بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    آخر ملوك مصر يعود لقصره في الإسكندرية!    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    قيس سعيد: الإخلاص للوطن ليس شعارا يُرفع والثورة ليست مجرّد ذكرى    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسألة الفلسفية في الفضاء العربي الإسلامي ماضيا وحاضرا
نشر في الفجر نيوز يوم 04 - 07 - 2010

img width="279" height="199" align="right" src="http://www.alfajrnews.net/images/iupload/kitab_fasl_almakal.jpg" style="" alt="كتاب "فصل المقال في ما بين الحكمة و الشريعة من الاتصال" لابن رشد" /يشترك الإسلام والفلسفة عامة في الاهتمام بنفس المواضيع، الإنسان، الكون والحياة، لكن يختلفان في طريقة التناول، ذلك أن الفلسفة تعتمد على البرهان العقلي البشري المحض، بينما يعتمد الإسلام، بوصفه دينا، بالدرجة الأولى على الوحي والإيمان، أي على معرفة تقوم شرعيتها لدى ناقلها البشري الأول على وصولها إليه، وإن بطريقة غير مباشرة، من خالق الكون نفسه مما يؤدي إلى نتيجة من شأنها التأسيس لأولوية الوحي على الفلسفة.
ذلك أن خالق الكون، من الناحية المنطقية الخالصة، أدرى بما خلق من معرفة الإنسان، وبالتالي لا يمكن وضع كلمة المخلوق في نفس مستوى كلمة الخالق، تماما مثلما لا يمكن وضع النسبي في مقام المطلق. من هنا كان لا مفر من أن تبدوالفلسفة في أرض الإسلام شيئا زائدا، لا ضرورة له، مشكوكا فيه ومتعارضا مع الدين.1 لهذا السبب تعين على الفلاسفة المسلمين بدءا من الكندي ووصولا إلى ابن رشد تبرير الاشتغال بالفلسفة والتأكيد بأن لا تعارض بينها وبين الدين، يعني بين العقل والنقل، بل إن ابن رشد يرى بأن "النظر في كتب القدماء واجب بالشرع، إذ كان مقصدهم هوالمقصد الذي حثنا الشرع عليه."2
- ظاهرة التكرار
في العصر الحديث، عربيا وإسلاميا، لا يختلف الأمر عما كان عليه الحال زمن الفارابي وابن رشد، ذلك أنه وراء جدل الحداثة والتراث، المعاصرة والأصالة، الأنا والآخر، الذي يدور حولها الفكر العربي الحديث، نجد عودة الإشكالية القديمة التي كانت تتمحور حول العقل والنقل، الفلسفة والشريعة، التي كان "تهافت الفلاسفة" لابن رشد " وتهافت التهافت" لأبي حامد الغزالي أوضح وأشهر تعبير لها، مما جعل أحد المفكرين العرب يشير إلى " ظاهرة الاستمرار التاريخي – تكرارا أواختلافا – لقضية العلاقة الإشكالية بين التراث والعصر."3
هذا التكرار يحيل من حيث دلالته التاريخية إلى مجتمع فقد حيويته وقيادته الحضاريتين، ليصبح مجتمعا تابعا، عاجزا عن الإضافة، يبحث عن الحلول المجربة في ماضيه أولدى حاضر الآخر، أويسعى وراء حلول توفيقية وسطية. إن هذا التفكير تعبير عن مجتمع فقد زمام المبادرة وروح الإبداع، لا يقدم جديدا أوإضافة، سواء بالنسبة إلى تراثه أوبالنسبة إلى فكر الآخر، مما يجعل منه فكرا ينحصر وجوده على الحضور كنص، يفتقر إلى رافد مجتمعي يحوله إلى طاقة تساهم في تغيير الواقع، وتقيم معه تلك " العلاقة الجدلية التي تتميز بها الحضارات الحية."4
هذا الماضي يعاد إنتاجه أيضا على مستوى وظيفة الفكر الفلسفي في المجتمعات العربية وتأثيره عليها، ذلك أنه لا الفلاسفة المسلمون أمكنهم التأثير على المجتمع، ولا ورثتهم اليوم استطاعوا ذلك، مما يفسر كون ذهنية الإنسان العربي راهنا، سواء على الصعيد الفردي أوعلى الصعيد الجماعي، العقائدي أوالسياسي.
