سعيد يجتمع بعدد من الوزراء ويؤكد على اهمية اصلاح التربية والتعليم    سلطات مالي تعلن تحرير 4 سائقي شاحنات مغاربة    من مسبح المرسى الى سماء العالمية ..أحمد الجوادي قاهر المستحيل    تاريخ الخيانات السياسية (36) ..المعتزّ يقتل المستعين بعد الأمان    دراسة.. مواد غذائية بسيطة تقلل خطر السرطان بنسبة تقارب 60%    شبهات التلاعب بالتوجيه الجامعي ..فرقة الجرائم المعلوماتية تلاحق الجناة    سفنه تنطلق من تونس يوم 4 سبتمبر .. 6 آلاف مشارك في أسطول الصمود إلى غزّة    عاجل/ واشنطن تعتزم فرض شرط جديد للحصول على تأشيرة عمل أو سياحة..    أخبار الحكومة    بلاغ رسمي للملعب التونسي    أخبار النادي الصفاقسي .. حصيلة ايجابية في الوديات.. وتحذير من الغرور    بنزرت الجنوبية: وفاة 4 أشخاص غرقا في يوم واحد    المدير الجهوي للتجارة بنابل ل«الشرق» استقرار في التزويد.. وجهود لضبط الأسعار    تونس: تجميع أكثر من 11,7 مليون قنطار من الحبوب إلى غاية نهاية جويلية 2025    النجم الساحلي يتعاقد مع الظهير الايسر ناجح الفرجاني    النادي الصفاقسي يعلن رسميا تعاقده مع علي معلول الى غاية 2028    الدكاترة المعطلون عن العمل: ضرورة توفير خطط انتداب ب5 آلاف خطة    ليلة الاثنين: بحر مضطرب بالسواحل الشرقية والشمالية    القصرين: العثور على جثة كهل تحمل آثار عنف    المنستير: تظاهرة "فنون العرائس على شاطئ روسبينا" في دورتها الثانية بداية من 15 أوت 2025    مهرجان العروسة: جمهور غاضب وهشام سلام يوضح    وزير السياحة: سنة 2026 ستكون سنة قرقنة    التعاون بين تونس وإيطاليا : طاقة التفاوض وفوائض الطاقة    بطولة افريقيا للشبان لكرة الطاولة بنيجيريا: المنتخب التونسي يختتم مشاركته بحصد 8 ميداليات منها واحدة ذهبية    القصرين: سواق التاكسي الفردي يتوجهون نحو العاصمة سيرًا على الأقدام تعبيرا عن رفضهم للقائمة الأولية للمتحصلين على رخصة "تاكسي فردي"    مهرجان نابل الدولي 2025... تكرار بلا روح والتجديد غائب.    رونالدو يتحوّل إلى صانع القرار في النصر... ويُطالب بصفقة مفاجئة    488 تدخل للحماية المدنية في 24 ساعة.. والحرائق ما وقفتش!    التوجيه تحوّل لكابوس: شكون تلاعب بملفات التلامذة؟    أمطار وبَرَدْ دمّرت الموسم: الزيتون والفزدق والتفاح شنيا صار؟!    عاجل: ''تيك توك'' تحذف أكثر من 16.5 مليون فيديو ودول عربية في الصدارة    ماء في الكميونة يعني تسمم وأمراض خطيرة؟ رّد بالك تشرب منو!    التوانسة حايرين والتجار زادا مترددين على الصولد السنة!    عاجل: الاتحاد العام التونسي للشغل يردّ على تهديدات الحكومة ويؤكّد حقّ الإضراب    الدلاع راهو مظلوم: شنوة الحقيقة اللي ما تعرفهاش على علاقة الدلاع بالصغار؟    في بالك ...الكمون دواء لبرشا أمرض ؟    والد ضحية حفل محمد رمضان يكشف حقيقة "التعويض المالي"..    نواب ديمقراطيون يحثون ترامب على الاعتراف بدولة فلسطين..