بقلم: جيهان لغماري من المتوقع الشروع بعد غد في المرحلة الثانية من الحوار الوطني للنظر في بقية بنود خارطة طريق الرباعي. تبدو الأمور عادية والطريق سالكة بخصوص الاستحقاقات الدستورية والتأسيسية وأساسا وضع آليات جديدة للوصول إلى تركيبة اللجنة المستقلة للانتخابات بما لا يتعارض وقرارات المحكمة الإدارية. تبقى العقبة الرئيسية في التشكيلة الحكومية الجديدة، إذ أنّ المتحفّظين على طريقة اختيار مهدي جمعة لرئاستها قد يعملون على رفع سقف مطالبهم بخصوص بقية الوزارات كشرط مركزي لسحب تحفّظاتهم. فكيف يمكن تصوّر هذه المعادلة: وزراء مقبولون من قبل أغلب الأحزاب الكبرى ومرفوضون من مهدي جمعة؟، إذ لا يمكن تصوّر هذا الأخير يقود فريقا لم يختره لأنّ مجرّد قبوله بذلك يعني آليا فشله منذ البداية لانعدام التجانس بين «لاعبي» فريقه. وإذا أضفنا إلى هذه المعادلة، تكتيكات الفرقاء لمحاولة فرض أسماء بعينها، يصبح التأويل الأقرب هو حصول مطبّات وصعوبات جديدة قد تفوق في قوتها الأزمة الأولى. الجلسة الأولى بعد العودة قد تكون متوتّرة وتتمّة لكواليس الساعات الحاسمة ليوم السبت الفارط لكنها ستبقى مجرد أصوات لا يراد منها أكثر من تسجيل موقف. فحكاية صعود جمعة بتوافق منقوص أو«رمادي» أصبحت من الماضي ووجوده كرئيس للحكومة أصبح واقعا لا ينكره أحد . لاحظوا أنّ كل المتحفظين بما فيهم «الجمهوري» المنسحب، لم تمس تصريحاتهم شخص مهدي جمعة وإنما تمحورت مؤاخذاتهم حول ما اعتبروه خرقا لمسائل إجرائية تهمّ الآليات المتفق عليها لتسيير الحوار. بهذا المعطى، حاولت كل الأطراف النأي بنفسها عن اتخاذ موقف واضح حتى لا يُحسَب عليها في قادم الأيام. «سنتعاطى مع الحكومة حسب نجاحها أو فشلها في التطبيق الكامل لبنود خارطة الطريق»، هذه الجملة تختصر تقريبا كل مواقف «الغاضبين» وهي على قِصَِرهَا ووضوحها، تُعتَبَر لبّ وقلب هذه المرحلة الثانية، إذ من خلالها يمكن مواصلة التفاؤل أو العودة إلى النقطة الصفر. فنقاط مثل مراجعة التعيينات الحزبية داخل الإدارة العمومية وتحييد المساجد وحلّ ما يسمى برابطات حماية الثورة ومراجعة مشروع الميزانية وتثبيت الأمن وفتح كل ملفات العنف والاغتيال وغيرها، قد تُصبح نقاطا خلافيّة عند محاولة الاتفاق على آليات عمليّة لتفعيلها. ففي باب التعيينات، قد ترى «النهضة» أنّ حكومة العريض إنما اعتمدت شرط الكفاءة أساسا وبذلك لا داعي لأية مراجعة قد تبعد حكومة جمعة عن مهمتها الرئيسية في تحضير الظروف الملائمة لانتخابات شفافة في أقرب وقت لأنّ سنّها الافتراضي لن يتجاوز بعض الأشهر. كما أنّ بعض المناصب ستخلق بالضرورة سجالا طويلا لتتفرّع عنه تشنّجات تزيد في إطالة أمد الحوار. فالبعض في المعارضة يطالب بتغيير كل وزراء العريض لأنّ المطالبة بالرحيل لم تكن لساكن القصبة حاليا فحسب، بل لوزرائه أيضا. هنا قد يأتي من «الترويكا» و «النهضة» أساسا، موقف مخالف بالقول إنّ وزارات الداخلية والعدل والخارجية هي في ذمّة شخصيات مستقلة