هي على العموم من صنع وصوغ الخطاب الديني الأقل انفتاحا على العقل، كما يدل على ذلك الزوال في الوجدان الجمعي والفردي العربي والإسلامي للفكر المعتزلي الذي يمثل، كما نعرف، أبرز تجلي للنزعة العقلانية في الفكر الديني الإسلامي، مما ترك هذا الوجدان يقع تحت تأثير وتشكيل النزعات الجبرية والصوفية وغيرها من النزعات المعادية للعقل التي لا تزال تمارس تأثيرها إلى اليوم، على مختلف المستويات شعوريا أولا شعوريا.
وعلى الرغم من أنه يمكن قراءة تمحور فكر الفلاسفة المسلمين حول إشكالية التوفيق بين الفلسفة والنقل كمسعى يرمي إلى تحقيق الوفاق بين العقل والمعطى الاجتماعي والسياسي والعقائدي القائم، فإنه يمكن في آن واحد القول بأن عزلة الفلاسفة كانت أحيانا خيارا واعيا ومقصودا، كما كان الأمر عند ابن رشد، مثلا، في نظريته حول ازدواجية الحقيقة التي تدعوإلى منع التفلسف، وبالتالي العقل، عن العامة. تدبر سبب إخفاق الفلاسفة المسلمين في التأثير على مجتمعاتهم أمر مهم جدا، لأننا نلاحظ اليوم أيضا غياب تأثير القيم الفكرية الوافدة – الحداثة - على المجتمعات العربية5
وإذا ما أردنا تفسير ضعف تأثير الفلاسفة المسلمين، والفلسفة عامة، ماضيا وحاضرا، يمكن بربط ذلك بكون الإسلام هو دين شمولي، فهو"دين ودنيا"، " "صالح لكل زمان ومكان"، يمثل منظومة عقائدية تجيب عن مختلف الأسئلة المتعلقة بالوجود والإنسان وبمصيره ومنشئه، أي، كما يرى محمد أركون: " يقول كل شيء عن العالم، والإنسان، والتاريخ، والعالم الآخر، والمعنى الكلي والنهائي للأشياء"6. فالإسلام إذا ما جاز القول هونوع من الفلسفة، لكنها فلسفة قائمة على الوحي والإيمان، تخاطب الوجدان قدر ما تخاطب العقل، بينما الخطاب الفلسفي هوخطاب عقلاني بحت صادر عن الإنسان، يمكن أن يصيب ويمكن أن يخطئ، بل هوخطاب خطاء من وجهة نظر بعض كبار علماء الإسلام، كما سبق أن رأينا. ولا يزال الإسلام يمثل اليوم أيضا المرجع الفكري- الفلسفي إن شئنا- الأول والأساس في الفضاء العربي والإسلامي، مثلما لا يزال يشكل ما يسميه محمد أركون " السياج الدوغماتي المغلق" الذي يحول دون حرية إعمال العقل والفكر، معتبرا أن " الساحة الثقافية التي تتاح فيها للعقل البشري حرية البحث والنظر هي دوغماتيا مغلقة من قبل النظرية الإسلامية للوحي."7.
ولأن الإسلام يمثل أيضا هوية، وبالتالي مكونا وجدانيا مؤثرا، فقد كان ذلك عاملا آخر ساهم بدوره في الحد من تأثير المفكرين العرب الحداثيين الذين يواصلون اليوم السير على درب الفلاسفة المسلمين في تبني فكر الآخر، متمثلا في الحداثة بمعناها الغربي، فهؤلاء يعانون بدورهم من العزلة إزاء مجتمعاتهم ومن ضعف تأثيرهم8.والسبب في ذلك أن" الذين يطرحون موضوع التغيير الديمقراطي وإحلال الحريات بمعزل عن مسألة الهوية " التي نقصد بها بنية ديناميكية الانتماء على قواعد سياسية وثقافية" لهم أكثر الحظوظ لكي يروا مشروعهم مستقلا ومعزولا عن المجتمع الذي يطمحون لتجديده."9
هذا يعني في نهاية المطاف أن المسألة الفلسفية في الفضاء العربي الإسلامي وأزمتها ليست بعيدة عن مسألة الهوية، فالنقاش الذي دار بين أتباع النقل وأتباع العقل، الشريعة والفلسفة، كانت تدور في الواقع حول علاقة الأنا مع الآخر، ذلك الآخر الذي كانت الفلسفة اليونانية تمثل أرقى تجل له وأكبر تحد أيضا من الناحية الفكرية. يمكن القول في هذا السياق بأن عقلانية الفلاسفة المسلمين الذين لم يكونوا حبيسي هوية مجتمعهم، كانوا يمثلون مظاهر النزعة الإنسانية في الفكر العربي الإسلامي، إنسانية تجد عمادها في الاشتراك مع الآخر في العقل.