#خبر_عاجل    سليانة: رفع إجمالي 275 مخالفة اقتصادية خلال شهر جويلية    وزارة الأسرة تؤمن مواكبة 1200 طفل من فاقدي السند ومكفولي الوزارة عرض La Sur la route enchantée ضمن الدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي    استشهاد 56 فلسطينيا برصاص الاحتلال خلال بحثهم عن الغذاء    بنزرت: وفاة 4 أشخاص غرقا في يوم واحد    القبض على "ليلى الشبح" في مصر: سيدة الذهب والدولارات في قلب العاصفة    "روبين بينيت" على ركح مهرجان الحمامات الدولي: موسيقى تتجاوز حدود الجغرافيا وتعانق الحرية    إصابة عضلية تبعد ميسي عن الملاعب ومدة غيابه غير محددة    جريمة مروعة تهز دمشق: مقتل فنانة مشهورة داخل منزلها الراقي    عاجل/ خلال 24 ساعة: استشهاد 5 فلسطينين جراء الجوع وسوء التغذية..    محمد عادل الهنتاتي: مصب برج شاكير كارثة بيئية... والحل في تثمين النفايات وتطوير المعالجة الثلاثية    البحر ما يرحمش: أغلب الغرقى الصيف هذا ماتوا في شواطئ خطيرة وغير محروسة    جريمة مروعة: امرأة تنهي حياة زوجها طعنا بالسكين..!!    تحذير طبي هام: 3 عناصر سامة في بيت نومك تهدد صحتك!    عرض "خمسون عاما من الحب" للفنانة الفرنسية "شانتال غويا" في مهرجان قرطاج الدولي    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    من بينها السبانخ.. 5 أطعمة قد تغنيك عن الفيتامينات..تعرف عليها..    تاريخ الخيانات السياسية (35): المنتصر يقتل والده المتوكّل    اعلام من باجة...سيدي بوسعيد الباجي    ما ثماش كسوف اليوم : تفاصيل تكشفها الناسا متفوتهاش !    شائعات ''الكسوف الكلي'' اليوم.. الحقيقة اللي لازم تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البشير بن سلامة ل«التونسية» :تونس مهدّدة بأميّة ثقافية وب«قانون القطيع»
نشر في التونسية يوم 20 - 12 - 2014

رفضت طلبا من بن علي للانضمام إلى عضوية مجلس المستشارين
سأقبل منصب وزير الثقافة إذا تبنّت الحكومة القادمة مشروعي الثقافي
الحكومات العربية ترفض برلمانا للمثقفين
حاوره: عبد السلام لصيلع
كشف الاستاذ البشير بن سلامة وزير الثقافة الأسبق من 1981 إلى 1986 في حوار «التونسية» معه انّه سيقبل منصب وزير الثقافة من جديد في الحكومة القادمة أو في أيّة حكومة شريطة أن تتبنّى مشروعه الثقافي وتوفّر له الصلاحيات الكفيلة بتطبيق المشروع.
كما تتطرق للمخاطر التي تهدّد تونس ومستقبلها ومنها الأمية الثقافية وما يسميه «قانون القطيع» ودعا إلى ضرورة الإبقاء على الطابع الحداثي للدولة التونسية بالإضافة إلى مواضيع هامّة أخرى.
كيف تصف هذا الظّرف الذي تعيشه تونس على مختلف الأصعدة؟
بعد زوال نظام بن علي في الظروف المعروفة التي يتباين في وصفها وتفسيرها سواء السياسيون أو المحللون للشأن السياسي أو المثقفون أو عامة الناس فإن وجود الدولة التونسية بمؤسساتها العريقة لم يترك مجالا لأي فراغ في الحكم . ولكن ذلك لم يكن إلاّ وقتيا . وهي الفترة التي عاشها التونسيون قبل انتخاب مجلس نواب الشعب أخيرا. فكان مجلس تأسيسي لا يمكن أن يوصف إلاّ بالمؤقت لأن مهمته تقتصر على إصدار دستور الجمهورية الثانية ، وكانت رئاسة للدولة مؤقتة أيضا وحكومات مؤقتة . وهذا كلّه وإن ملأ فراغا في الحكم بعد سقوط نظام بن علي فإنّه لم يحلّ مشاكل البلاد المتراكمة إقتصاديا واجتماعيا وثقافيا . علاوة على أنّ المناخ العام المترتّب عن ثورة الشعب مناداة بالحريّة والكرامة والشغل والعدالة الإجتماعية لم يفرز قيادة نابعة عن هذه الثورة بل أحدث فراغا في الحكم كان من الطبيعي أن تملأه القوى الموجودة في الساحة سواء كانت أحزابا أو منظّمات تابعة للمجتمع المدني التي قاومت نظام بن علي .
