8 مهمّة في مطار أورلي كان كارلوس وما يزال شخصية عالمية مثيرة للجدل ومحاطة بالألغاز والأسرار. في كتابه «كارلوس» يُلقي اسكندر شاهين مجموعة معلومات هامّة وأسرارا مثيرة وصورا نادرة تنشر لأوّل مرّة عن الابن الرّوحي ل«شي غيفارا». ومن المؤكّد أن ما يسرده الكتاب من وقائع واستنتاجات يفوق في أهميته ودقّته ما ورد في كتب عربية وأنقليزية وفرنسية كان كارلوس محورها. «التونسية» تنشر على حلقات مقتطفات من الكتاب المذكور: عاد كارلوس إلى باريس بعد يومين، اتّصل بمكربل الذي وافاه إلى إحدى ضواحي باريس، أوحى إليه كارلوس بالثقة وانطلقا معا في زيارة إلى مطار «أورلي» ولم تكن تلك هي الزيارة الأولى التي يقوم بها كارلوس. لقد سبق له القيام بعدة زيارات لهذا المطار تمّت فيها دراسته بدقّة وكان قد حصل على خريطة له من خلال بعض الرفاق الفرنسيين من تنظيم «العمل المباشر» اضافة إلى مجسم وضعه لكارلوس أحد المهندسين، لقد قسم المطار إلى مربّعات ووضع دائرة حمراء على المربّع الذي ترابض فيه «طائرات العال» الاسرائيلية والتي كانت في سلّم أوليات عملياته في ذلك العام. اذا متى نضرب؟ سأل مكربل، فأجابه كارلوس ببرود: الليلة نتّفق على الموعد مع الرفاق سنرى ما فعل «ستيف» وهو الاسم الحركي ليوهانس فاينريتش. كان ذلك في أوائل ديسمبر 1975 حيث قام كارلوس بزيارة أخرى لمطار أورلي يرافقه مكربل وستيف وويلفريد بوز. أشار كارلوس بيده إلى رفاقه فتبعوه إلى تلّة رمليّة صغيرة ومن هناك استطاعوا مشاهدة طائرات «العال» عن قرب ثمّ قفلوا راجعين إلى باريس حيث شرح كارلوس خطّة الهجوم معتمدا على مجسم المطار ووزع المهمّات. في الثامن من ديسمبر قام «ستيف» باستئجار سيارة بيجو 504 باسم مستعار «فريتز مولر» وبعد خمسة أيام أي في 13 من الشهر نفسه استقلّ كارلوس السيّارة مع مجموعته بعدما زوّدهم بقاذفة «ب - 7» سوفياتيّة الصّنع مع بضع قذائف ورشّاشات من طراز أوستن وقنابل يدويّة للدفاع عن النفس في حال وقوع متاعب. توزّعت المجموعة وفق المخطّط واقترب الرامي من التلّة الرمليّة التي ساعدته على الاختفاء وراءها وأطلق قذيفة صاروخيّة باتّجاه احدى طائرات «العال» فأخطأتها وأصابت برج المطار فصرخ مكربل: اسرع يا رفيق ولا تدع يديك ترتجفان. وأطلقت القذيفة الثانية فأصابت طائرة يوغسلافيّة تابعة لشركة «جات» كانت تقلّ 136 راكبا وقد أصيب ثلاثة منهم بجروح. أدار ستيف المحرّك وتوارى كارلوس والمجموعة بخفّة لقد كان كارلوس في طريق العودة من المطار يتحدّث بهدوء على الرغم من فشل العمليّة ممازحا الرامي ومشجّعا له بالقول: اعرفك من خيرة المجرّبين، جميعنا نملك نقطة ضعف انسانيّة لا عليك. تفرّق الرفاق في باريس. أخذ كلّ فرد وجهة لا يعرفها الشخص الآخر وحده كارلوس كان يعرف عناوين الجميع وبات ليلته في مخبإ لدى احدى الصديقات بعدما أبلغ وكالة «رويتر» عبر الهاتف الرسالة التالية: «بلّغوهم في المرة القادمة سنصيب الهدف». في اليوم التالي كان كارلوس في «أورلي» لم يرفّ للمشاغب جفن جاء لاستكشاف الاجراءات الأمنية بعد فشل عملية أمس وكان برفقته الرجل الذي تولى القصف الفاشل. أمضى الاثنان وقتا طويلا في المطار وكانت هذه الفترة كافية لرجل مثل كارلوس لوضع خطّة الهجوم الثانية التي عارض توقيتها «ستيف» أي فاينريتش فالتوقيت حدّد بعد بضعة أيام في وقت أصبحت فيه الحراسة مشدّدة جدا وأعين رجال الأمن مركّزة أكثر بالإضافة إلى أن العمليّة التي فشلت لا تزال حديث الساعة في الأوساط الفرنسية على مختلف مستوياتها وكان رأي كارلوس: انه التوقيت المثالي لأنه في مثل هذه الحالات لن