بقلم : عبد السّلام لصيلع (1) أبو القاسم محمّد كرّو.. شاعرا كثير من الناس في تونس، ومنهم مثقفون وكتّاب وأدباء، لا يعرفون أن الأستاذ «أبو القاسم محمد كرّو» الذي انتقل مؤخرا إلى جوار ربّه شاعر له ديوان عنوانه «كفاح وحبّ»، كان قد صدر عن دار المغرب العربي في طبعة أولى ببيروت سنة 1952 منذ 63 سنة، وفي طبعة ثانية بيروت أيضا سنة 1961، وفي طبعة ثالثة بيروت كذلك سنة 1994. وكان عمر الراحل أبي القاسم محمّد كرّو 28 سنة عندما طبع ديوانه لأوّل مرّة نظرا لأنه من مواليد 1924.. ورغم حبّه للشعر وتذوقه له، ورغم أنه صاحب الفضل في التعريف بأبي القاسم الشابي، مشرقا ومغربا، فقد توقف بعد هذا الديوان الوحيد عن كتابة الشعر وتوجّه الى النقد الأدبي والتاريخ والكتابة للإذاعة والصحافة وتقديم المحاضرات في المنابر الثقافية والأدبية والإشراف على تنظيم الملتقيات والمهرجانات والندوات. ومن الأكيد أن ملتقى ابن منظور في قفصة كان تحت إدارته، قمّة الملتقيات في تونس في سبعينات القرن الماضي، من حيث دقة التنظيم وجودة المحاضرات ومستوى النقاش وقيمة المدعوّين من محاضرين وضيوف من داخل تونس وخارجها. وللحقيقة فإن ملتقى ابن منظور عرف نجاحه ومجده مع أبي القاسم محمد كرّو. وديوان «كفاح وحبّ» يجمع 18 قصيدة نثرية كتبت ما بين 1946 و1956 في الطبعة الأولى، وأضيفت اليها ثلاث قصائد في الطبعة الثالثة كتبت ما بين 1963 و1977، ويضمّنها بعض الرسائل والمواقف الى شقيقه صالح كرّو وصديقه مصطفى السّماوي.. وفي خاتمة الديوان نقرأ ما قاله ميخائيل نعيمة في «كفاح وحبّ» سنة 1953، ومحمد المرزوقي سنة 1953، وأحمد زكي أبو شادي سنة 1954. وكان أبو القاسم محمد كرّو يفخر في أحاديثه وتصريحاته في مجالسه بأنه أوّل من كتب قصيدة النثر في العالم العربي، قبل غيره، وكان يردّد دائما أن قصيدة النثر ظهرت لأوّل مرّة في تونس من خلال ديوانه هذا، مع الملاحظة انه كتب قصيدة «نجوى اللّيل» المهداة الى صديقه عثمان الحويمدي سنة 1946 وهو في سنّ الثانية والعشرين. وفي كلمة تقديميّة لديوانه، كتب أبو القاسم محمد كرّو: «لست أريد أن أقول شيئا في تقديم هذه «المجموعة».. فهي تقدّم نفسها بنفسها الى القاريء.. بل إنه سيتولى تقديمها الى ذهنه وشعوره.. وسوف يحكم لها أو عليها.. حكما، يتوقف قبل كلّ شيء على ذوقه.. ثم ضميره. أما عقله فيأتي، لا متأخرا عنهما، بل مرافقا لهما.. وعندئذ أكون مطمئنا الى حكمه، راضيا به.. إن خيرا، وإن شرّا. على أنّي أريد أن أضيء الطريق أمامه من الآن، فأعلن له أن هذه «المجموعة»: لم تكتب في ظروف واحدة وأزمنة متقاربة. ولم تفرضها شهوة الكتابة على القلم فرضا. لا. ولا دفعني الى نشرها حبّ الظهور والشهرة. وإنما هي طور من حياتي.. وصور عشت بعضها.. وشاهدت بعضا آخر منها.. واحترقت ببعض ثالث.. أما الرابع فقد خلقته خلقا.. وليس في هذا ما يضير، ما دام قد انتزع من.. الواقع الكائن، أو الذي يمكن أن يكون حقيقة في واقع الحياة أو في واقع الشعور. فإن أحسّ القارئ بهذه التجارب وتفاعل معها... فذاك ما أقصده وأرمي إليه، وإن انتهى كمثل ما بدأ... فسيغفر لي، أو أغفر له!». وواضح من خلال