البيضاء"    دقاش: شجار ينتهي بإزهاق روح شاب ثلاثيني    عاجل/ سرقة منزل المرزوقي: النيابة العمومية تتدخّل..    الكلاسيكو: الترجي يحذر جماهيره    بعد منعهم من صيد السردينة: بحّارة هذه الجهة يحتجّون.. #خبر_عاجل    البنك الوطني الفلاحي: توزيع أرباح بقيمة دينار واحد عن كل سهم بعنوان سنة 2024    "البيض غالٍ".. ترامب يدفع الأمريكيين لاستئجار الدجاج    الحج والعمرة السعودية تحذّر من التعرُّض المباشر للشمس    دراسة جديدة: الشباب يفتقر للسعادة ويفضلون الاتصال بالواقع الافتراضي    البطولة العربية للرماية بالقوس والسهم - تونس تنهي مشاركتها في المركز الخامس برصيد 9 ميداليات    هند صبري: ''أخيرا إنتهى شهر أفريل''    عاجل/ ضحايا المجاعة في ارتفاع: استشهاد طفلة جوعا في غزة    جندوبة: استعدادات لانجاح الموسم السياحي    وفاة وليد مصطفى زوج كارول سماحة    المأساة متواصلة: ولادة طفلة "بلا دماغ" في غزة!!    قبل عيد الأضحى: وزارة الفلاحة تحذّر من أمراض تهدد الأضاحي وتصدر هذه التوصيات    السلطات الجزائرية توقف بث قناة تلفزيونية لمدة عشرة أيام    صُدفة.. اكتشاف أثري خلال أشغال بناء مستشفى بهذه الجهة    الموت يفجع الفنانة اللبنانية كارول سماحة    التلفزيون الجزائري يهاجم الإمارات ويتوعدها ب"ردّ الصاع صاعين"    الولايات المتحدة توافق على بيع صواريخ بقيمة 3.5 مليار دولار للسعودية    الاستعداد لعيد الاضحى: بلاغ هام من وزارة الفلاحة.. #خبر_عاجل    ترامب ينشر صورة بزيّ بابا الفاتيكان    غارات إسرائيلية عنيفة تستهدف مواقع مختلفة في سوريا    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    تونس تستعدّ لاعتماد تقنية نووية جديدة لتشخيص وعلاج سرطان البروستات نهاية 2025    مقارنة بالسنة الماضية: إرتفاع عدد الليالي المقضاة ب 113.7% بولاية قابس.    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماسيمو داليما يُطلق النار من تونس على النظام الليبرالي
نشر في السياسية يوم 30 - 11 - 2008

آن الأوان لنظام عالمي جديد يقوم على الاحترام المتبادل وسيادة الدول وسلطة المنظمات الدوليّة
انعقدت بأحد فنادق الضاحية الشماليّة للعاصمة الندوة الدوليّة العاشرة للتجمّع الدستوري الديمقراطي احتفالا بالذكرى 21 لحدث 7 نوفمبر 1987 ، واستقطبت هذه الندوة الاهتمام المحلّي والدولي بالنظر إلى المسألة الّتي عالجتها "المشاركة السياسيّة في عالم مُتغيّر" وإلى طبيعة المشاركين والّذين بلغ عددهم 130 من الشخصيات السياسيّة وممثلي أكثر من 60 حزبا قدموا من 45 بلدا. "السياسيّة" واكبت الندوة وتقدّم لقرائها أحد أهمّ المداخلات وهي للسيّد "ماسيمو داليما" رئيس الوزراء ووزير الخارجيّة الإيطالي الأسبق الّذي أبرز أهمّ خصائص المشهد السياسي الدولي الراهن في علاقة بآخر التطوّرات العالميّة على مستوى العلاقات بين الدول وتداعيات الأزمة الماليّة الحالية، في ما يلي نصّ المداخلة كاملا