عرفت الثقافة وعرف المثقفون في تونس في السنوات الماضية تغييبا وتهميشا واضحين، وحسب رأيك على ماذا يدل ذلك ومن المسؤول عنه ؟
الفراغ الذي عرفته الثقافة وعرفه المثقفون سببه سياسة مقصودة صادرة عن نظام بن علي وعن حكم « الترويكا». ذلك أنه يجب ألاّ ننسى أنّ بن علي أحدث ما أسمّيه التصحّر الثقافي. فلقد عمد إلى تجميد المؤسسات الثقافية ٬ اذكر البعض منها : ففي ميدان النشر أغلق الشركة التونسية للتوزيع حتى أصبحت خرابا سرقت منها الكتب وباتت تباع على قارعة الطريق وهي اليوم تنتظر أن ينصّب فيها «النصّابة» كما أشيع . وكذلك كتبها . كما حجبت ثلاث مجلاّت : مجلّة «الشعر» ومجلّة «فضاءات مسرحية » ومجلّة «فنون». وهذه الأخيرة عادت وصدر منها عدد ، ولمّا طالبت بأن يوضع في صدر المجلة أنّني المؤسس حجبت مرّة أخرى . وتعلّلت بأن مجلة « الحياة الثقافية» مازالت إلى اليوم تحمل اسم مؤسسها محمود المسعدي.
أمّا المسرح الوطني فلقد جمّد طوال أكثر من عقدين وطرد منه المسرحيون وجمد المجلس العلمي ل بيت الحكمة وألغيت كل الأقسام من تحقيق وترجمة وابداع ومعها مشاريع رائدة.
وفي ميدان السينما تم حلّ الشركة التونسية للانتاج السينمائي وحلّت محلها قناة «آفاق» المرتبطة بقناة فرنسية ووراءها الربح الوفير لا للدولة ولكن لبعض الخوّاص. وأفتكّ مركز الفنّ الحيّ بالبلفيدير ليجد ملجأ في مكان أقلّ شأنا.
وتقلّصت العناية بدور الثقافة والمكتبات وصار عدد منها خرابا وتحوّل إلى أماكن لبيع «الكسكروت» وغيره . وأغلق العديد من دور السينما. و القائمة طويلة . ولكن إلى جانب ذلك تفاقمت البناءات التي من ورائها صفقات يتم ابتزاز اعتماداتها والمثال الصارخ مدينة الثقافة التي بقيت إلى اليوم تبتلع الأموال الطائلة وهي غير تامة.
أمّا خلال حكم « الترويكا» فإن السياسة المتبعة في ميدان الثقافة كانت تقليص ميزانية وزارة الثقافة لتهذب الاعتمادات إلى وزارة الشؤون الدينية لأن السياسة المتبعة في هذا الميدان هي تغيير نمط الحياة وظهر ذلك في مهاجمة « العبدليّة» وبعض الجامعات ومحاصرة التلفزة الوطنية والسيّطرة على وسائل إعلام لتخدم التطرف الديني وغير ذلك ممّا يطول شرحه .