يقول الكندي في رسالة إلى المعتصم:" وينبغي ألا نستحي من استحسان الحق واقتناء الحق من أنى أتى وإن أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة "لنا"، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق..."10 يذهب القاضي الفيلسوف ابن رشد مذهبا آخر حين يقول متحدثا عن القياس العقلي :" فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن في سبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك سواء كان ذلك الغير مشاركا لنا في الملة أوغير مشارك في الملة..."11 ا أتباع الحداثة العرب الذين يتميز موقفهم من فكر الآخر بتبنيه جملة وتفصيلا، فقد ذهبوا إلى ما أبعد مما ذهب إليه أسلافهم، الفلاسفة المسلمون، لأن هؤلاء لم يسعوا من ناحيتهم إلى الفصل بين العقل والنقل.
أي إلى إحداث قطيعة مع الأنا. يقول عبد الله العروي، مثلا:" أوروبا انتهجت منذ أربعة قرون منطلقا من الفكر والسلوك، ثم فرضته منذ قرون على العالم كله. ولم يبق للشعوب الأخرى إلا أن تنتهجه بدورها فتحيا أوترفضه فتفنى."12هذا ما يجعل الحداثة العربية تمثل حالة قطيعة مع الأنا باعتبار التراث مكون أساسي له.13
- الفلسفة اليونانية كسياج دوغماتي
لكن حين يؤكد الفلاسفة المسلمون أنه لا تعارض بين العقل والنقل، بين الفلسفة اليونانية والشريعة الإسلامية، بين المشارك لنا في الملة وغير المشارك، بين الأنا والآخر، فذلك يعني إمكانية العقل الوصول إلى الحقيقة بمعزل عن الدين، " الفارابي"، ولكن أيضا، من جهة أخرى، أن الفلسفة اليونانية تتضمن نفس حقائق الدين، الشيء الذي يستتبع جعلها فوق كل نقد.
كما الوحي نفسه، على الرغم من أن ابن رشد، في موقفه من فكر القدامى، يرى وجوب التعامل معه وفق تطابقه أوعدم تطابقه مع العقل، قائلا:" ...يجب علينا إن ألفينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم: فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به، وشكرناه عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم."14كن عمليا لم تتعرض الفلسفة اليونانية لنقد حقيقي من طرف الفلاسفة المسلمين، وبذلك لم يجعل الفلاسفة المسلمون أنفسهم حبيسي "السياج الدوغماتي المغلق" المرتبط بالإسلام حسب رأي محمد أركون، فقط، وإنما جعلوا أنفسهم أيضا حبيسي ذلك السياج الدوغماتي المغلق الذي صنعوه حينما حولوا الفلسفة اليونانية إلى مطلق، فقد " انتهى بهم الرأي إلى أن مخالفة المنظومة المشائية "..." لا يمكن أن تكون إلا مخالفة مرفوضة لخروجها عن بنية المعقول في تصورهم."15 ذا سد الفلاسفة المسلمون الطريق أمام أي إمكانية تجاوز أوتقديم إضافة من داخل الفكر الفلسفي، فلم يوجهوا للفلسفة اليونانية أي نقد، اللهم إلا بصورة جزئية، كما فعل الكندي، منطلقا من الدين، في قضية قدم العالم التي عارض فيها رأي أرسطو، مثلما لم يستخلص الفلاسفة المسلمون أي عبرة من التعدد والاختلاف المميز للمشهد الفلسفي اليوناني، بل إن الفارابي راح يسعى إلى إزالة ظاهرة التعدد والاختلاف هذه، فألف كتاب "الجمع بين رأي الحكيمين"، أرسطووأفلاطون، مثلما راح ابن رشد بعده يهون من الاختلاف بين الفلسفات في مسألة قدم العالم وحدوثه، "
فالمذاهب في العالم ليست تتباعد"16 أن الاختلاف والتعارض ظاهرة لا يمكن توافقها مع مبدأ الحقيقة، ف"الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له"17 ا يقول القاضي الفيلسوف، الشيء الذي جعل نقد الفلسفة اليونانية يتم من خلال الدين وليس من خلال الفلسفة. لقد قاوم الفلاسفة المسلمون التضاد بين الفلسفة والشريعة مثلما قاوموا التضاد داخل الفلسفة اليونانية. كانوا يبحثون عن حقيقة كونية واحدة.
