لماذا يتزايد الحنين إلى زمن بورقيبة ؟ في مثل هذا اليوم غرة جوان من عام 1955 ركب الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة صهوة الجواد في ضاحية حلق الوادي حيث هرع سكان البلاد لاستقباله وقد قدم لتوّه من منفاه في فرنسا محمّلا بوثيقة الاستقلال الداخلي بعد انقضاء نحو ثلاث سنوات على انطلاق معركة التحرير الوطني. ركب الزعيم القطار من محطة الأرتال الجنوبية في ضواحي مدينة باريس متّجها إلى ميناء مرسيليا حيث امتطى الباخرة في طريق العودة إلى تونس بعد مشقة بالغة خفت حدّتها إثر نقله من منفاه في جزيرة «لوقروا» Le Groid إلى الإقامة القسرية في ضواحي العاصمة باريس حيث قاد مفاوضات الحكم الذاتي مع لفيف من الزعماء. وثيقة الاستقلال الداخلي كانت في الواقع نتاجا لعاملين إثنين هما السرعة الخامسة التي أدركتها المقاومة الوطنية منذ العام 1952 مختزلة في الضربات الموجعة التي لحقت القوات الفرنسية علي أيدي «الفلاقة» والحراك المكثف للديبلوماسية التونسية على الصعيدين الإقليمي والدولي ثم بوادر التحوّل في السياسة الخارجية الفرنسية التي قادها منذ جويلية 1954 رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك «مونداس فرانس». بوادر التحوّل تلك نشأت عن حالة الاستنزاف التي بدأت تستشعرها القوات الفرنسية خصوصا عقب هزيمتها الموجعة في واقعة «بيان بيان فو» في الهند الصّينية والتي دفعت إلى بداية تغليب لمنطق الحوار في علاقة فرنسا بمستعمراتها بدل الغرق في الحروب. في محطّة الأرتال صلاح الدين فرشيو الشاهد على العصر والذي كان وقتها يدرس الرياضيات على مقاعد معهد «لوي لوقران» «Louis le Grand» في ضواحي باريس ذكر أنّ مفاوضات الحكم الذاتي توّجت في 20 مارس 1955 وقد قادها آنذاك الزعيم بورقيبة رفقة لفيف من الزعماء على غرار المنجي سليم وصالح بن يوسف وأحمد بن صالح. ويتذكّر صلاح الدين فرشيو كيف امتطى بورقيبة القطار من محطة الأرتال الجنوبية في ضواحي العاصمة باريس وكان في توديعه حشد من التونسيين والجزائريين والمغاربة أغلبهم من الطلبة الذين كانوا يدرسون في الجامعات الفرنسية آنذاك. حقيبة كما يتذكّر فرشيو كيف كان الزعيم المنجي سليم يحمل بيده الحقيبة التي أمّن بورقيبة داخلها وثيقة الاستقلال الداخلي، كان الزعيم وقتها في حالة حنين جارف إلى أرض الوطن بعيد منفاه في فرنسا الذي شكّل محطّة أخرى في مسار التعسّف الفرنسي على بورقيبة مختزلا في زخم السجون والمنافي التي ركن فيها لفترات متفاوتة ولم تنل يوما من إرادته القويّة وأنفته العالية وعزمه الصلب على استكمال مسار الانعتاق من الاستعمار واستعادة كافة مقوّمات السيادة والكرامة الوطنيتين. يوم تاريخي من القطار توجه الزعيم رأسا إلى الباخرة التي مَخَرَتْ عباب المتوسّط في طريقها إلى ميناء حلق الوادي الذي شهد لدى وصول بورقيبة يوما تاريخيا بأتمّ معنى الكلمة عندما غصّ رصيف الميناء وشوارع وساحات مدينة حلق الوادي بجموع التونسيين الذين قدموا من مختلف جهات البلاد لاستقبال الزعيم. صلاح الدين فرشيو يقدّر عدد الذين شاركوا في استقبال الزعيم في حلق الوادي بنحو 700 ألف تونسي أي ما يُعادل ربع إجمالي سكّان البلاد آنذاك في مشهد اختزل الوحدة الوطنية في أروع تجلياتها تلك الوحدة الوطنية التي برع الزعيم بورقيبة إلى أبعد حد في صياغتها وتجذيرها.. بل إنه إلى جانب فسيفساء المجتمع التونسي التي كانت ممثلة آنذاك أوفد «الباي» إحدى عقيلاته لاستقبال الزعيم. سياسة المراحل عودة الزعيم بوثيقة الاستقلال الداخلي واليت اعتبرت لاحقا «عيد النّصر» كانت واحدة من محطّات وطنية وإقليمية عديدة منها القضيّة الفلسطينية أظهرت عبقرية الزعيم مختزلة في سياسة المراحل أو «خوذ وطالب» حيث لم تمر سوى 10 أشهر لتحصل تونس على الاستقلال التام ثم تستكمل في ظرف أقل من عقد من الزمن كافة مراحل استعادة السيادة الوطنية كاملة ولا سيما الجلاء الزراعي ثم جلاء القوات الفرنسية عن مدينة بنزرت عقب معركة الجلاء التي سقط فيها لفيف من الشهداء الأبرار الذين خضبوا بدمائهم الزكيّة مسار بناء الدولة التونسية المستقلة والعصرية من العدم. الكرامة قدرة بورقيبة على إذكاء معطى الكرامة وصياغة وحدة وطنية صلبة حوله هي التي تجعله اليوم يعود بقوة إلى سطح الأحداث والبلاد خارجة لتوّها من مرحلة عصيبة خدشت فيها بعمق أركان البناء المؤسّساتي للدولة واستهدف فيها نمط عيش التونسيين ومقوّمات السيادة الوطنية ووحدة وانسجام التونسيين. و قد تكون الحاجة إلى حلول وأدوات بورقيبة هي التي دفعت بلفيف من الجمعيات منها جمعية الفكر البورقيبي ومعهد الدراسات البورقيبية لأن تقيم عشية اليوم في مقر المركز الوطني للتوثيق الواقع في شارع 9 أفريل احتفالا بمرور 60 عاما على عيد النصر سيثريه مجموعة من المفكّرين والشخصيات الوطنية التي عايشت زمن بورقيبة.