في أيّ اتجاه يسير مستقبل تونس؟
رغم المحاولات التي قامت بها « الترويكا» لتغيير مسار تونس الحديثة فإنّ المجتمع المدني ومؤسسات تونس الحديثة التي بنتها دولة الاستقلال وقفت في وجه من أراد تغيير وجهة البلاد . لذا جاء الدستور متماشيا مع النمط الحداثي . كما أنّ قوى التطرّف والتشدّد الديني عجزت عن التأثير في المسار الديمقراطي سلبيا وتمّ تنظيم العديد من الانتخابات على النسق الذي أرادته المنظومة الديمقراطية. وهي ماضية اليوم في الوقوف ضدّ من يريد النكوص على الأعقاب.
بالنسبة إليك ما هي المخاطر التي تهدد المسار الديمقراطي ؟ وكيف بقع التغلّب عليها وتجاوزها؟
هذه المخاطر عديدة .وأوّلها ما اسميه ب« الأميّة الثقافية». وهي أخطرها وهي الباب الذي تنفذ منه كلّ الشرور المنافية للديمقراطية . لقد قلت في المشروع الثقافي الذي نشرته أخيرا بجريدة « الصريح» إنّ الاشكالات التي فوّتت على الشعب فرصا عديدة لتحقيق توازنه بصفة عامة أثناء خوضه منجزات مخطّطاته التنموية المتعدّدة بعد الاستقلال لا تعدو أن تكون ،في رأيي ، إلاّ ثقافية بالأساس . وستبقى مطروحة طالما ظلّت قوى المجتمع الحيّة كلّها غير مؤمنة « بأنه ليس هناك من وعي وطني وسياسي بلا وعي ثقافي» كما قال أحد العلماء ،وغير واعية بما جاء في حدّه الأدنى ، في إعلان حقوق الانسان من أنه « لكلّ شخص حقّ المشاركة في الحياة الثقافية العامة وفي التمتّع بالفنون وفي التقدّم العلمي ومكاسبه وفي حماية النتاج العلمي والأدبي والفني».وفي الميدان السياسي لا بدّ من مرجعية ثقافية، كما أكّد ذلك مالك بن نبيّ عندما كتب : « السياسة عندما تمارس بدون مرجعية ثقافية تتحوّل إلى مجرّد عنتريات ولغو نضاليّ».
وبما أنّ غرض السياسة الأول والأخير في مفهومها الحداثي هو ضمان العيش الكريم للمواطن في ظلّ الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات فإنّها تقتضي أن تكون هناك مواطنة حقيقية تنبني أساسا على القيم الثقافية، وتعمل جاهدة على تجسيم البعد الثقافي في صلب التنمية الشاملة حسب ضوابط عملية.
ذلك أنه قد يذهب في ظنّ الكثيرين انّ انتشار التعليم الماحي للأمية ، أي المعمّم للقراءة والكتابة ، وكذلك المانح للشهائد العلمية على اختلاف احتصاصاتها هو الضامن وحده لانتفاء الأمية الثقافية ، بينما يقتصر ذلك في الواقع على محو الأمية الثقافية بينما يقتصر ذلك على محو الأمية التعليمية فقط ولم يكن الشاعر والكاتب الفرنسي بول فاليري إلاّ على حقّ عندما قال: « لا أتردّد في القول بأن الشهادة العلمية هي عدوّة الثقافة». ولذلك نجد أنّ جلّ الاسلاميين المتطرفين وجدوا ملجأ في المعاهد والكليات العلمية لأن الجانب الفكري والأدبي والفلسفي العقلاني المرن لا يجد في الغالب ، إلاّ من فاز بنفسه، مناخا ملائما لتجاذب الأفكار في غير الاختصاص العلمي حتى يقيهم من التزمّت والغلو في الدين والتشدّد فيه، ويحميهم من التعصّب المقيت ، والتطرف البدائي . وإذا كانت الشهائد العلمية لاتمحو وحدها الأمية الثقافية فإن أمّة عاشت احقابا وهي تشهد موت ثقافتها ودخولها في الجمود الفكري المتواصل يضاعف من هذه الأمية، ويطبع بها المجتمع بطابع وعقليّة يصعب تغييرهما بسهولة.