بحثا عن عقلانية جديدة
نفس الموقف السابق نلاحظه لدى الحداثيين العرب الذين حولوا الفكر الغربي الحداثي إلى مطلق، جاعلين منه بذلك "سياجا دوغماتيا مغلقا"، كما فعل الفلاسفة المسلمون قبلهم مع الفلسفة اليونانية. وهكذا جاء نقد الحداثة في الفضاء العربي من خارج الفكر الحداثي، يعني من التيارات ذات المرجعية الدينية، كما كان شأن الفلسفة اليونانية زمن الفلاسفة المسلمين. كانوا بدورهم يؤمنون بحقيقة كونية واحدة، وهذه الحقيقة تتمثل في الحداثة بتحققها الغربي. لهذا فشلت العقلانية العربية في فهم الواقع العربي وتغييره، مما جعل علي الكنز يرى ضرورة " أن ننطلق في النقد الجذري للأيديولوجية " العقلانية" الحاضرة في عالمنا العربي"18لاحظا بهذا الصدد " أن تاريخ العالم العربي في القرن العشرين "..." ليس بإعادة ولا تكرار لتاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر"19لهذا يرى الباحث الجزائري أنه " على الفكر العقلاني " العربي" أن يعيد النظر في افتراضاته ومنطلقاته النظرية بل وحتى في اشكالياته ومنهجياته..."20.
مما سبق نستنتج بأن العقلانية العربية الحديثة تعاني من حالة الإستيلاب و الاغتراب، مما يجعل البحث عن عقلانية جديدة، غير دوغمائية، لا تكون مجرد نسخة عن العقلانية الغربية، أمرا لا مفر منه. وفي هذه المراجعة، يبدومن الأهمية بمكان عدم الانطلاق من مقولات ما بعد الحداثة، لأن هذه الأخيرة محاولة تصحيح ونقد لمسار العقلانية في المجتمعات الغربية، وإنما من الواجب الانطلاق من الواقع العربي ومن ممارسات العقلانية النظرية والتطبيقية في هذه المجتمعات.21
يتعين على هذا النقد أن يسعى إلى عقلانية تتجاوز التصور الأحادي البعد للإنسان، عقلانية لا تتمحور حول نفسها وإنما تأخذ بعين الاعتبار بعد الوجدان الذي هوأحد المكونات الأساسية للإنسان، ذلك أن العجز الذي تشكومنه المجتمعات العربية في مجال القيم الوجدانية البناءة لا يقل عمقا عن العجز الذي تعاني منه في مجال العقل، فالقيم الوجدانية من قبيل حب العدل، حب الحرية، حب الصالح العام، حب المعرفة، وأيضا حب العقل، وغيرها، ليست هي القيم السائدة في ثقافة المجتمعات العربية الراهنة، وذلك حتى على مستوى النخب العلمية والتقنية الشيء الذي أسس لنخب عربية تعاني حالة انفصام22. ك يرى محمد أركون "الفرق أوالتفاوت بين ما هو" شعبي" وما هو" عالم حضري" ليس كبيرا ولا واضحا.