" عشنا منذ سنة 1989 حتى اليوم حقبة من التحوّلات العميقة غير أنّ الأزمة الكبرى التي هزّت الأسواق المالية خلال أكتوبر 208 تمثل قطعا منعرجا تاريخيا، فليس بمقدورنا أن ننظر إلى الحدث باعتباره إحدى الأزمات الدوريّة التي اعتدنا تسجيلها حتى اليوم. إنّ ما نحن بصدده يعدّ تحوّلا عميقا يطال الاقتصاد العالمي والزّمن وحده كفيل بتمكيننا من إنجاز تقيم شمولي لانعكاساته. الأزمة لا تؤثر على القطاع المالي فحسب وإنّما أيضا على الاقتصاد الحقيقي وعلى المجتمع. وبالخصوص فإنّ الأمر لا يتعلّق فقط بأزمة اقتصادية وإنّما بتراجع لحقبة ثقافية وسياسية كاملة. فمنذ سنة 1989 حتى اليوم هيمنت ثقافة ليبرالية متطرّفة على الصّعيد العالمي وبعبارة أخرى فإنّ فكرة العولمة قد تكون تحقّقت من خلال هيمنة سوق دون قيود أو ضوابط أو مؤسسات ، فخلال أكثر من خمسة عشر سنة تمّ تكريس مفهوم مؤداه أن نهاية التاريخ ونهاية الأيديولوجيات قد يكونا أنتجا عهدا جديدا من الازدهار والوئام والتناسق. واليوم يثبت بالكاشف أن نظرية الاقتصاد المتحرّر بالكامل من قيود السّياسة وضوابطها قادر على إنتاج تأثيرات نافعة وضمان التنمية وخلق الثروات للجميع... إنّها نظرية خاطئة. فالثقة غير المشروطة في الأسواق قد انتهت وولّى عهدها والحاجة للسياسة ولتدخّل الدّولة في الاقتصاد ولوجود قواعد ومؤسّسات غير وطنيّة قادرة على التحكّم في سوق شموليّة قد طفت على السّطح من جديد. وعليه فإنّ السّياسة التي اعتبر البعض أنّه لا دور لها سوى ذاك الذي يمنحه إيّاها الاقتصاد عادت لتفرض وجودها كضرورة لا مهرب منها.ندرك جيّدا أنّ عودة السياسة هذه يمكن أن تتم عبر صيغ متنوّعة وجد مختلفة ، والتاريخ يعلمنا أنّه بع الأزمة الكبرى 1929 مكن عمل الدولة أمريكا من تحقيق إقلاع اقتصادي قويّ رافقه تعزيز الديمقراطية ، كانت تلك الفترة الزّاهرة للطريق الجديد أو المعطى الجديد: استثمارات اقتصادية كبرى وقواعد تنظيميّة للسوق وإصلاحات ونهوض اجتماعي للطبقات الأكثر فقرا. وخلال السّنوات ذاتها في أوروبا تسبّبت الأزمة وعلى العكس من ذلك في انعطاف حاد نحو اليمين سبقته ومهّدت له النزاعات الوطنيّة الاقتصاديّة المتطرّفة والشّرسة وتصاعد النزاعات الفئويّة والحمائيّة ، ففي إيطاليا تعزّز موقع النظام الفاشي وفي ألمانية ولدت النّازية التي فتحت بميلادها الباب نحو الحرب العالميّة الثانية.وهكذا فإنّ الأزمات الكبرى يمكن أن ينجر عنها إحساس بعدم الأمان ومشاعر الخوف والحقد التي تقوّي شوكة اليمين المناهض للديمقراطية وذي النّزعة القوميّة الشوفينيّة. وفي أوروبا الراهنة نشهد أيضا بروز توجهات قوية تنحوا باتجاه التراجع.إن الجميع يرد الفعل عبر التأكيد على ضرورة الانسحاب والانطواء على الحدود الذاتية والتبشير بفكرة أوروبا ك"قلعة منيعة" تكفل الدفاع بصورة وهمية عن رفاهتها وامتيازاتها وأمنها ضد منافسة البلدان الصاعدة وضد الهجرة.يتعين أن تكون لدينا الشجاعة كي نتساءل عما إذا كانت تلك هي السياسة التي نحتاجها لمجابهة التحولات العميقة التي نحن بصدد معايشتها. واني لعلى يقين بأنّ الأمر ليس كذلك. وأعتقد على العكس بأن سياسة يحكمها الخوف والأنانية من شأنها مفاقمة كل المشاكل القائمة. كما اعتقد انه من باب الوهم أن تتخيل انه بإمكاننا وقف هذا المسار القوي الذي نسميه العولمة في حين انه يتوجب التحكم في هذه الظاهرة كي يتمكن الجميع من التمتع بالمزايا التي تحملها العولمة مع العمل على القضاء على محاذير الحيف المتفاقمة ومظاهر