بقلم:خالد الكريشي بادئ ذي بدء لا بد من الإشارة إلى أن عدم تمكن هيئة الحقيقة والكرامة من نقل الأرشيف الرئاسي ليس مسألة حياة أو موت لمسار العدالة الانتقالية، أولا لأن الأعمار بيد الله سبحانه وتعالى وهو على كل شيء قدير، وثانيا لأن أرشيف الرئاسة لا يشكل سوى إحدى وسائل إثبات الانتهاكات من عدمها مع توفر عديد الأدلة الأخرى كالشهود والاختبارات المنجزة من علماء الأنثروبولوجيا والحفريات والموروث الشفوي والشعري وغيره، وثانيا لتطمئن قلوب البعض فإن لأرشيف الرئاسة نسخ منه ونظائر موجودة في عديد المواقع الأخرى داخل تونس وخارجها موضوعة على ذمة الهيئة. والآن هنا، وبعد أن هدأت موجة الحملة القديمة المتجددة على هيئة الحقيقة والكرامة خصوصا وعلى مسار العدالة الانتقالية عموما وذلك بعد أن أعلن السيد الحبيب الصيد عن تركيبة حكومته لم يكن من ضمنها من هاجم هيئة الحقيقة والكرامة وطعن في مشروعية وشرعية مسار العدالة الانتقالية، وبعد أن أعلن أعلى هرم السلطة التزامهم بمنظومة العدالة الانتقالية تطبيقا لأحكام الفصل 148 فقرة 9 من الدستور وهو التزام مطلق يشمل أحكام القانون الأساسي للعدالة الانتقالية عدد53 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 وهيئة الحقيقة والكرامة تركيبة وصلاحيات ومهاما. الآن فقط يمكننا أن نجلس على طاولة النقاش القانوني الهادئ وقد تخلصنا من القراءات الغوغائية والسياسية المفضوحة للنص القانوني وسقطت كلها بسقوط أصحابها من قائمة وزراء حكومة الحبيب الصيد، وأجهز عليها حوار رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي مؤخرا مع جريدة الوطن الجزائرية بإعلانه التزامه بمنظومة العدالة الانتقالية أساسا (القانون الاساسي عدد53) وهيكلة (هيئة الحقيقة والكرامة)، لكي نجيب عندئذ على الإشكال القانوني الحارق: هل تتمتع هيئة الحقيقة والكرامة بأحقية نقل وحمل الارشيف؟ أم أن القانون منح لها فقط صلاحية النفاذ للأرشيف دون تمكينها من حمله ونقله؟ وبالتالي فإن الأمر يتعلق بتفسير النص القانوني، وحل هذا الاشكال لن يكون إلا قانونيا عبر اعمال آليات تفسير وتأويل النص القانوني. ولفهم النص القانوني لابد من الرجوع إلى الإطار التاريخي الذي سن فيه وهو ما يؤكد الطابع الاستثنائي لقانون العدالة الانتقالية الذي لا يشبه بقية قوانين الدولة الجاري بها العمل، والطابع الاستثنائي أيضا لهيئة الحقيقة والكرامة التي لا تشبه بقية الهيئات الاخرى مما خول لها عديد الصلاحيات الاستثنائية في كل المجالات القانونية . 1/ في استثنائية قانون العدالة الانتقالية أو لماذا نحتاج لقانون عدالة انتقالية؟ ينهل قانون العدالة الانتقالية من أشكال ومضامين فروع القانونين العام والخاص من حيث الاعتبارات والهيكلة والصياغة مما يجعل القوانين المنظمة للعدالة الانتقالية في العالم ذات طبيعة استثنائية ولم يشذ قانون العدالة الانتقالية عن هذه القاعدة فهو استثنائي على مستوى مدة تطبيقه وزمن تفعيله التي لا تتجاوز الخمس سنوات على أقصى تقدير، وانتهاء مدة الخمس سنوات مع انهاء هيئة الحقيقة والكرامة لمهامها ينتهي أي أثر تطبيقي للقانون ولمبادئه واحكامه الاستثنائية ليعود بعد ذلك كل الأشخاص الطبيعيين والمعنويين الي الالتزام من حيث موضوعه الذي تضمن عديد المبادئ والاحكام الاستثنائية غير المألوفة ومدة صلاحيتها لا تتجاوز خمس سنوات وهي عدم القبول بالدفع باتصال القضاء، ورجعية القوانين، وجود عفو سابق وبقية اتصال القضاء، وسقوط الجريمة او العقاب بمرور الزمن ويرتقي بعض هذه المبادئ الي مرتبة المبادئ الدستورية في بعض الدساتير المقارنة. ولذلك خول القانون لهيئة الحقيقة والكرامة خرق هذه المبادئ وعدم التقيد بها والسماح لها بمخالفتها تطبيقا لأحكام الفصل 148 من الدستور في نقطته التاسعة وهذه الإجازة القانونية بدورها محددة في الزمن لذلك