وحسب أحدث البحوث في هذا الباب فإن الأمية الثقافية تعني افتقاد المرونة فكرا وممارسة في التعامل مع الذات ومع الآخر، مع الماضي الموروث، ومع الحاضر ومستجداته ، مع مفردات الحضارة ومنجزاتها .
هي إذن التحجّر الفكري والعقائدي والتزمّت الدّيني والقومي والأيديلوجي والمذهبي، وضيق الأفق بكافة أشكاله ، والتعصّب الأعمى لهذا الطرف دون سواه وسمّاها بعضهم الجاهليّة الأولى . ويصحب ذلك تقمّص ضرب من الشحّ في التألق في مجال الممارسة الثقافية، إضافة إلى ظاهرة لافتة للنظر تتمثّل في السلوك المشين المنافي لمنطق كلمة ثقافة أساسا ، وأشدّه سوءا، وأضرّه بالذات والآخر، بالمجتمع والانسانية قاطبة هو اللجوء إلى العنف، ولو كان القصد منه الإصلاح والنّهي عن المنكر ، وما شابه ذلك من الاستنباطات التي هي في ظاهرها حقّ ولكنّ باطنها باطل.قال ليون تولستوي:«كلّ إصلاح فرض بالعنف لن يصحّح أبدا سيئا . فالحكمة ليست في حاجة إلى العنف».
إذن، أكبر المخاطر يكمن في خلوّ أيّ برنامج سياسي من مرجعية ثقافية واضحة المعالم والرؤية، وفي هذا السياق يمكن لي القول على غرار العديد من علماء الاجتماع إنّ مجتمعات العالم الثالث الهشّة والتي إنهار فيها سلّم القيم معرّضة إلى خطر عظيم إذا هي تلقفتها تيّارات عديدة حالمة جملة من القيم ، هذه تجذب إلى متاهات المستقبل دافعة إلى القفز في غمرة تقدّم غير ثابت الأركان ، وتلك تجرّ إلى مجاهل ماض تاه فيه الكثيرون فأحدثت فوضى غريبة في العقول ، وصارت في الواقع حافزا للكسب المادي فقط بما فيها الوصول إلى الحكم بشتى الطرق وركوب مطايا متعدّدة.
وهكذا عندما ينهار سلّم القيم بهذه الصورة ويختلط الحابل بالنّابل يحدث ما تحدث عنه الكاتب الفرنسي تان ( 18281893 ) قائلا :« إنّ القطيع البشري إذا ترك وشأنه ورجع فجأة إلى وضع قريب من الطبيعة فإنه لا يقدر إلاّ على التحرك والتصادم بعضه ببعض حتى تسيطر عليه القوة المحض كما هو الشأن في عصور التوحّش ثم سرعان ما يبرز من خلال الغبار والصراخ ، سائق عسكري يكون عادة جزارا. في مجال التاريخ من الأحسن توخي المواصلة عوض العودة إلى البدء» . أليس في هذه القولة عبرة لذوي الابصار في خضّم ما تخوضه البلاد اليوم من معارك ما أتى الله بها من سلطان العابد الجابرزي هذه المظاهر إلى نمط من التعليم رائج في مجتمعات العالم الثالث، وبالخصوص في العالم العربي :« إنّ نمط التعليم السائد اليوم في البلاد العربية هو أمّ ضرب من التعليم التكنولوجي مقطوع عن كل تفكير يتعلق بالمعنى ومآله تكوين يعمل بصورة آلية ودعمائية وإمّا هو تعليم غارق في عالم أسطروي مؤثر أساسه حشو الأدمغة، ونتيجته تكوين عقول جامدة . وبكون القاسم المشترك لهذين النوعين من التعليم غياب التساؤل النقدي أي ذلك السؤال المتمثل في : لماذا وكيف؟ الذي يبقى غير مطروح».
