مصير «باعة الفريب» لم يتحدّد بعد... والدائرة البلدية تتحرّك أصفاد حديدية وضعت على باب سوق «حي الخضراء» المخصّص لبيع الخضر والغلال واللّحوم والأسماك... مشهد السوق المهجور والذي خلا من الباعة والمواطنين يوحي للزائر بأن المكان مغلق منذ أمد طويل لولا بعض السلع التي بدأت في الذبول... منذ يومين أغلق سوق «حي الخضراء» بالعاصمة أبوابه والقرار هذه المرّة لم يصدر عن الجهات الرسمية بل هو صادر عن الباعة الذين ضاقوا ذرعا ب «الإنتصاب الفوضوي» وانتشار الفضلات في كل مكان، وحالة الإنفلات التي باتت تميّز هذا المكان فقرّروا الإحتجاج وترك السوق والجلوس في مقهى قريب منه في إنتظار تحرّك السلطات المحلية بالجهة. أمّا خارج السوق، فقد كانت الحركة على أشدّها وكأنّ المواطن ألف المكان منذ زمن طويل رغم حالة الفوضى... هنا إختلط بيع الخضر ب«الملابس المستعملة» وب«المنتوجات القديمة» وحتى الإلكترونية منها... أغلب فضاءات البيع أو «النصب» متلاصقة، بعضها يشبه الدكاكين الصغيرة والبعض الآخر يتكون من أعمدة حديدية، في حين وضع بعض الباعة بضاعتهم على أوراق «كرتونية»... دخلنا السوق بعد ان فتح لنا الحارس الباب... كانت الروائح تسدّ الأنوف والفضلات منتشرة في كل مكان، فضاءات لم يمض على هجرها سوى يومين، وأخرى قيل لنا إن أصحابها هجروها منذ أمد بعد أن كسدت تجارتهم وهجرهم الحريف فتراكمت ديونهم وضاقت بهم السبل فتخلّوا عن «المهنة». لم يكن هناك أي بائع سوى بعض القطط التي كانت ممّدة تحت «الطاولات» وأخرى كانت تموء جوعا، فتركنا المكان بحثا عن بعض الباعة. لقاؤنا الأول كان ب«توفيق» بائع خضر، وأحد المنتصبين أمام السوق، قال انّ لديه قرابة 30 سنة عمل في بيع الخضر، وأكدّ انّه من قدماء الباعة، وان البلدية منحته فضاء داخل السوق لبيع الدجاج مشيرا إلى أن ذلك لا يتماشى وطبيعة نشاطه فخيرّ الإنتصاب خارج السوق، وأضاف انّ الفضاء تم منحه يقع في مكان منزو وأنه لذلك رفضه. وأضاف توفيق انّه لا يمانع في العمل داخل السوق لكن شريطة أن يتمّ منحه فضاء مناسبا لا يحول دون قطع مورد رزقه الوحيد، وكشف انّ لبعض الباعة داخل السوق عديد «الرخص» و«النصب» تحصلوا عليها في عهد النظام السابق على حدّ تعبيره. وقال ان شرطه الأساسي للتخلي عن «النصبة» الراجعة بالنظر إليه هو أن يتخلّى الباعة الذين يتمتعون بعديد «التراخيص» عن ذلك ويأخذون فضاء واحدا مثلهم مثل غيرهم من الباعة. الخطأ خطأ الدولة وليس خطأ «الزوّالي»؟ أمّا «مريم الجويني» (43 سنة)، بائعة فريب فقد قالت انها كانت تضع سلعها مباشرة أمام باب السوق وأنها تعيل 5 أطفال وليس لها أي مورد للرزق. وأضافت انها تنشط هنا منذ سنة 1994 وليس لها أي فضاء آخر للقيام بذلك. وكشفت أنها تتمنى الحصول على فضاء قانوني كغيرها من الباعة، مضيفة: «أنا لا أنافس باعة الخضر لأني أبيع «الملابس المستعملة» وبالتالي لماذا يتذمرون من وجودنا بالقرب من السوق ؟». واعتبرت «الجويني» انه لا وجود لعدالة إجتماعية لأن البعض يتمتع بفضاء يمسح قرابة 500 متر في حين لا يجد البعض الآخر ولو