الصراع والنزاع. إن المسار الذي يتعين قطعه هو طريق الإدارة العالمية الشاملة المرتكزة على مشاركة واسعة للبلدان والشعوب وعلى مؤسسات دولية محددة. إن إدارة ذات نمط تكنوقراطي تظلّ غير كافية إن لم تتمّ إعادة النّظر فيها وتوسيعها. إن" ما يتوجّب مراجعته هو النّموذج نفسه: بعبارة أخرى نحن بحاجة إلى حكومة شاملة يتعيّن أن تستعيد صلبها السياسة دورها التوجيهي ووظيفتها كمحدّد للأولويات ، إدارة تكون ركيزتها قاعدة المسؤولية الديمقراطيّة وهذا في اعتقادي مسار طويل وعسير وشاق، لكنّه يظل الخيار الوحيد الذي يمكّن من التحكّم في التحوّل العميق الذي تبيّن أنّه أكثر تعقيدا مما كان يتخيله القادة الغربيون غداة سقوط جدار برلين ونهاية الشّيوعيّة.لقد كانت النزعة التفاؤليّة للغرب تنظر للعولمة باعتبارها توسّعا ممكنا –بعد انتهاء الحرب الباردة وانقسام العالم- للنموذج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمؤسساتي الغربي. إنّه ضرب من المسارات ذات الاتجاه الواحد الذي يمكن عبره بيع سلعنا وأفكارنا، إنّه مفهوم خاطئ ومغلوط: وأزمة الأسابيع الأخيرة، وبعد صدمة الهجوم على نيويورك في سبتمبر 2001، بصدد البرهنة على ذلك مرّة أخرى. وكان الرّئيس بيل كلينتون صرّح آنذاك بأنّ الهجوم الإرهابي ضدّ قلب أمريكا قد كشف الوجه المظلم للعولمة. لكن أحداث الراهن تثبت لنا بدورها أنّ العولمة ظاهرة معقّدة، محمّلة بتناقضات مأساويّة اقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة. لقد أتاحت بروز فرقاء جدد مهمّين على صعيد السّوق العالميّة حيث يتواصل تدفّق كتل بشريّة كانت تعاني قبل ذلك الإقصاء. غير أنّها تجرّ صنفا جديدا من الحيف والتفاوت، ليس فقط بين البلدان وإنّما أيضا داخل كلّ بلد.في أوروبا والولايات المتّحدة زادت الفوارق الاجتماعية بشكل رهيب. ومن جهة أخرى، هناك تلك الأقليّات التي تمكّنت من التمتّع بالمزايا الاستثنائيّة المرتبطة بهيمنة المال على الاقتصاد، ومن جهة أخرى هناك عالم العمل وهذه الطبقات الوسطى التي لحقها التفقير بصورة تدريجيّة.وفي المحصّلة فإنّ السّبب العميق للأزمة الماليّة ليس فقط واقع السّوق التي يحكمها منطق المضاربة المفرطة والتي لا تخضع لقواعد، وإنّما بالخصوص مشكل اجتماعي عميق، متّصل بحقيقة أنّ الأسر الأمريكيّة قد عجزت عن سداد ديونها إزاء البنوك وهي أموال تحصّلت عليها هذه الأسر من أجل تمويل استهلاكها أو من أجل شراء مساكن. وعلى الصعيد السّياسي والثّقافي لم ينبثق عن العولمة عملية التوحيد والتّنميط المرتقبة والمنشودة. بل على العكس من ذلك فإنّ الشّعوب التي شعرت بأنّها مهدّدة في منظومتها القيميّة الذاتيّة وفي هويّتها الثقافيّة والدّينية قد انتهجت طريق التعبئة في مناهضتها للغرب ونزعته للهيمنة. كما غذّى هذا الشّعور بروز تيارات أصوليّة رجعيّة خطيرة.وإذا كان صحيحا أنّ العولمة هي كلّ ذلك، فإنّ الأمر يطرح بشكل ملحّ مسألة كيفيّة إدارتها وكيفيّة تثمين الفرص التي تتيحها والحيلولة دون المحاذير التي تنطوي عليها. إنّ السّياسة التي نحتاجها ليست تلك التي تستسلم إلى النزعات الانطوائيّة والحمائيّة، ونزعات بناء حواجز هشّة في عالم يمثّل فيه التنقّل الحرّ للأشخاص والثقافات والبضائع ورؤوس ألموال واقعا لا رجعة فيه.