عناوين قصائد الديوان أن مضامين هذه القصائد كانت تعبّر عن مشاعر جيّاشة، عاطفيّة ووطنية وقومية، لشاب موهوب في مقتبل العمر، صاحب أفكار وخواطر جيّاشة في بداية وعي كفاحه وتأجّج عاطفته.. ولعل ميخائيل نعيمة يصل الى عمق الصواب في هذا الأمر بقوله مخاطبا صديقه أبا القاسم محمد كرّو: «.. وجدتك في «كفاح وحبّ» متأثّرا بأسلوب جبران الى حدّ بعيد وعلى الأخص في مقالك «ذكرى مولدي» فقد قرأته وكأني أقرأ صدى لمقال جبران «يوم مولدي» ولا لوم عليك مادامت في محاكاتك لجبران تستمد من قلبك وخيالك لا من قلبه وخياله. فتماشيه من غير أن تضيع فيه. وأما كتابك عن الشابي فهو في نظري خدمة جليلة للأدب العربي وللمكتبة العربية، فهذا الشاعر الفذّ الذي طوت المنون صحيفة عمره وهو ما يزال في ريّق الشباب جدير بأن يعرف العرب في كلّ أقطارهم أين نبت وكيف عاش وعمّا ذا تفتقت قريحته الجياشة بالثورة على الظلم والبشاشة، والتّواقة الى العدل والحرية والجمال. فيكفينا أن نعرف أنه القائل: اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر» وهما قاله الدكتور أحمد زكي أبو شادي صاحب مجلة «أبو لّو» في «كفاح وحبّ»: «عرفنا الأستاذ كرّو أول من أرّخ للشابي في كتاب، واذا كان اختار المرء قطعة من عقله كما يقال فهو باختياره الترجمة لعبقرية الشابي قد أثبت مناحي ذهنيته هو ، لأن الشابي لا يمثل الألمعية الفنية فحسب، بل القومية النبيلة والانسانية العالية أيضا فكان الأستاذ كرّو بمثابة حواري له، وجاء كتابه عنه جامعا بين الأناقة التي اشتهر بها الأدب التونسي منذ أيام ابن رشيق صاحب «العمدة» وبين نضوج الأدب المتذوّق، والشاعر المتجاوب، والمعلم الذي يعرف كيف يختار ويعرض ويشرح ويؤثر خير تأثير. وها نحن نجده في كتابه الممتع «كفاح وحبّ» الشاعر الثائر الموهوب والانساني الحرّ الغيور، والاجتماعي المصلح. قلنا «الشاعر الثائر الموهوب» لما تضمنه كتابه هذا بل ديوانه من تعابير عاطفية أصيلة جاءت عضو الخاطر ومن نبع القلب مترقرقة متسلسلة، في أوزان متعدّدة ليست من أوزان الخليل ولكنها في تسلسلها السمح ذات موسيقى عذبة جذابة. وقلنا «الانساني الحرّ الغيور» فجميع شعره يتسم بهذه المزايا ويفيض عنها وقلنا «الاجتماعي المصلح» لأن هذا الطابع الخاص بارز في شعره...». ،يقول المرحوم محمد المرزوقي: «في هذه المجموعة أدب جمّ وأسلوب جميل» زاخر بالمعاني الفلسفية ناضج بما يعتلج في نفس المؤلف من شباب فيّاض وحيوية متمرّدة وطموح متوثب تستطيع أن تلمس كلّ هذا في كلّ فصل من فصول المجموعة. فهو «يخاطب الشقاء بقوله: ما أنا بضعيف فأخضع لك ولا جبان فأحرص على الحياة وأخشاك ولا زاهد فأرضى بنصيب عليّ تفرضه ولا جاهل فأستسلم لفلسفة القضاء والقدر كلاّ لن تراني واحدا من هؤلاء بل جنديا يكافح ليقضي عليك وقائدا يؤلّب المناكيد لحربك». أمّا يوسف الخال فكتب كلمة على الغلاف الخلفي للديوان جاء فيها: «في كفاح وحبّ» يجتاز أبو القاسم محمد كرّو عتبة الشعر بخواطره الواجدة حينا، والمتمرّدة حينا آخر فهو، في صدقه وأصالته، يغرف من المعين ذاته، معين الكبير أبو القاسم الشابي، فإذا به يعرب عن توق جيله إلى