وهكذا فإّه الخطر الذي يهدّد بلدنا إنّما هو الاستسلام إلى «قانون القطرة » عندما يتحكم في أو بالعقلية النحلية والعدد ، وأو بالمال، العرقيّة أو الجهوية التي تستند إلى النزعة العرقية أو الجهوية أو القبلية، إو الأبوتية أو النرسجية المدمّرة ، أو التهالك، عن غير وعي على الموت من أجل الموت . مرها في الحياة وهو ما نشهده في العديد من ال بلدان العالم الثالث وخصوصا في العالم العربي من الإهاب إلاّ نتيجة لهذا .
أمّا كيف يقع التغلب على هذه المخاطر وتجاوزها فذلك يتوقف في الواقع على البرامج التي ستقترحها الحكومة القادمة وغايتها هي الإبقاء على الطابع الحداثي للدولة.
يعتبر كثيرون أنك كنت أحسن وزير ثقافة في تاريخ تونس. إذا عرضت عليك الوزارة من جديد في الحكومة القادمة هل تقبلها؟ ولماذا؟
الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى شيء من الإطناب. ذلك أن الذي يهمني ليس الجري وراء الوزارة. فلو كان غرضي ذلك لما استقلت من الحزب الذي كنت من بين مؤسسيه بعد الثورة وهو الحزب الحرّ الدستوري الديمقراطي وكنت نائب الرئيس. وفي اعتقادي أن الوزارة مرغوب فيها إذا كان لصاحبها برنامج مضبوط وقدرة على تطبيقه في ظروف مواتية. أما الوزارة من أجل الكرسي فقط فهو أمر مشين. ولكن لو تبنت حكومة ما مشروعي الثقافي الذي نشرت خطوطه العامة وحيّنته أخيرا في صورته التطبيقية والإجرائية وسأنشره في الوقت المناسب فلا أرى مانعا من قبول المنصب إذا توفرت لي الصلاحيات الكفيلة بتطبيق المشروع، والا فإني أخيّر مواصلة الكتابة.
ماهي أبرز عناصر مشروعك الثقافي؟
في المشروع شرح مستفيض لمفهوم القيم والحقوق الثقافية التي بقيت عند الكثيرين غامضة ولكنها هي الرّكيزة الأساسية في ما تقوم به منظمة اليونسكو من إجراءات لترسيخ هذا المفهوم في الأذهان لأنه الركيزة الأساسية التي تقوم عليها التنمية الشاملة سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية. ولهذا اقتراحي هو اقناع أصحاب القرار في تونس مثلا بتنقيح الدّستور وتضمين هذا المفهوم في بنوده... وثانيا وحرصا على النجاعة يحصل احداث وزارة دولة للقيم والحقوق الثقافية في رئاسة الحكومة، مهمتها تحسيس المسؤولين في الادارة والمؤسسات بهذا المفهوم. وثالثا، إحداث وكالة لتشجيع الاستثمارات الثقافية (APIC) مهمتها ايجاد الاطار القانوني لحث رؤوس الأموال على الاستثمار في الصناعات الثقافية وكلّ ما يتعلق باقتصاد الثقافة. وبطبيعة الحال لابد من القيام بكل الاجراءات للتعريف عالميا بالمنجزات الثقافية.
ماهو مصير اقتراحك الذي دعوّت فيه الى تشكيل برلمان للمثقفين العرب؟
مقترح برلمان المثقفين له في الواقع تاريخ طويل. ان هذا المقترح كان سيطرح في أول قمّة عربية مخصّصة للثقافة دعت اليها حكومة المرحوم محمد مزالي مع منظمة الألكسو وكنت وزيرا للثقافة آنذاك. ولكن باسقاط حكومة مزالي في جويلية 1986 تم التخلي عن عقد هذه القمة الثقافية.