إن السياسة التي نحن بحاجة إليها هي الإدارة الشّاملة التي تعني التبنّي المشترك لأهداف ومسؤوليات يتعيّن مع ذلك أن تخضع لمحاسبة المواطنين وفقا لمسارات ديمقراطيّة وشفافة. والمحور المركزي اليوم يتعلّق بالفاعلين والأدوات التي يتمّ بواسطتها ممارسة هذه الإدارة، فضلا عن الصّيغ والضرورة ولإرساء أجندة مشتركة حول المسائل الحيويّة والأهداف السّياسّة الرّئيسيّة.إنّ الجواب الضروري للتعاطي مع أزمة عالميّة بهذا الحجم.. أزمة قادرة على تغيير التوازنات الجيوسياسية القديمة. يتعيّن أن يتمّ البحث عنه على صعيد تعزيز شبكة أوسع من التعاون وقرارات جماعيّة ومؤسّسات وأجهزة دولية أكثر صلابة وإدماجية لمختلف المصالح على الميدان وقادرة أيضا على تمثيل البلدان الأكثر ضعفا. إنّه يتوجّب تحقيق منعرج عندما يتبيّن أن الإدارة أو الحكومات الشاملة لا يمكنها مواصلة الاضطلاع بمهمّة قيادة مشتركة للبلدان الأكثر غنى مع خطر التسبّب في اختلالات ونزعات جديدة.ذاك في رأيي ما نسمّيه اليوم ب"المشاركة السّياسية": إنّه تعاون دوّلي أكثر كثافة حيويّة وأكثر إدماجا لمصالح الجميع.ويهدف التعاون الدّولي إلى أن يضفي على المشاركة السّياسيّة اليوم الأبعاد القيميّة وأسباب الدّفع ومقوّمات القدرة على إطلاق اللّعبة مجدّدا وفقا لتنظيم جديد وقواعد جديدة وعبر وطنيّة وذلك في كنف الوعي التّام بأنّه من الضّروري النهوض بأنماط جديدة من التنميّة وتشخيص برامج تكفل دعم التقدّم الاجتماعي والحدّ من الفوارق.ففي هذه اللحظة بالذّات يتمّ التصويت في الولايات المتّحدة الأمريكية وللمرّة الأولى تسجل زمنيّا مصادفة بين الأزمة الماليّة الدّولية والانتخابات الأمريكية وهو أمر يبرز الوزن الكبير لاختيارات المواطنين الأمريكيين. وقبل بضعة أسابيع أتيحت لي الفرصة خلال مشاركتي بنيويورك في الاجتماع السّنوي لمؤسّسة "كلينتون للمبادرة الشّاملة" "كلينتون غلوب انيسياتيف" أن أستمع مباشرة إلى جون ماكين وعبر الأقمار الصّناعية من فلوريدا إلى مداخلة للسيناتور باراك أوباما. لقد دهشت لكون المرشّحين قد حاولا تقديم نفسيهما على أنّهما مجدّدين مقارنة بتجربة إدارة جورج والكر بوش التي تتّسم بعد شعبيّة واسعة لدى الرّأي العام الأمريكي. وليس هناك شكّ بأنّ الأمر الجديد الأكثر عمقا وراديكالية هو ما يمثّله المرشّح الديمقراطي وذلك ليس فقط للاعتبارات السياسيّة الأكيدة أي أنّه يمثّل طرفا بديلا للجمهوريين الذين تولّوا الحكم طوال ثماني سنوات. إن باراك أوباما يمثل تجديدا على مستوى الجيل وعلى المستوى الثقافي. لقد فوجئت عند استماعي إلى مداخلته بأنّه يتحدّث عن إفريقيا ومشاكلها المأساويّة ويشير إلى جدّته التي تعيش في إحدى قرى كينيا. إنّ رئيسا للولايات المتّحدة يقدّم نفسه على هذه الصّورة سيكون قطعا زعيما عالميّا وليس فقط قائدا للعالم الغربي. وإنّي أعتقد أنّه يتعيّن ألا نستهين بالأثر الجليل الذي يمكن أن يحدثه هذا الأمر على صعيد تغيير واقع العالم عبر فتح طور جديد من العلاقات الدّوليّة – وهو ما نتمنّاه- طور من التّعاون. إنّها لمهمّة عسيرة ولكنّها محفزة تلك التي تنتظر السّياسة شريطة أن تكون تلك السّياسة قادرة على التحرّك الفاعل من أجل الاستفادة من الفرص التي توفرها رغم كلّ شيء الأزمة وألاّ يقتصر الحال على الخضوع لانعكاساتها السّلبيّة، وعليه فإنّه لا يتوجّب تضييع فرصة العمل على واجهتين رئيسيتين هما: - إصلاح المنظمات الدّوليّة- النهوض باندماج إقليمي أكبر وأقوى بالاستلهام من نموذج الاتحاد الأوروبي.