كما هوالحال في المجتمعات الصناعية ثم بشكل آخر في المجتمعات ما بعد الصناعية فالمهندس ومفتش الضرائب والطبيب وأستاذ الجامعة والوزير إلخ... يعيشون بالتأكيد رفاهية" حديثة جدا" ولكنهم يستمرون في الخضوع لنفس القوى الانفعالية ولنفس التصورات " الدينية" ولنفس أنظمة العقائد الإيمانية والأعراف الاجتماعية والقيم الأخلاقية – القانونية، مثلهم في ذلك مثل الفلاحين والرعاة والعمال والحرفيين وحتى معدي حرفة العمران والخطط الاقتصادية الحديثة..."23
وهذا يعني أن نقد العقل العربي لا يجب أن يتوقف عند حدود ذلك العقل المدون في الكتب، بل يجب أن يمتد إلى نقد عقل الواقع اليومي، المعاش، غير المعلن عنه، الشعوري واللا شعوري، المتحكم في السلوك الفردي والجماعي، في المثقفين وغير المثقفين، الآتي من ثقافة القبيلة والعشيرة والطائفة ومن الصيغ الجديدة المشابهة لها. لهذا يتحدث محمد أركون عن " العصور الوسطى التي يمكن القول أنها انتهت في الغرب ولكنها لم تنته عندنا حتى الآن."24 هذه الرواسب الثقافية الآتية من الماضي هي التي تحول دون ظهور مجتمع عربي قائم على سيادة القانون وعلى عاطفة حب الصالح العام وحب العلم والمعرفة والإبداع وحب الحق والعدل والحرية.
الملاحظ، على الصعيد السياسي، أن إعادة إنتاج نمط الحكم السائد عربيا "الاستبداد" أمر ممكن في ظل أي أيديولوجية، إسلاموية كانت أم حداثية، ذلك أن التكوين الاجتماعي والنفسي في المجتمعات العربية يساهم في إعادة إنتاج ظاهرة الاستبداد في ظل أيديولوجيات متعارضة في الظاهر نتيجة الطابع التقليدي للبنيات الاجتماعية الخاصة بالمجتمعات العربية وإلى الموروث المشترك بين جميع أعضاء المجتمع بغض النظر عن نوعية الخطاب الأيديولوجي الذي يبلورونه في إطار الدور الذي يقومون به في هذه المجتمعات.
من هنا تبدو دعوة الجابري إلى نقد العقل العربي انطلاقا من تلك السلسلة من الآثار التي أورثنا إياها مسارنا الثقافي الطويل منذ تأسيس العقل العربي في عصر التدوين كشرط لأي مشروع يستهدف النهوض ، قد لا تكون كافية، إذ أن هناك "عقلا" عربيا آخر بعضه ربما مترسب في اللاشعور الفردي والجماعي يعيش خارج النصوص، لكنه يفعل فعله وجدانيا واجتماعيا وسياسيا، إن على صعيد النخب بمختلف انتماءاتها ومواقعها وإن على الصعيد المجتمعي، والذي لا يجد منبعه من شبكة الآثار المنبثقة من "عصر التدوين" بل من تكوينات وترسبات اجتماعية ثقافية متراكمة عبر التاريخ العربي، سابقة في بعض جوانبها على ظهور الإسلام نفسه.
من هنا الحاجة إلى تعميق المعرفة المتعددة التخصصات بالمجتمعات العربية، ذلك أن هذه المعرفة " تظل دون الحد المطلوب من حيث الدراسة والتحليل، مما يمثل جانبا هاما جدا من التخلف التاريخي الذي نعاني منه.". وهذا يعني وجوب أن تكون العقلانية العربية المعاصرة على اتصال وثيق بالعلوم الإنسانية التي تتناول المجتمعات العربية من أجل استمداد معطياتها ومادتها ومنظوراتها ومنطلقاتها من واقع مجتمعاتها. وفي نفس السياق يتعين، ربما، تعميق النظر والبحث في مسألة العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، بين الإسلام والحريات الفردية، العامة، السياسية والفكرية، أوبتعبير آخر بين الإسلام والحداثة، بعيدا عن القراءة القبلية والأيديولوجية والسياسوية، بل بدرجة مهمة على ضوء تجارب الواقع " إيران، تركيا، ماليزيا، فلسطين، الجزائر..." وكذا العلاقة بين العلمانية والديمقراطية، مع الأخذ بعين الاعتبار متطلبات التحرر من الاحتلال والتبعية والاستبداد.