مترا واحدا يبيعون فيه منتوجاتهم؟. وقالت انّ كلّ المساحات بجوار السوق غير شاغرة وبالتالي فإنه لا وجود لأي فضاء ينتصبون فيه الاّ مدخل السوق،وأضافت ان حرمانها من العمل يعني تجويع أولادها خاصة في ظل غلاء المعيشة. وأكدت مريم انه أمام غلاء أسعار الملابس المستعملة بعد الثورة والتي تشترى بأسعار مضاعفة فإن العائلات المعوزة تعاني ولا يستمع أحد لشكواها. وقالت ان الوصول الى هذا المأزق لا يعدّ خطأهم بل هو خطأ الدولة بالأساس. من جانبه قال «عبد العزيز حشيشة» شيخ مسنّ، كان يبيع «الحمّص» المنقوع انه سواء تواجد داخل السوق أو خارجه فإنه مضطرّ لبيع سلعته لتأمين لقمة العيش. وأضاف انه لديه فضاء في الداخل ولكنّه اضطرّ إلى تركه وبيع «الحمّص». من ناحيته أكدّ «عبد الرّزاق» بائع خضر وصاحب «نصبة» أمام السوق، انّه لا يرفض الإنتصاب داخل السوق ولا يعارض تنظيف المكان ليصبح لائقا ويستقطب الزوار ولكنه يرفض ان يمنح فضاءهم لأشخاص آخرين. وقال رأيتهم أمس يقومون بالتقسيم؟ فهل سينتزعون المكان منّا ويمنح لغيرنا؟ وقال حتّى لو أزالونا من هنا فإنه سيأتي غيرنا، وأضاف انّه ورث المهنة عن الأجداد وذلك منذ 1962، وأكدّ انّ والده ساهم في بناء هذه السوق. وأضاف «عبد الرزاق» انّه سبق وأن منح مكانا داخل السوق ولكنه مناسب ل «الموتى» فقط على حدّ تعبيره لأنه يقع في مكان منزو وفي فضاءات شبه مهجورة مما يحرمهم من النشاط. الحرفاء هجروا السوق ؟ «مهدي بن عمّار» بائع خضر ينشط داخل السوق كشف من ناحيته انّ عديد الباعة هجروا السوق لأن تجارتهم تضرّرت، وقال «طلبنا الوحيد ان يمتثل الجميع للقانون وينتصبون داخل السوق»، وأكدّ انّ تنظيم المكان يخدم الجميع فالفضاء يتّسع لهم، وقال نحن نقبل بوجود هؤلاء الباعة معنا شريطة ان يلتزموا بالبيع في فضاءاتهم المخصصّة لهم، وأضاف انّ أغلب الحرفاء هجروا السوق وقال انهم يكتفون باقتناء الخضر من خارج السوق. وأكدّ ان الإنفلات الأمني وانشغال السلطات بمقاومة الإرهاب ساهما في حصول بعض التجاوزات بالسوق وخصوصا في إنتشار الفوضى ممّا أضرّ بهم وبتجارتهم. وكشف انه في المساء يتحول المكان إلى وكر للفساد وفضاء لكلّ السلوكات المنافية للأخلاق. وقال انّ هناك من الباعة من خسر رأس ماله وهناك من هجر المهنة نهائيا وأكدّ انه لم يبق بالفضاء المخصص لبيع الأسماك سوى 3 أشخاص فقط وان البقية هجروا المهنة وغيرّوا نشاطاتهم. لا للإنتصاب الفوضوي... أمّا الشيخ «محمد علي الزوقاري» (بائع أشياء قديمة) قبالة السوق فقد قال انه لا يمانع في الإنتقال من هذا المكان ولكنه يريد مكانا غير بعيد وقار ، وأضاف: «انا شيخ مسنّ ولا أستطيع الإنتقال الى مكان بعيد ولكن إن وجدت فضاء قريبا فأنا لا أمانع في الإنتقال؟». وأكدّ «فتحي الهمّامي» بائع ينشط داخل السوق، انّ الإحتجاج هو بالأساس ضدّ الإنتصاب الفوضوي والفوضى التي عمت المكان...