حاوره علي البهلول التونسية (تونس) الدكتور فريد العليبي أستاذ للفلسفة بكلية الآداب بصفاقس مختص في الفلسفة العربية التي أنجز حولها عملين بحثيين أحدهما بعنوان «العقل والتعقل عند ابن باحة» ( 1994 ) والثاني بعنوان« إشكالية السياسة عند ابن رشد» والعمل الأول لم يصدر بعد للعموم وبقي داخل أسوار الجامعة أما الثاني وهو رسالة دكتورا فقد صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت ( 2007 ) تحت عنوان «رؤية ابن رشد السياسية». وفضلا عن هذا أنجز د. فريد العليبي جملة من المقالات حول عدد من الإشكاليات الفلسفية المتنوعة وهي منشورة في بعض المجلات التونسية والعربية المختصّة. وعند اندلاع الانتفاضات العربية تركز اهتمامه على فهم هذا الحدث التاريخي وأثمر ذلك كتابين صدرا في تونس الأول عنوانه : تونس الانتفاضة والثورة ( 2011 ) والثاني بعنوان «الربيع العربي والمخاتلة في الدين والسياسة »(2013) .قاده الاهتمام بالشأن الفلسفي إلى العمل مع ثلة من الأساتذة ضمن الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية التي ترأس لبعض الوقت فرعها في بنزرت ثم أصبح عضوا في هيئتها المديرة وهيئة تحرير مجلتها ، كما ساهم في الكتابة في الموقع الالكتروني لرابطة العقلانيّين العرب « الأوان » الذي نشر فيها حوالي أربعين مقالا لا يزال أغلبها ينتظر النشر الورقي .أما في مجال الاهتمام بالشأن النقابي في الجامعة فقد شرف زملاءه في كلية الآداب بالقيروان بانتخابه كاتبا عاما للنقابة الأساسية وعلى صعيد العمل السياسي يتولى حاليا الأمانة العامة ل«حزب الكادحين». «التونسية» التقته في هذه الدردشة . أستاذ، كيف ترى الواقع السياسي اليوم في تونس ؟ الواقع السياسي في تونس واقع أزمة والبلاد تمرّ الآن بحلقة جديدة ضمن سلسلة الأزمات التي عصفت بها منذ زمن طويل فالأزمة تعود إلى عهود سابقة أي إنها ليست جديدة. فتونس خلال حكم بورقيبة وبن علي كانت أيضا في أزمة وتحت حكم اليمين الديني لم تحل تلك الأزمة بل إنها تفاقمت على نحو خطير وهي تضرب كل نواحي الحياة من الاقتصاد إلى الثقافة مرورا بالسياسة واللحظة الحالية للأزمة تمثل انعكاسا لانتفاضة 17 ديسمبر فالنظام القديم ظل جوهريا على حاله وعجز الشعب حتى الآن عن إسقاطه لذلك يجد الجميع أنفسهم على المستوى السياسي في ورطة. إن المعارضة التي طفت على السطح بعد 14 جانفى معظمها شريك في صناعة الأزمة فهي الوجه الآخر للسلطة القائمة وهذا ما أصبح تدركه فئة من الشعب الذي انتبه إلى أنه خدع وأن البعض يستعمله فقط كورقة للضغط والمساومة لذلك يزداد إحجامه عن المشاركة في أنشطة سياسية تريد المعارضة تحويلها إلى أرصدة في حساباتها السياسوية مستخلصا الدرس من مخاتلة اليمين الديني. فقد وصلت «النهضة» إلى الحكم ممتطية ظهر الشعب وهي تطعمه الوعود فيما يحاول الدستوريون الآن العودة إلي السلطة بالطريقة ذاتها. و تتمثل المعضلة في أن الطبقات المسيطرة سواء عبرت عنها السلطة القائمة أو المعارضة الحالمة بتعويضها في الحكم أو مشاركتها إياه تريد ترميم النظام بكل ما أوتيت من قوة ولكن دون تحقيق نجاح حاسم فالتناقضات تنخرها وكلما تقدمت خطوة في حلها تراجعت خطوات ويخشى تفجر تلك التناقضات في شكل حرب رجعية طاحنة. يشعر الشعب بالإحباط والعجز عن إدراك مبتغاه الذي عبرت عنه شعارات الانتفاضة ومن هنا فإن الأزمة التي تجد في المأزق السياسي تعبيرا مكثفا عنها معممة ويستوي في الاكتواء بنارها المجتمع بأسره فالحكام واقعون تحت وطأتها والمحكومون أيضا . بعيدا عن السياسة وكباحث في الفلسفة ألا ترى أن الوضع الفلسفي قد شهد تأزما ؟ الفلسفة جزء من الكل الثقافي وفي بلد يعيش أزمة معممة كما ذكرنا لا يمكن للفلسفة أن تكون بمنأى عن اضطراب الأوضاع سواء انخرطت في تبريرها أو عملت على تغييرها بمعنى أن السبب يعود إلى العصر نفسه الذي تعد الفلسفة ملخصا فكريا له، فضلا عن مسؤولية المنشغلين بالشأن الفلسفي أنفسهم عن تلك الأزمة مما جعل الفلسفة التي هي من حيث وظيفتها الأصلية نقد ومساءلة وتغيير ومقاومة تنحدر إلى تبرير سياسي وإيديولوجي للأوضاع القائمة أو إلى إفلات من مشاكلها بالتحليق بعيد ا عنها أو التحصن بالصمت. لا نزال إلى حد اليوم نعيش على وقع تكفير الفلاسفة فهل من تفسير لذلك ؟ صاحب التكفير سار معه غالبا جنبا إلى جنب دونما وئام يذكر في هذه الصحبة الغريبة فالأمر يتعلق بصراع تشتد أوزاره حينا ويخفت أحيانا أخرى ومنذ النشأة الأولى للفلسفة في اليونان القديمة. لم يولد التفكير الفلسفي في مناخ ملؤه القبول والترحاب وإنما واجهته العراقيل والصعاب من بينها تكفير أصحابه وقدم عدد من الفلاسفة حياتهم ثمنا للأفكار التي جاؤوا بها ومنهم سقراط الذي حكم عليه بالإعدام بتهمة إفساد الشباب وازدراء الآلهة. و لا يختلف الأمر عند العرب فتكفير الفارابي وابن سينا وسائر الفلاسفة كان من بين المرتكزات التي بنى عليها الغزالي مثلا منظومته الإيديولوجية ولم يقف الفلاسفة مكتوفي الأيدي بل سعوا إلى كشف الغطاء عن ذلك التكفير الذي تورطت فيه السلطات الدينية والسياسية وغيرها وكان كتاب ابن رشد «تهافت التهافت» الذي رد فيه على تكفير الغزالي للفلاسفة ثمرة من ثمار المواجهة المحتدمة بين الفلسفة وأعدائها. و كما تفضلت بملاحظته فإننا لا نزال نعيش على وقع ذلك التكفير ويكمن السبب في أن الفلسفة غالبا ما تنقد المؤسسات السلطوية السائدة فخطابها يقوم على مساءلة مختلف القضايا بما فيها تلك التي يسيجها أصحابها بأسوار التحريم والقداسة. فهي تقدم أفكارا جديدة عن الإنسان والكون وهذا ما لا يتمكن عادة هؤلاء من مواجهته من موقع المحاجة العقلية فيتمترسون خلف التكفير لتجريم التفكير أملا في إلحاق الهزيمة بالفلسفة والمحافظة بالتالي على سطوتهم ونفوذهم ولكن هذه تنتصر ولو بعد حين دون أن يلغى هذا الذي أقوله انخراط بعض الفلاسفة في تبرير الأفكار الرائجة والدفاع عن مؤسسات القهر القائمة. فالفلسفة فلسفات منها ما يجلب للناس الموت ومنها ما يجلب لهم الحياة . وهو ما يعنى أننا إزاء معركتين تدور رحاهما في نفس الوقت، إحداهما خارجية وهي التي لمّحت إليها والثانية داخلية أي بين الفلاسفة أنفسهم ورغم كل شيء فإن التأمل الفلسفي في وقائع هاتين المعركتين يفيد أن الأمر لا يخلو من منافع ويا للمفارقة! فالفلسفة تتغذى من حروبها الداخلية والخارجية والتكفير قد يعرقل الفلسفة ولكنه أيضا يشحذ همتها على الإبداع وقد يجوز للفلسفة أن تتقدم بالشكر والثناء لمكفّريها. كان آخر إصداراتك « الربيع العربي والمخاتلة في الدين والسياسة» فلو تشرح للقارئ معنى المخاتلة في الدين والسياسة في نهاية هذه المصافحة ؟ حاولت في الكتاب الذي تفضلت بذكره بلورة مفهوم المخاتلة وتوظيفه لقراءة بعض مظاهر السياسة والدين في تونس خاصة بعد 14 جانفى 2011 والمقصد من ذلك هو تحليل وإعادة تركيب أحداث جرت على هذا الصعيد يبرز فيها التلاعب بالأذهان وقصف العقول من خلال خطابات سياسية ودينية تجيد التخفي وراء الحجب. فالمخاتلة مراوغة وخداع ومناورة يستغفل صاحبها ضحاياه في سبيل السيطرة مما يستدعى هتك تلك الحجب ممّا يساعد المضطهدين على التحرر من قيودهم .