وردت بالباب الأخير من الدستور «باب الاحكام الانتقالية» مما يؤكد على صبغتها الاستثنائية ومن ثمة استثنائية قانون العدالة الانتقالية حتى لا يتم الاحتكام الى الامر الواقع ولم يسقط الشعب التونسي في ردود الفعل الهستيرية والغوغائية وفي اتون العدالة الانتقامية أو الانتقائية في الأيام التي تلت مباشرة يوم 14 جانفي 2011 بفضل نضجه وتحضره وحسه المدني العظيم الذي رفض عند وقوفه على إنتهاكات الماضي الإقتصاص بنفسه أو احداث محاكم ثورية شعبية مثلما طالب بذلك البعض بل وحاولوا خائبين ممارسة ذلك-. المبدأ القانوني المتعارف عليه ان النص القانوني دائم في الزمن يحتوي على أحكام قانونية ملزمة ،مجردة وعامة ،وهي أحكام ثابتة تكرس ثبات المراكز القانونية للأشخاص الطبيعيين والمعنويين ،وباعتبار وأن لكل مبدأ استثناء كان القانون الأساسي عدد53 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها استثناء للمبدأ السابق الذكر، وهذه استثنائية قانونية مفهومة جدا وطبيعية إذ يستمد شرعيته ومن ثمة استثنائيته من دستور الثورة ومن الأحداث الاستثنائية الواقعة شتاء 2010 / 2011 أيضا، فلولا تلك الأحداث الاستثنائية لما احتاجت تونس أصلا لمسار ولقانون العدالة الانتقالية الذي تم ويتم عادة الالتجاء اليه لاحقا في أي بلد على إثر نزاع مسلح أو حروب أهلية أو انقلاب أو ثورة شعبية لمعالجة انتهاكات الماضي ضمانا لعدم تكرارها وتحقيقا للمصالحة الوطنية الشاملة أيضا. 2/ في استثنائية هيئة الحقيقة والكرامة. هل هيئة الحقيقة والكرامة هيئة دستورية أم لا؟ سيكون للجواب عن هذا السؤال فائدة نظرية قانونية لا غير لأنه على المستوى التطبيقي لن يغير شيئا ان كانت هيئة الحقيقة والكرامة هيئة دستورية أم لا؟ سيما وقد أقر أغلب رجال القانون والساسة سواء في السلطة أو في المعارضة أنها هيئة دستورية. ومن الناحية النظرية البحتة، إذا اعتمدنا المعيار الشكلي يمكننا القول أن هيئة الحقيقة والكرامة ليست بهيئة دستورية لأن الهيئات الدستورية مذكورة حصرا بالباب السادس تحت عنوان: «الهيئات الدستورية المستقلة» ولا يوجد من ضمنها هيئة الحقيقة والكرامة التي هي هيئة عمومية مستقلة استثنائية زمانا وموضوعا كما سبق وأن أشرت على عكس الهيئات الدستورية الأخرى الدائمة. أما إذا اعتمدنا المعيار الموضوعي فيمكن القول إن هيئة الحقيقة والكرامة «هيئة دستورية» بحكم التزامها بإنجاح العدالة الانتقالية على معنى أحكام الفصل 148 فقرة 9 من الدستور وقانون العدالة الانتقالية الذي صدر في 24 ديسمبر 2013 أي قبل الدستور ذاته الذي تقرأ في فصوله المائة والتسع واربعون (149) روح العدالة الانتقالية ومسارها من أجل كشف الحقيقة وصولا إلى تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة مرورا بالمساءلة والمحاسبة وحفظ الذاكرة وجبر الضرر ورد الاعتبار وفي مقدمة ذلك استعمال الدستور لمصطلح «منظومة العدالة الانتقالية» وهو مصطلح اشمل و أوسع يحتوي على كل أليات العدالة الانتقالية من قانون أساسي وهيئة الحقيقة والكرامة التي لها طبيعة خاصة فهي هيئة ذات طبيعة خاصة « sui generi». وسواء كانت دستورية شكلا أو أصلا فذلك لا يغير شيئا في مسار العدالة الانتقالية وفي دور الهيئة المحصن دستوريا وقانونيا وشعبيا عبر أغلب مكونات المجتمع المدني وأغلب الطيف السياسي ومن المنظمات الدولية غير الحكومية وعلى رأسها منظمة الأممالمتحدة والمفوضية السامية لحقوق الإنسان والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة والمركز الدولي للعدالة الانتقالية. وهذه الاستثنائية على مستوى التشريع وعلى مستوى الهيكلة تؤسس واقعا وقانونا للصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها الهيئة لتنفيذ مهامها ومن ثمة إنجاح مسار العدالة الإنتقالية وعلى رأس هذه المهام والصلاحيات التعاطي مع ملف الأرشيف.