من كل ما سبق نستنتج أن الفكر العربي هو فكر دائري، يعيد إنتاج نفس الأسئلة، نفس الإشكاليات، يعمل وفق نفس الآليات، لذلك لم تظهر فكرة التطور في الفكر العربي، فعلى خلاف الفكر الغربي لم يستطع الفكر العربي تجاوز الماضي، بسبب الطابع الزمني الأحادي البعد المميز للمجتمعات العربية حيث الماضي يعيش في الحاضر والمستقبل مطالب بأن يشبه الماضي الذي يمثل هكذا اللحظة المرجعية المهيمنة.
فالماضي في الواقع العربي حاضر ومستقبل، ذلك أن الزمن الحاضر والمستقبل لا يملكان مشروعية إلا بقدر ما يعيدان إنتاج الماضي. فالتاريخ عندنا يعيد نفسه إلى ما لا نهاية. على أن الأمر لا يحيل فقط إلى رؤية إيديولوجية تتبناها شرائح دينية سياسية واجتماعية واسعة ومهمة في المجتمعات العربية والإسلامية، بل أيضا إلى واقع سوسيولوجي وثقافي وسياسي، لا يختلف في تركيبته وبنيته عن البنيات والتركيبات المشكلة للمجتمعات الإسلامية السابقة، بل وحتى لما قبلها، وهوواقع يتجاوز الحدود الإيديولوجية المبنية على ثنائية الحداثة والتراث والصيغ البينية القائمة بينهما، فما الذي يجعل، مثلا، العلماني أوالحداثوي يعيد إنتاج السلوك الاستبدادي، تماما مثل السلفي المتشدد، إن لم يكن عقلية تحيل إلى موروث جمعي، لا شعوري في كثير من الأحيان، مرتبط بالماضي من جهة وباستمرار بنياته المتعددة المستويات، سوسيولوجيا، سياسيا وثقافيا، في الواقع المعيش، من جهة أخرى؟ في ظل هذه الهيمنة التي يمارسها الماضي على الحاضر، من الطبيعي أن يعاد إنتاج نفس آليات التفكير ونفس القضايا والإشكاليات. إن أزمة الفكر العربي هي بالأساس أزمة المجتمعات العربية.
ذلك أن الفكر لا يمكنه أن يتطور بمعزل عن مجتمعه، فديناميكيته وفعاليته وتأثيره وقف على الديناميكية العامة السارية في المجتمع، سياسيا، اقتصاديا، ثقافيا واجتماعيا.
الهوامش والإحالات
1. انظر الدكتور خالد كبير علال، مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية خلال العصر الإسلامي ق: 2-13 الهجري، كنور الحكمة للنشر و التوزيع، 2009.
2. ابن رشد، فصل المقال في ما بين الحكمة و الشريعة من الاتصال، دار سراس للنشر، 2001، ص 25.
3. محمود أمين العالم، الوعي و الوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر، عيون، الدار البيضاء، 1988ن ص 222.
4. مطاع الصفدي، أزمة الفكر العربي في منهجياته، مجلة الفكر العربي، العدد1، جوان 1978، ص 19
5. لقد بدا ضعف تأثير الخطاب الحداثي بوضوح خصوصا في المناسبات التي فتح فيها المجال السياسي للتنافس الحر، كما حدث في الجزائر أثناء الانتخابات التشريعية التي انعقدت سنة 1992، حيث كانت حصيلة دعاة الحداثة و العلمانية ضعيفة. والأمر يدعو إلى التساؤل لأن هذا يعني أن تحقيق الحداثة بالطريقة الديمقراطية يبدو أمرا متعذرا في المجتمعات العربية والإسلامية عموما. ومما يلفت الانتباه أن العلمانية حيث تحققت بهذه الدرجة أو تلك في الوطن العربي و الإسلامي ترافقت دائما مع وجود أنظمة ذات طبيعة استبدادية " العراق في عهد صدام حسين، تونس ..." أو لعب فيها العسكر دورا حاسما كما في تركيا قبل محيء حزب العدالة والتنمية في تركيا.
6. محمد أركون، الفكر الإسلامي، نقد و اجتهاد، لافوميك، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1993ن ص7.
7. محمد أركون، المرجع السابق.