وقال انّ السوق في الداخل غير منظمة ومليئة بالأوساخ وأصبحت مرتعا للجرذان والفئران ، واعتبر انّ كل هذه الأمور من شأنها ان تبعد الحريف وأنهم لذلك قرّروا ايقاف العمل إلى حين إعادة الأمور إلى نصابها. من جانبه اعتبر «حسن الكوكي» أحد الباعة بالسوق ولديه أكثر من 27 سنة بها ان الضرّر الذي لحق الباعة كبير جدا ولا يمكن حصره وقال انّ الإنتصاب الفوضوي تسبّب في غلق عديد الفضاءات داخل السوق، وأكدّ ان هناك أكثر من 60 بائعا ينشطون فيها وان تجارتهم ما انفكت تتراجع وتتدهور من يوم إلى آخر. وهنا قاطعه «فوزي الزايري» بائع خضر في سوق حي الخضراء ليقول انه رغم مرور 3 سنوات على الثورة فإنّ الفضلات في كلّ مكان، وأكدّ أنه سبق لهم ان طالبوا بتنظيم السوق والقضاء على الإنتصاب الفوضوي ولكن لا مجيب، وأكدّ انّهم اضطرّوا إلى ترك سلعهم والمقدّرة بمئات الدنانير ليلفتوا إنتباه السلطات إشعارها بضرورة التحرّك. وأكدّ ان عديد الفضاءات المهجورة أصبحت مرتعا للجرذان والفئران، وأكدّ انّهم مطالبون بدفع الأداءات في حين ان أصحاب الإنتصاب الفوضوي يستقطبون الحرفاء ويحققون المرابيح دون أية أداءات. وأضاف انّ الإنتصاب الفوضوي طال المساحات الخضراء والطريق العام، واعتبر انّ بعض المسؤولين بالجهة لا يشعرون بهمومهم. من جهته أكد «فاضل ساسي» ان طلبهم بسيط متمثل في النظافة ومزيد النظام وقال ان «بيت الراحة» داخل السوق تسببت لهم في عديد الأمراض ولم يستبعد إنتشار «الكوليرا» لفرط الروائح والأوساخ التي تراكمت بها. وقالت مواطنة انّ شقيقها وهو أب لعدة أطفال هجرالسوق وترك فضاءه بسبب الإنتصاب الفوضوي وقالت انه كان يجبر على إلقاء سلعه في حاوية «الزبلة» لأنها لا تباع. وأكدت انه ومنذ سنتين لا يجد ما يقتات عليه ولا كيف يعيل أطفاله. عربدة وسكارى وأكدّت «سميرة الخميري» من متساكني «حيّ الخضراء» انّ إرساء فضاءات بطريقة قانونية وتنظيف المكان هو حلم الجميع، وقالت انّ بعض الفضاءات خارج السوق أصبحت مأوى للسكارى والمنحرفين، وقالت ان بعضها يتحولّ إلى أسرّة للنوم، وانه بعد السادسة مساء لا يمكن للنساء الإقتراب من هذا المكان. وطالب «علي نعمان» البلدية والأمن بتطبيق القانون، وأكدّ انّ «حي الخضراء» كان من أجمل المناطق نظافة ولكنه تحوّل فجأة إلى فضاء للقمامة، واعتبر ان نقص الرقابة الصحية ساهم في هجر الحريف للسوق وقال انه حتى داخلها لا تتوفر الشروط الصحية لذبح الدجاج، وأكدّ أن المواطن تضرّر صحيا ومعنويا . العناية بالنظافة... أمّا «عزيزة بن عمر» إحدى متساكنات حي الخضراء فقد قالت انّ لديها أكثر من 40 سنة بالحيّ، وأكدت انّ المواطن لا يهمّه اقتناء الخضر والغلال سواء كان من داخل السوق أو من خارجها وأن المهم بالنسبة إليها هو رخص الأسعار وأضافت: «أغلب الباعة هم من الشرائح الإجتماعية الفقيرة وبالتالي يضطرّون إلى الإنتصاب خارج السوق ولكن المطلوب هو مزيد العناية بالنظافة». وأكدّت «فتحية» (مواطنة) انها دخلت السوق لاقتناء بعض الخضر فمرّ بجانبها فأر كبير فهربت راكضة، مضيفة انّ النظافة والمراقبة الصحية ضروريتان. ماذا عن باعة الفريب؟ وقال «محمود» بائع «فريب» انهم شاركوا مؤخرا في إجتماع في الدائرة البلدية بحي الخضراء بحضور باعة الخضر وأكدّ انّ الإحتجاج لا يشملهم لأنهم بعيدون عن الطريق العام وان الاحتجاج موجه لأصحاب الانتصاب الفوضوي.. وأضاف أنه صاحب شهادة عليا وأنه بحكم البطالة بات ينشط في مجال بيع الملابس المستعملة خاصة أنه كافل لوالدته وزوجته. وأكّد محمود انّ هناك علاقة وطيدة بين زوار السوق ونشاطهم في «الفريب» لأنهم يتكاملون ويدخلون حركية على المكان. واعتبر ان أكثر من 500 عائلة تقتات من «الفريب» متسائلا: كيف سينشط أصحابها وكيف يسدّدون المصاريف اليومية وثمن كراء منازلهم اذا تم ابعادهم من هنا؟». رئيس الدائرة البلدية بحي الخضراء يوّضح وبإتصّالنا بالسيد « نفطي عزّوز» رئيس الدائرة البلدية بحي الخضراء قال ل«التونسية» انّ البلدية شرعت منذ أمس في إزالة الإنتصاب الفوضوي أمام السوق اليومي بحي الخضراء، وأكدّ ان هذا الأمر شمل باعة الخضر والغلال وليس باعة «الفريب»، وقال انّ العملية تمت في كنف الهدوء ودون اللّجوء إلى القوة، وأكدّ ان الباعة التزموا بالإنتصاب داخل السوق بعد ان عرضت عليهم البلدية فضاءات منظّمة، وقال «تحاورنا معهم وإقترحنا عليهم بعض الفضاءات الشاغرة وتمت العملية بالقرعة وفي كنف الشفافية، ونأمل ان نتمّكن اليوم من الإنتهاء من رفع المخالفات وجميع الفضاءات غير القانونية. وأضاف انّه تم التنبيه كذلك على الباعة المنتصبين بالقرب من الطريق العام وحثهم على إحترام المسافة القانونية». وأوضح ان الباعة غير القانونيين صنفان: مجموعة لديها فضاءات داخل السوق وهجرتها للإنتصاب الفوضوي وأكدّ انه ستتم إعادة هؤلاء الى السوق. ماذا عن «الفريب»؟ وفي ما يتعلق بباعة «الفريب» قال عزّوز انّ المسألة تتطلب حلولا تعويضية مضيفا: «نحن بصدد درس كافة الحلول» وكشف انّ الفضاء داخل السوق ضيق وبالتالي يتعين إيجاد فضاء آخر كبديل وقال انّ هناك مجموعة من المقترحات المتوفرة حاليا وستتمّ دراستها والتحاورمع السكان والباعة لإختيار الفضاء الأنسب. وحول ما راج من معلومات حول تخصيص المأوى القريب من السوق لتجار «الفريب» قال انّ هذا الأمر ما يزال مجرّد حلّ من بين عديد المقترحات، وأكدّ انه في صورة اختيارهذا المكان فستقع تهيئته وتنظيمه وإحاطته بأسيجة وستتم مراعاة وجهة نظر الأجوار في الموضوع. وردا على مسألة نقص النظافة بالسوق قال «عزّوز» انّه في السابق كان من الصعب على أعوان النظافة الدخول الى السوق نظرا لكثرة الإنتصاب الفوضوي وان البعض من الباعة كانوا يلقون الأوساخ في «الفضاءات» المهجورة مما دفع العمّال الى العمل بصعوبة بالغة، وقال عندما يتم تنظيم المكان فيمكن ساعتها تنظيف المكان أكثر والعناية بالنظافة، واعتبر انّ المسألة مسؤولية الجميع. وفي ما يتعلق بتعدّد الرخص المسندة لبعض الباعة وإحتكارهم للسوق قال انّ هذه المسألة بالذات شائكة والفصل فيها صعب حاليا، وأكدّ انها من تركات النظام السابق وقال انّ البلدية عندما تحاول التحدث مع بعض الباعة فإنهم يتعللون بأنهم مجرد «صنّاع» وقال انّ هناك أرامل وأصحاب وضعيات إجتماعية قاهرة وان النظر في جميع الرخص قد يتطلب لجانا مختصة ومزيدا من الوقت. ريبورتاج: بسمة الواعر بركات