وقبل كلّ شيء – وهو ما يعدّ مستقبلا من الآراء الأكثر شيوعا – فإنّ الوقت قد حان لإصلاح نمط الإدارة العالميّة وتعزيز أدواته بصورة جذريّة انطلاقا من الأمم المتحدة ووصولا إلى مؤسّسات "بريتون وودز". يتعيّن أن نبادر بجرأة وتصميم إلى مراجعة الهيكلة الموروثة من القرن الماضي والتي لا يمكنها الصّمود أمام التغيير الجذري والمعقّد الذي نحن بصدد معايشته. فالضرورة تقتضي إرساء قواعد وآليات جديدة تنصهر ضمن منطق تكامل متنام يتجاوز في مسار تجسيمه اعتراضات البلدان الكبرى على التخلّي عن سيادتها. لنفكّر مثلا كم أضحى من العسير تواصل التناقض بين سّلطات الرّقابة الوطنيّة والسّوق العالميّة والدّور الذي يمكن أن يضطلع به صندوق نقد دوّلي تمّ إصلاحه وتعزيزه وتمكينه من وظائف المراقبة والرّقابة.ولنفكّر أيضا في مجموعة الدّول الثماني التي تعدّ كهيكل غير رسمي وكأداة عمليّة ذات وظيفة معدومة إن لم يتم وبصورة جذريّة مراجعة تركيبتها. فأي من الملفات التي يمكن أن تصل إلى مائدة النقاش صلب اجتماعات هذه المجموعة – على غرار المسالة البيئية ومسالة الطّاقة وقضيّة مكافحة الفقر والمرض – لا يمكن تناولها بصورة جدّية بدون حضور بلدان مثل الصين والبرازيل والمكسيك والهند وجنوب إفريقيا وأيضا مصر وهي جميعها ليست اليوم أعضاء في مجموعة الثماني.وإلى جانب الحاجة الملحة إلى عمليّة إصلاح جديدة للمنظمات الدّولية فإنّ الضرورة تقتضي أيضا النهوض باندماج إقليمي أكثر نجاعة تحديدا لأنّ الدفاع عن السّيادة الوطنيّة في عالم متفاعل مترابط يضفي على الأوضاع برمتها مزيد الهشاشة ، ومن هذه الوجهة ورغم الحدود والمشاكل التي يتعيّن عليها هي أيضا تخطيها فإنّ الاتحاد الأوروبي يمثل مرّة أخرى نموذجا استثنائيا للاندماج يجدر النّسج على منواله.لقد مثّلت أوروبا الموحّدة مسارا كبيرا للسلام أثبت قدرته على مصالحة
الشّعوب على طول الحدود التي شهدت اندلاع حربين عالميتين وحيث سقط ملايين القتلى. لقد داوت أوروبا جراحها تحفزها في ذلك عوامل داخلية وأقامت سوقا مشتركة عبر تركيزها على رهانات وطنيّة وقاريّة. لكن اليوم فإنّ السيناريوهات وتوازنات القوّة قد تغيّرت والمؤسّسات الأوروبيّة بدورها يتعيّن أن يتمّ تعزيزها وإصلاحها حتى تتمكن أوروبا من امتلاك أسباب التحرّك الفاعلة والمنافسة على الصّعيد العالمي. إنّها رهانات خارجية تقتضي من أوروبا إنجاز انتقال نوعي على مستوى مسار الاندماج وفي غياب ذلك فإنّ الدّول الوطنيّة الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ستشهد مكانتها تراجعا على المستوى العالمي.إنّ الأمر نفسه قد يطال أيضا وبنفس الدّرجة هذه المنطقة. وبالفعل فإن يمكن على صعيد المغرب العربي بذل جهد أكبر من أجل اللحاق بهذا المستوى من الاندماج الذي لا زال يواجه مسار تطويره صعوبات وهو ما سيكسب بالتأكيد المنطقة برمتها والفضاء المتوسطي ككل مقومات قوّة أكبر.