يتوقّع أحد حصول عملية أخرى وكان مكربل من نفس الرأي. وبعد ستّة أيام أي في 19 ديسمبر صحب كارلوس المجموعة وكانت الخطّة تقضي بالهجوم من خلال احدى الشرفات من مبنى المطار اذ يقوم أحد أفراد المجموعة بتركيب القذيفة الصاروخيّة في أحد حمامات المطار ويقوم بقصف الطائرة الاسرائيليّة التي تبعد عن مرماه حوالي 25 مترا. الازدحام في الحمامات أخّر انجاز المهمّة وفق التوقيت المرسوم فما كاد يخرج الرامي لإطلاق القذيفة من الشرفة حتى كانت طائرة «العال» الاسرائيلية تبتعد لتصبح خارج مرمى الصاروخ الذي كان من النوع الصغير «ب2» لتنفضح العملية التي أعقبتها معركة في قاعة المسافرين بين البوليس الفرنسي ومجموعة كارلوس التي أصيب أحد أفرادها بيده اضافة إلى سقوط ثلاثين جريحا بين المسافرين وتمكّنت المجموعة من احتجاز عشر رهائن بينهم امرأة وطفلة لم تتمّ الرابعة من عمرها في احدى دورات المياه في مطار «أورلي». بدأت المفاوضات بين السلطات الفرنسية والخاطفين واستمرّت 14 ساعة من«حوار الطرشان» لأن الطرفين المتفاوضين لا يفهمان لغة بعضهما فلا وزير الداخليّة الفرنسي كان يعرف العربية ولا الخاطفون يتقنون الفرنسية. دسّ الخاطفون ورقة من أسفل الباب مكتوبة باللغة العربية، واستنجد وزير الداخلية الفرنسي بالسفير المصري في فرنسا الذي حضر وقرأ مطالب الخاطفين وتتلخّص في تأمين طائرة تقلّهم مع رهائنهم إلى خارج فرنسا فوافق وزير الداخلية شريطة اطلاق الطفلة الرهينة ووالدتها فلبّى الخاطفون الطلب فيما قامت السلطات الفرنسية بتجهيز طائرة بوينغ 707 لنقل الخاطفين والرهائن إلى وجهة مجهولة. في تلك الأثناء كان كارلوس قد غادر «أورلي» وعمّم على وكالات الأنباء ووسائل الاعلام عبر الهاتف أنه في حال قيام الفرنسيين بأيّة خدعة للإيقاع بالخاطفين فسيقوم بتفجير قليل من القنابل في محطّات المترو الباريسية. لقد فهمت السلطات الفرنسية الرسالة وقرّرت عدم تكرار ما حدث في «لاهاي» فانتقل الخاطفون والرهائن إلى الطائرة التي أقلعت نحو الشرق الأوسط وبعد جولة مكّوكيّة رفضت فيها معظم العواصم العربية استقبالها حطّت طائرة البوينغ في بغداد التي قبلت «لأسباب انسانية» السماح لها بالهبوط حيث تمّ اعتقال الخاطفين والافراج عن الرهائن. في فيفري 1975 أيّ بعد شهر على عملية مطار «أورلي» أكد السفير العراقي في فرنسا أن الخاطفين ثلاثة: لبناني وفلسطيني وجزائري. ولكن الأمر الخفيّ الذي لم يعرف آنذاك وبقي سرا باح به وديع حداد لكارلوس فيما بعد أن «أبو نضال» حاول إقناع السلطات العراقية بتسليمه الخاطفين بدلا من تسليمهم لحداد. بعد عملية أورلي بشهرين وقع «ستيف» فاينريتش في قبضة البوليس الألماني الغربي وأصدر أحد القضاة أمرا باعتقاله في مدينة فرانكفورت وبقي فاينريتش في السجن 18 شهرا وأطلق بكفالة ماليّة قدرها 10 آلاف مارك ألماني عندما انهار في زنزانته في شهر نوفمبر وقد اكتشف طبيب السّجن وجود بقع من الدم في كليتيه والذي دفع الكفالة كانت صديقته «ماجدالينا كوب» التي ستصبح الوجه الأبرز في مجموعة كارلوس وزوجته فيما بعد والتي شنّ في سبيلها حربا على فرنسا يوم اعتقالها. وبلا شكّ كما يقول أحد الذين عايشوا ظاهرة كارلوس أن عام 1975 كان أكثر الأعوام تعبا بالنسبة للمخابرات الفرنسية من حيث عدد الهجمات التي نفّذها كارلوس ضد أهداف اسرائيليّة وصولا إلى عملية «توييه» حيث وجدت المخابرات الفرنسية نفسها وجها لوجه أمام كارلوس الذي خاض معها سلسلة حروب أعادت إلى ذاكرة الفرنسيّين حرب الجزائر كما قال أحد المعلّقين في تلك المرحلة وربما أقسى من ذكريات حرب الجزائر.