ويظهر أن الحكومات العربية غير راغبة في عقدها بما في ذلك حكومات بن علي المتعاقبة فيما بعد. والدليل على ذلك أنه لا أحد يفكر فيها الآن، بينما الفكرة تبناها بصورة من الصور المرحوم محيي الدين صابر المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) آنذاك التي مقرها تونس، وكانت هذه المنظمة قد أعدت خطّة شاملة للثقافة العربية في أربعة مجلّدات بسعي من المرحوم عبد العزيز حسين الوزير الكويتي، وقد أقرها مؤتمر وزراء الثقافة العرب في نوفمير 1985 بتونس وكان ذلك بدعوة منّي كوزير للثقافة في حكومة محمد مزالي. ولما خرجت من الوزارة بمناسبة انعقاد مؤتمر وزراء الثقافة العرب بالمغرب الشقيق سنة 1989 كلفني المدير العام للألكسو محيي الدين صابر آنذاك باعداد تصور عملي للخطة الثقافية العربية، فكتبته في أربعين صفحة ولكنّني منعت من حضور المؤتمر بالمغرب. وقدم العمل باسم المنظمة ووافق عليه وزراء الثقافة العرب ولكنه لم يبق لأسباب يطول شرحها.
وجدت نفسي في تلك الفترة محاصرا أثناء حكم بن علي لرفضي طلباته في التعاون معه ومنها قبول ضمّي كعضو الى مجلس المستشارين وقد احتجبت بعد مجلة «الفكر» التي كنت رئيس تحريرها طوال واحد وثلاثين سنة. فانصرفت الى الكتابة ومن بين المواضيع التي كنت أرددها للتشويش على بن علي، وكان أكره ما يكرهه هو الحديث عن الثقافة، هو موضوع برلمان المثقفين. فكانت لي مقالات ومحاضرات ولقاءات في تونس وفي البلدان العربية وبالخصوص مصر ولبنان وسوريا لبسط الموضوع ولكن لا حياة لمن تنادي حتى وجدت الفكرة قبولا في فرنسا فتكوّن البرلمان الأوروبي للمثقفين وشارك فيه من تونس الكاتب والمحلل النفساني فتحي بن سلامة وعبد الباسط بن حسن مدير المعهد العربي لحقوق الإنسان، لكن هذا البرلمان بقي عشر سنوات يعاني من قلة الدعم وعدم التأييد في أوروبا المنشغلة بأمور أخرى حتى تقلد نيكولا ساركوزي رئاسة الجمهورية الفرنسية فانحلت هذه النواة البرلمانية وراحت في خبر كان. والآن، وفي خضم هذا المناخ الذي يهدد الدول الوطنية العربية في أجواء التشدد والارهاب هل من سبيل الى الحديث عن الثقافة وعن برلمان للمثقفين والحال أن ما يقع في العالم العربي هو نتيجة للأميّة الثقافية أساسا.
نلاحظ تراجعا مخيفا للغة العربية والتعريب في تونس، ماهي أسباب ذلك؟
الجواب عن هذا السؤال سيأخذ حيزا كبيرا في هذا الحوار وهذا ليس ممكنا في هذه الفسحة الضيقة من الجريدة. ولقد بحثت في هذا الموضوع في كتبي العديدة سواء «الشخصية التونسية ومقوماتها» أو «نظرية التطعيم الايقاعي» أو غيرهما من الأعداد الخاصة من مجلة «الفكر» وأعتقد أن ما جاء في الدستور الجديد أخيرا من أن اللغة العربية ركن من أركان النظام الجمهوري يوجب على الحكومات الانكباب على هذا الموضوع بجد في نطاق ما تصرح به الأحزاب من وجوب اصلاح التعليم وما ذكرته عن العابد الجابري في خصوص التعليم يمكن أن يكون منطلقا للبحث في الموضوع.
ماهو كتابك القادم؟
انتهيت الآن من كتابة الجزء الثاني من سيرتي الذاتية (عابرة هي الأيام) الذي سأسلمه للناشر قريبا. وهي خلافا للجزء الأول الذي اقتصر على سيرتي السياسية (في مهب رياح السياسة) تبسيط ما يتعلق بالنشأة والتكوين والجذور. وسأشرع في كتابة الجزء الثالث من هذه السيرة ان بقيت في العمر بقية، وهو محاولة تأليفية لمسيرتي الثقافية المرتبطة بالخصوص بالفكر واللغة والأدب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.