إن حيازة مكانة فاعل إقليمي ذي أبعاد شمولية يمثل الشّرط اللازم والضّروري لرفع التحدّي الذي تطرحه القوى الصّاعدة أو تلك القوى التي تزحف بنسق ثابت نحو احتلال مكانة هامة على الساحة العالمية... وأقصد هنا الصين والهند. وفي الجملة فإنّ هذا الجانب الثاني من المسار الذي يتعيّن علينا تجسيمه –أي الاندماج الإقليمي- يرتكز هو أيضا على أخذ حجم الصعوبات والتحدّيات التي تنتظرنا بعين الاعتبار. وإنّ الاستحقاقات المطروحة على غرار مكافحة الفقر وتنظيم التجارة العالميّة ومشكلة الطّاقة ومكافحة الإرهاب... لا يمكن مجابهتها استنادا إلى منظور إقليمي ، فليس بمقدورنا أن نظل حبيسي رؤية وطنيّة للمشاكل المطروحة على المستوى العالمي وذلك لأن الأطراف التي ستتحمل القسط الأوفر من الآثار السلبية ستكون مرّة أخرى البلدان الأكثر ضعفا فلنفكر في الضّرر الجسيم الذي تسبب فيه فشل جولة الدّوحة للجميع وبخاصة للبلدان الأكثر هشاشة والتي كان من بين أهدافها إمكانية إبرام إتفاقات إقليمية من أجل إحكام الإطار متعدّد الأطراف الذي سجل فشلا متلاحقا.إنّنا جميعا متعلّقون بحكم تجربتنا السياسية وتكويننا الثقافي بقيمة الدول الوطنيّة وندافع بشدّة عن مبدأ الاستقلال والسّيادة. وهذا بالخصوص موقف البلدان التي حصلت على استقلالها وسيادتها بعد تجارب استعمارية أو عند انعتاقها من الهيمنة الأجنبية. غير أنّه وكما يبدو دوما بوضوح لا تمتلك الدّول فرادى القدرات السياسية والموارد المادية الملائمة ليكون لها تأثير على المسارات الشموليّة. لذلك يصبح من الضروري تقاسم السلطة الوطنية مع بلدان أخرى بدلا من الانعزال في تطلع وهمي ولا طائل من ورائه إلى اكتفاء ذاتي قومي. إن توحيد طاقاتنا هو السبيل الوحيد لمجابهة المشاكل وكي نوفر لشعوبنا أفق السلام والتنميّة.إنّه بالإمكان بل وينبغي أن يكون البحر الأبيض المتوسط مثالا للحوار وللتعاون الناجع ، فوراءنا تاريخ طويل مشترك كانت خلاله فتوات التعاون والتعايش السلمي بالتأكيد أطول وأعمق أثر من فترات النّزاع. وقد تحول محور العلاقات الدولية خلال القرنين الماضيين نحو المحيط الأطلسي ثم نحو المحيط الهادي واليوم يسترجع البحر الأبيض المتوسط مركزه في قلب الرهانات العالمية.فعبر بحرنا تمرّ العلاقة بين البلدان المنتجة والبلدان المستهلكة لنفط والغاز وهنا نقف فير وجه تحدّي التطرف وتهديد الإرهاب. إن مأساة الهجرة وظاهرة المهاجرين غير الشرعيين تهمان البحر الأبيض المتوسط أكثر من أي منطقة أخرى في العالم لكن ليست هناك المخاطر والمشاكل فقط بل توجد أيضا الفرصة السانحة كي نجعل من بحرنا فضاء مميّزا للتعاون والأمن والسّلام.وتشكّل التنمية المستديمة والحوار بين الثقافات والتعاون الاقتصادي والدّفاع عن الأمن البعض من القطاعات الإستراتيجية التي يتعيّن علينا العمل فيها سويّا ، وكانت هناك إلى حدّ الآن عديد النوايا الحسنة على غرار مسار برشلونة كما سجلت تجارب مهمّة وإن كانت جزئية وأقصد تجربة المجموعة المعروفة باسم مجموعة 5 زائد 5 ، ويجب الآن أن يصبح الاتحاد من أجل المتوسط أرضية قادرة على دعم العلاقات السياسية والتقدّم على طريق تحقيق مشاريع ملموسة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.