الكفاح حتى الموت في سبيل الحرية، وإلى الحبّ حتي النهاية في سبيل تحقيق الذات والوصول الى الآخر. وذلك كله بصوفية ترفع الانسان، بل حتى الاشياء، فوق حدود الزمن، ترفعه، لا في تجريدية جوفاء، بل في واقعيّة يوجدها الايمان والرّجاء. للمؤلف، عدا هذه المحاولة في الأب الوجداني، دراسات وبحوث قيّمة في شتى الموضوعات، أحلته مكانة مرموقة بين أدباء العربية، وبخاصة في القطر التونسي». (2) «إرادة الكتابة»... للكاتبة الأردنية بلقيس الكَركِي أهداني صديقي العزيز الشاعر العيد القماطي نسخة من كتاب جديد للكاتبة الأردنية بلقيس الكركي، وصله من عمان، عنوانه «إدارة الكتابة»، في 346 صفحة من الحجم الكبير، تناولت فيه ثلاثة محاور رئيسية هي: الهاجس الأكبر: الصورة (الرقباء: الآخرون، الرقباء: الذات: صورة الخطإ، خطر الحقيقة). في جحيم الثنائيات (الكتابة الحياة، الأدب الحياة). حتمية الاختراع (الاختراع، سفر التكوين). تبدأ بلقيس الكركي كتابها بسؤال: «ما الذي كنته أنا في النهاية؟» بعد مدخل بمقطع لمحمود درويش من ديوانه «سرير الغريبة»: «فأنا لا أدري صورتي، بعد، في مائها.. لا أرى أحدا لا أرى أحدا [....] فماذا صنعت بحرّيتي...؟ من أنا خلف سور المدينة؟» وتختم الكاتبة كتابها بهذه النتيجة: «في البدء كانت الكلمة. الكلمة تخلق الصورة. في المنتهى تبقى الصورة. والحقيقة أبدا هناك، فقط هناك، رغم كلّ الاختراع». حين تنتبه الكاتبة الى «الرقباء: الآخرين»، تصرخ: «كاميرات في كل مكان، تتابع قريب، ايقاع سريع، وكل شيء مرتجل. تلك هي أزمة الوجود التي لا تحتمل، هم الحجم لا شيء سوى أنهم يراقبونك، أو يوهمون بذلك. تلتقيهم كلّ يوم، وتتبادل معهم شفاهة، بضع كلمات أو أكثر. لا وقت للتفكير والتحضير قبل أن تحدث الكارثة: أن تلتقط لك صورة فورية دون استئذان ومن مسافة قريبة. اقتران مهين وايقاع لعين: سريعا يلمحون وجودك ويقتربون. يرتجلون أسئلة فترتجل اجابة أو صمتا وهكذا ، قبل أن يرتد اليك طرفك، تُلتقط لك في خضم الفوضى والعشواء صور تطفح بالتأويلات الفورية لجوهرك ومن تكون. ارتجال واختزال، هكذا يبدأ وجودك كل يوم: باعتداء يختصرك الى صفات نصفها أخطاء. كلها بعيدة عن «الحقيقة» تصرّ لأن الآخرين يقتربون ولا ينتظرون»... وقبل بلقيس الكركي وغيرها، قالها جان بول سارتر: «الآخرون هم الجحيم».. إنها الذات الانسانية تتشابه في كل زمان ومكان. ذلك هو الواقع تنتصر عليه الكاتبة بارادة الكتابة، بعدما تعترف بالحقيقة الأليمة: «عالم رتيب من الفوضى، وآخر مشتهى من الايقاع. صور مرتجلة، وصور مؤلفة. رقباء خارجك، رقباء داخلك. أخطاء مرّت، وأخطاء على الطريق حقائق لابد من إخفائها، وأخرى من اختراعها. وجود على الواقع وضيع مشوّه، وآخر في الوهم رفيع معدّل. سلطة لغيرك تلقيك في الجبّ، وأخرى تلقي عند قدميك الكواكب. تكوين بشريّ، وأحلام إلاهيّة». (3) كلمات من ذهب يقول أفلاطون: «أضعف الناس من ضعف عن كتمان سرّه، وأقواهم من قوي على غضبه، وأصبرهم من ستر فاقته». (4) نهر الرّماد يقول خليل حاوي: جرفت ذاكرتي النار وأمسي، كلّ أمسي فيك يانهر الرماد صلواتي سفر أيوب وحبي دمع ليلى خاتم من شهرزاد