8. لقد بدا ضعف تأثير الخطاب الحداثي بوضوح خصوصا في المناسبات التي فتح فيها المجال السياسي للتنافس الحر، كما حدث في الجزائر أثناء الانتخابات التشريعية التي انعقدت سنة 1992، حيث كانت حصيلة دعاة الحداثة والعلمانية ضعيفة. الأمر يدعو إلى التأمل لأن هذا قد يعني أن تحقق الحداثة في المجتمعات العربية أمر غير ممكن بالطريقة الديمقراطية. ومما يلفت الانتباه أن العلمانية حيث تحققت بهذه الدرجة أو تلك في الوطن العربي والإسلامي عموما ترافقت دائما مع قيام أنظمة ذات طبيعة استبدادية " العراق في عهد صدام حسين، تونس..." أو لعب فيها العسكر دورا حاسما كما في تركيا قبل مجيء حزب العدالة و التنمية.
9. محسن مرزوق، حرية الفكر و حرية الجماعة، مجلة التبيين، العدد16، 2000، ص 89.
10. ذكره يوحنا قمير، فلاسفة العرب، الكندي، دار المشرق، بيروت، ص 90.
11. ابن رشد، المرجع السابق، ص
12. أورده محمود أمين العالم، الوعي و الوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر، دار عيون، الدار البيضاء، 1988، ص 15.
13. هذه القطيعة بين الحداثة ومبدأ الهوية هو من بين ما سعت إلى تجاوزه النزعات الفكرية والسياسية التوليفية القائمة بهذه الدرجة أو تلك على الجمع بين الأنا و الآخر، بين الأصالة و المعاصرة. هذه النزعات هي ربما الأقرب أيضا اليوم إلى روح مسعى الفلاسفة المسلمين في تأكيدهم ألا تعارض بين الفلسفة " الوافدة" و الشريعة " الأصيلة"، بين العقل " الانساني الجوهر" و " النقل " الإلهي المصدر".
14. ابن رشد، المرجع السابق، ص 35.
15. محمد علي اللواني، تصدير لكتاب ابن رشد، فصل المقال في ما بين الحكمة و الشريعة من الاتصال، المصدر السابق، ص 15.
16. ابن رشد، المرجع السابق، ص 36.
17. نفس المرجع، ص 27.
18. علي الكنز، حول الأزمة، 5 دراسات حول الجزائر و العالم العربي، دار بوشان للنشر، ص 53.
19. علي الكنز، نفس المرجع.
20. علي الكنز، نفس المرجع، ص 57.
21. ما بعد الحداثة يجب ألا تكون هاجس الفكر العربي، فما بعد الحداثة هي انشغالات مجتمعات حققت الحداثة منذ قرون، و ليس الأمر كذلك بالنسبة للمجتمعات العربية، لذا يجب أن تظل الحداثة الشغل الشاغل للفكر العربي، لكن وفق الشروط التي تجعلها ممكنة في العالم العربي.
22. منح العقل سلطة مطلقة، مستقلة عن أي سلطة أخرى، أمر قد لا يكون له ما يبرره. العقل في نهاية المطاف أداة، لا شك فعالة و جبارة، لكن بوصفه وسيلة فهو يحتاج إلى سلطة أخرى تتحكم فيه، تجعل طاقاته وإمكانياته في خدمة الإنسان. هذه السلطة هي سلطة الأخلاق التي بدونها قد يتحول العقل إلى أداة من شأنها أن تشكل خطرا على الإنسانية. إن الاستعمار و الامبريالية و الحربين العالميتين و الأسلحة النووية و الجرثومية التي أصبح يمتلكها الإنسان ليس إلا نتاج فصل العقل عن الأخلاق. في العالم الإسلامي كان لإعطاء العقل السلطة المطلقة على أيدي المعتزلة أن تحول إلى وسيلة من وسائل القمع . الفلسفة في حد ذاتها، بوصفها من أسمى تجليات العقل، لا تعني عند اليونان الحكمة و إنما محبة الحكمة، مما يعني أن العقل لا ينفصل عن فعالية أخرى، ليست من جنسه، و إنما تنتمي إلى عالم الوجدان، وهي هنا عاطفة المحبة.
23. محمد أركون، الفكر الإسلامي، لافوميك، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1993، ص 19.
24. محمد أركون، نفس المرجع، ص 234.
العرب أونلاين
4-7-2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.