حاوره: عبد السلام لصيلع المحسن بن هنيّة روائي عصامي غزير الانتاج الأدبي، من أعماله الرّوائية: «ثبات»، و«أضغاث» و«الزمن ورؤوس الحيّة»، و«على تخوم البرزخ»، و«مرافئ الجنون» و«المستنقع»، و«توق يحاصره الطّوق»، كما أنه كاتب قصصي أصدر عدّة مجاميع قصصيّة، هي: «القمر لا يموت»، و«دون الجهر بالكلام»، و«الزّهرة والخريف»، و«أحوال»، و«من فيض المكان».. وفي مجال آخر، أنجز موسوعة «سير وتراجم روائيّيي المغرب العربي الكبير» في أربعة أجزاء هي الآن تحت الطبع، وقد ترجمت نماذج من هذه الأعمال الأدبية الى اللّغة الفرنسية. «التونسيّة»، التقته فكان معه هذا الحوار. دخلت عالم الرّواية وأنت كهل. بعد هذه السّنوات كيف ترى البداية مع ما أنت عليه حاليا بعدما صدرت لك أكثر من عشرة أعمال؟ تدّخر في الخوابي عند الأوائب الزّيوت والدّهون والشّحوم وكلّ خابية ترشح بما في عمقها.. لذلك أقول إن العلاقة سكبت في خوابيّ منذ سنّ المراهقة وهي حالة تنتاب الكثيرين، عندما تتحرّك أسباب النّظر إلى الجنس الآخر فتكون ابنة الجيران أو ابنة العمّ وجهة النظر ومحطة الرّغبة فتبدأ الرّسائل فيها من الاجتهاد في التقاط العبارات الرّقيقة والمؤثرة بما فيها واقتناص الأشعار المعبرة عن الرّغبة فتتحوّل هذه البدايات إلى تسلّق كتابة الأشعار. وهكذا يبوح الشباب بلواعج هذه الأشعار إلى أترابه أو من يرتاح إليهم من أساتذة ومعلّمين. هكذا كانت العلاقة الأولى مع الكتابة، شعرا ثم قصّة ضمن مساهماتي في البرامج الإذاعية الأدبية في الإذاعة التونسية مثل برنامج «هواة الأدب» قبل أكثر من 45 عاما. كما قلت في أوّل عمل روائي لي بعنوان «ثبات» ظلت هذه الجذوة خامدة تحت الرّماد فإذا جاءتها ريحها استعرت ليس لحاملها بدّ من البوح بها.. فبحت بها وأنا كهل... أما الرؤية بين البداية والآن فهذا شأن قد لا أفلح في تحديده لأن الآخرين والمهتمّين بالنقد الأدبي أكثر قدرة على بيان ذلك. ظهورك إلى القرّاء بدأ بالرواية، وهي حالة نادرة حيث أن غالبا ما تكون بداية الكتابة بالمقال أو القصة أو الشعر. من جوابك السابق ندرك أنك لم تخرج عن ذلك، حيث كانت البداية معك كما ذكرت.. إلى أي مدى كان هذا صحيحا؟ هذا صحيح كما هي حال النّطق بالكلام سابق لخطّ الكلام بالقلم. لماذا القول بهذه الحتميّة؟ إن مردّ ذلك كمن في البناء الرّوائي وصياغة الرواية. فالرّواية كما يذهب الكثير من النقاد في تحديد ماهيتها هي تشكل لوقائع وحيوات خارج الحياة ولكن في داخلها مضامين ليست قدريّة أو غيبية.. أي وقائع منحوتة من مادة مستعملة تتوفّر لدى الناحت من التجربة الحياتية والمشاهد والشدائد التي يمرّ بها ناحت نصّ الرّواية، وهذه أحوال لا تكتسب إلاّ بالمعيش سواء كان عيشا ضنكا أو عيشا رغيدا. وهكذا نسنتتج أن كتابة الرّواية ليست ضربا من حذق اللّغة والأسلوب فقط وإن كان ذلك ضروريا، في حين أن كتابة الشعر تنطلق من جذر الكلمة الفعل (شعر)، أي أحسّ المرء بالشيء، شعر به فدخل في دائرة المشاعر والأحاسيس فيكون الشعر تعبيرا عن ذلك.. وهذه مادته الأولى كما يقول أبو القاسم الشابي: «الشّقيّ الشقيّ من كان مثلي في حساسيتي ورقّة نفسي»، لأن الإحساس ورقة النّفس هما مصدر المادة الشعرية، وفي ذلك اختلاف عن نحت الرّواية. أما القصّة فتكون في البداية محاكاة لموقف ولقطات معبّرة عن ذاتها في ايجاز ملمّ بحدود حكاية القصّة... وعند التقدم في صناعة القصّة واكتساب تقنياتها يكون التكثيف والإيحاء هما مادّة كتابتها. وهكذا تقف القصّة في مرتبة بين القصيدة والرّواية. من هذا كلّه ندرك أن الرواية من مقوّماتها التجربة الحياتية وقدرة الرّوائي على جمع المتناقضات في إطار شامل. هنا ماهو دور النّاقد في التّمييز بين الإبداع الجيّد والنصوص التافهة؟... وهل يكون النقد متقدّما على الكتابة الإبداعيّة أم العكس؟ هذه قضيّة شائكة. فالنصّ المطروح للنّقد يمتلك مقوّماته في ذاته ولا يمكن تسليط القوالب الجاهزة عليه.. لأن النّاقد الذي يسلّط أحكاما مقولبة على النّصّ الأدبي هو قطعا لا يرتقي إلى صفة الناقد الحقيقي. لأن إعطاء الدّور المهمّ للنقد أمر طبيعيّ وضروري إذا ارتفع النقد إلى درجة إعادة كتابة النصّ بمكاشف ضوئية نافذة إلى التجاويف حيث تختبئ الوجوه الخلفيّة عنا وعن هذا النصّ وكشف الأورام التي أخفتها ملابس لغة الكتابة. ومن المتقدّم على الآخر: النصّ أم النقد؟