يبدو أن حركة «النهضة» لن تكشف عن موعد مؤتمرها القادم ما لم تبلغ قيادات الحزب درجة القناعة الكافية بأنها تمكنت من ترسيخ التوجهات الجديدة للحزب سواء لدى قياداتها وقواعدها أو لدى المتابعين للشأن السياسي عموما . فحركة «النهضة» تعتبر أن فترة ما بين المؤتمرين (مؤتمر 2012 والمؤتمر القادم) مفصلية في رسم الملامح الجديدة للحزب الذي يريد الخروج من الصورة النمطية التي ترسّخت في أذهان الجميع كحزب إسلامي منغلق إلى صورة حزب وسطي يتبنى فكرة الإصلاح الوطني وفقا لما تقتضيه المرحلة القادمة . ورغم أن خروج «النهضة» من جلباب الحزب الإسلامي لم يكن بالأمر الهين وقد يكون هذا القرار وراء انسحاب عدد من قياداتها التاريخية فإنّ المتابع لشأن الحركة وتصريحات قيادييها يلحظ أن «النهضة» اختارت نهائيا طريق الانفتاح رغم تشكيك العديد من الأحزاب والشخصيات السياسية في هذا التغيير الذي تعتبره خطة تكتيكية لكسب المحطات السياسية القادمة . ولعلّ المتابع للخطوات «الإصلاحية» لحزب الغنوشي يلاحظ جيدا أن الحركة تسير منذ الإنتخابات التشريعية الماضية بخطى متسارعة نحو تحصيل موقع صلب العائلة السياسية بالبلاد ف«النهضة» التي اختارت في انتخابات أكتوبر 2014 انتداب كفاءات مستقلة من خارج الحركة سعت إلى تعزيز هذا التوجه بالتوافق «التاريخي» مع حركة «نداء تونس» صلب البرلمان ثم في التشكيل الحكومي معلنة دعمها الواضح والصريح لحكومة «النداء» مع اكتفائها بحقيبة وزارية وحيدة . وقد اعتبر العديد من المتابعين للشأن السياسي أن التحولات المتسارعة للمشهد السياسي عموما هي التي فرضت على «النهضة» القيام بمراجعات فكرية عميقة سواء في توجهها الإيدويلوجي أو طريقة تعاطيها مع الملفات الوطنية والإقليمية الكبرى لاسيما في ظل الإنقسامات التي تعصف بعدد من البلدان التي مرت عليها رياح الربيع العربي . غير أن جل قيادات «النهضة» تصر على أن هذا التحول لم يكن تحت أي ضغط داخلي أو خارجي وأن المسألة لا تتجاوز التطور الطبيعي استجابة للتحولات التي ادخلتها الثورة على المشهد السياسي في بلادنا وعلى بنية الدولة التي أصبحت منفتحة ومتصالحة مع هوية البلاد وأنّ التحوّل جاء نتيجة إيمان عميق من قيادات «النهضة» بمزيد توطينها داخل مجالها الحيوي وتحويلها من حركة احتجاج الى حركة داعمة ومناصرة للدولة باعتبارها محور الإجماع السياسي التونسي. رغم التشكيك في مصداقية الحركة و«حسن نيتها» أحيانا فإنّ تصريحات قيادييها ولا سيما زعيمها الشيخ راشد الغنوشي تؤكد أن الحزب الإسلامي الأول في تونس سيقطع حتما بين الدعوي والسياسي وأن المشروع الجديد للحركة ينبني على بعث جيل جديد من السياسيين يكون أكثر انخراطا في اللعبة السياسية التي تتطلب سرعة في التغيير والتأقلم مع المحيط السياسي عموما ومع توجهات الجزء الأكبر من الشعب التونسي الذي يصر على البقاء في خانة الوسط . فقد اعتبر رئيس الحركة الشيخ راشد العنوشي في حوار نشرته مجلة «ليدرز» في نسختها الفرنسية أن «النهضة» ليست حزبا اسلاميا وان اطلاق صفة اسلاميين على الحركة لا يفي حق مناضليها وانصارها وتاريخ الحركة ذاتها وقال الغنوشي في هذا السياق «نحن ننتمي للوسط السياسي بعيدون عن التطرف ولنا نظرة منفتحة على الحداثة». وإن بدا هذا الموقف المنفتح لزعيم الحركة جديدا على الساحة السياسية بعد أن كان مصطلح «الاسلاميين» مقترنا بما كان يعرف بالاتجاه الاسلامي فإن رفض المصطلح المستعمل في حد ذاته ينمّ عن تأكيد على نية «النهضة» في التحول إلى حزب مدني يقطع مع التصنيف الايديولوجي القائم على المسألة الدينية. كما أن في الموقف الجديد للغنّوشي تأكيدا واضحا على أن الفصل بين الدعوي والسياسي لم يعد من باب التخمينات والقراءات التحليلية بقدر ما هو حقيقة ، رغم أن إخراج الحركة من اليمين إلى الوسط يطرح عدة أسئلة حول تحولات المشهد داخل الحركة وموقفها الفكري الذي كان في وقت غير بعيد موقفا لا يتماشى والواقع السياسي لتونس. وقد يكون التحالف الذي يبدو صلبا إلى حدّ ما بين «النهضة» و«النداء» دليلا آخر على دخول المشهد السياسي التونسي برمته مرحلة جديدة تؤسس إلى نموذج حكمي ينبني على التشارك والتوافق خاصة أن الظرفين الأمني والاقتصادي لم يتركا لحزبي الأغلبية أي خيار سوى التوافق حفاظا على السلم الإجتماعي. فهل يترجم مؤتمر «النهضة» القادم خلاصة المراجعات التي قامت بها الحركة على امتداد السنوات الأخيرة وتفند ما ذهبت إليه شكوك معارضيها بالإعلان صراحة عن المراجعات وتغيير صبغتها من حزب إسلامي إلى حزب مدني أم ستكتفي بتغيير الخطاب إلى أن يأتي ما يخالف ذلك ؟