وأنّه من غير المعقول تغيير وزرائها خاصة الداخلية بحكم ما تواجهه البلاد من تحديات أمنية غير مسبوقة، وإذا ما قدم وزير جديد إليها فسيجد نفسه بمجرد بداية تحسّسه وفهمه للوزارة، خارج أسوارها بحكم الانتخابات القريبة (على الأقل نظريا). المسكوت عنه في كل تكتيكات الفرقاء هو أنّ المواقف الإعلامية لا تُعبّر بالضرورة عن حقيقة ما يدور في الأذهان، فالمعارضة تطالب علنا بخروج كامل ل «النهضة» من الحكم مع أنها تدرك أنّ عامل الوقت لن يسمح بتحقيق ذلك كاملا (مثلا بالنسبة للتعيينات) وتدرك أكثر أنه لا يوجد حزب حاكم في العالم يقبل بتسليم السلطة كاملة بلا انتخابات تُعلّل تخلّيه، دون أن يعمل على البقاء «متخفّيا»في بعض المفاصل المهمة التي قد تساعده على العودة سريعا إلى «كلّ» الحُكم!، لذلك ستعمد المعارضة إلى محاولة إبعاد وزارات السيادة بالأساس عمّا تعتبره الآن استقلالية غير حقيقية. عمليا، ستكون مهمتها صعبة لأنها لا تملك ورقات قوّة في التأسيسي كما أنّ حلّ الشارع تقريبا وقع تجاوزه (مع وجود استثناء) بمجرد جلوسها إلى طاولة حوار الرباعي. كذلك «النهضة»، تعرف جيدا أنه لا يمكن لها البقاء (أيضا ولو ضمنيا) في كل مرافق الحُكْم، لذلك ستعمد إلى التمسّك ببعض الوزارات «المفاتيح» ولن تقبل بالتنازل عنها كلفها ذلك ما كلّفها. وتبدو وضعيتها مريحة نسبيا في هذه النقطة لأنّ الموافقة على تشكيلة مهدي جمعة تمرّ بالمجلس التأسيسي وكتلة «النهضة» بحكم أغلبيتها داخله، ستكون الغربال الذي لن يسمح بمرور أي اسم تعترض عليه. كما أنّ هذا السيناريو على استبعاد حدوثه يعني بلا شك انهيار كل أسس مبادرة الرباعي، ولا نخال اتحاد الشغل أساسا يسمح بذلك بعد أن فكّ العقدة الأولى المتمثّلة في اختيار رئيس الحكومة. النقطة الوحيدة (ولكنها الأغلى في الحساب !) التي قد تحدث تقاطعا هاما بين المعارضة والرباعي والتي من الممكن أن تقلب المعادلة راديكاليا وتضع «النهضة» في الزاوية لتعطي مجالا أوسع للمناورة وشرعية في التحرك والمواقف لمعارضيها، هي لو تبيّن من خلال الجولة الثانية للحوار أنّ «النهضة» لم تتخلّ في الحقيقة عن فكرة حكومة انتخابات مهما كانت تخريجاتها اللغوية. فمجرد استنتاج ذلك، يعني آليا خروج «النهضة» عن بنود المبادرة و«شَرْعَنَة» اتهامها بإفشال الحوار مع ما يترتب عن ذلك من ردود فعل مبرَّرة ستجبر اتحاد الشغل خاصة على الخروج من جبة الراعي واتخاذ موقف مضاد سيلتقي مساره بموقف المعارضة. «النهضة» لو اختارت هذا الأسلوب، لن تقدر على مواجهة الحراك السياسي والنقابي دفعة واحدة خاصة كما أنها بذلك ستعيد للمعارضة تماسكها ووحدتها اللذين خسرتهما في الجزء الأول من الحوار. محصلة القول، تبدو كل الأطراف ماسكة بأوراق وتكتيكات متكافئة سواء في احتمالات النجاح أو الفشل مما يجعل بقية جولات الحوار صعبة و شاقة على الجميع، وعليه يصبح خيار التوافق بتنازلات مؤلمة متبادلة أفضل وأسلك لمسار عليه أن يتواصل وينجح بعيدا عن لغة الربح والخسارة.