، في هذا الشأن يعكس الروائي الجزائري الدكتور إبراهيم السّعدي مقولة رولان بارط حول موت المؤلف ويعوّضها عندنا بموت النصّ. فالناقد في عالمنا العربي في أغلب الأحيان حاله كحال القارئ، أي إذا كان النصّ يحمل إمضاء أحلام مستغانمي أو غادة السّمان أو الطيّب صالح على سبيل المثال، وإذ كان النصّ شعرا عليه أن يكون لنزار قباني أو محمود درويش وهكذا... فهذا النصّ نابض بالحياة تتناوله الصحف والمجلات والإذاعات ومختلف وسائل الإعلام. أما اذا كان لفلان أو فلتان فهو ميّت مهما كانت جودته وروعته وجماليته. والحقيقة ان الساحة النقدية الأدبية العربية اليوم مملوكة من دوائر تتحكم في توجيه الإعلام، وترفع من والاها وراق لها أو شاركها في المذهب ودفع المال أو ضرب الطبل وتملق. فأنا على رأي صديقي الرّوائي اللّيبي الدكتور صالح السنوسي الذي يقول «أنا لا أصلح لمثل هذه الزّمرة».. ولكن هذا لا يعني حشر الجميع في نفس المركب... فهناك نقاد نزهاء وشرفاء وجادّون، لكنهم قلّة وفقراء ولا ينزلون إلى ساحات الرّقص على الحبال.. ونحن الآن في زمن الأغلبيّة والأقلية. على ذكر الدوائر المشبوهة التي تتحكم في الساحة الأدبية من بعض النقّاد، هناك من يشمل بهذا الكلام أيضا لجان منح الجوائز أو إدراج النصوص المختارة في برامج التعليم والبحوث الدراسية في الجامعات.. ماهو رأيك في هذه المسألة؟ توجد ثلّة من النقاد والجامعيين يتعاملون مع الأدباء بأسلوب «نحن أولاد أحد وما دوننا هوامش» إنه منتهى التكبّر والغرور والصلافة. هذا مخالف لطبيعة الإبداع التي هي كالصوت الجميل، تصقل بالمجاهدة والصّبر والجودة والموهبة. نعرف أنك كاتب عصاميّ لا تحمل شهادة جامعية عليا، وأنه كثيرا ما نسمعك تتحامل على أصحاب الشهائد من الكتّاب. هل يعبّر هذا عن مركّب نقص فيك يسكنك لأنك لست من هؤلاء، مع الاعتذار لك عن صراحتي؟ النّاظر إليّ من الجانب المقابل يخمّن في ما خمّنت فيه أنت وهذا معقول من وجهة نظر تطرح في مكانها، ولا ضير في ذلك. ولكن طرحك هذا بصراحة لا يستوجب الاعتذار غير أنه أتاح لي أن أقابله بطرح لا يطرح كثيرا وهو حول «العصاميّة» كمصطلح: هل هي نقيصة تشي بعدم الاكتمال أم هي مجرّد توصيف؟ فالمطّلع والدّارس للظاهرة يدرك أبعادا تؤدي إلى قناعة هي أن العصاميّة قاعدة كلّ إبداع وبوابة البروز والتميّز، لأن المدرسة لا تصنع المتفوّق والموهوب والمكتشف والمخترع، فجميع هؤلاء تطغى في نفوسهم رغبة البحث والتكوين في ملء جوانحهم بالغوص والتعمّق في المادّة التي يريدون من خلالها تحقيق الغاية التي ينشدونها. ولذلك فإن المصطلح «عصامية» في اللّغة الفرنسية أكثر دقّة، إذ جاء بمعنى التكوين الذاتي (AUTODIDACTE) أما أصله في اللّغة العربية فيعود إلى رجل اسمه «عصام» وهو حاجب النعمان الذي برع وامتاز في معارفه ولم يكن تلقّى دورسا على أيدي أساتذة، فكان يقول: «كوّنت نفسي بنفسي» حتى أصبح يقال لمن انتهج هذا النهج «فلان مثل عصام». وهكذا نعود إلى فكرة المصطلح بعيدا عن الخلفية المذكورة لنكتشف أن العصامية هي الضرورة لكل متميز بعد المدرسة والحصول على ألفبائية المعارف. فالشاعر يغرق في عشق مادة الإبداع الشعرية والإبحار في شعابها. وهذه هي العصاميّة، فتكون لديه ملكة حذق الشعر. وهذا الشأن ينسحب على كلّ العلوم والأداب والمعارف، كحال الطبيب والفيزيائي والرسام والرّوائي فمن لم يغرق ويسقط في أعماق هذه البحور يظل خريج مدرسة يحمل معلومات محنّطة لا حراك فيها. وهكذا نقرّ بأن العصامية هي مركبة السفر التي بدونها يبقى المرء داخل الجموع البشرية دون تعريف إلا كرقم ولو حمل معه شهائد الدنيا كلها. إلى جانب كتابة الرّواية، أنت تتحدّث منذ سنوات من إنجازك لموسوعة أنتولوجية تضمّ تراجم روائيي المغرب العربي الكبير، أليس ذلك تطفّل على ميدان البحث الذي هو حالة أكاديمية علمية لها أصحابها وأنت لا تنتمي إليهم؟ نعم أنا مبدع نصوص أدبية للمخيال فيها درجة متقدمة، وللمتن الحكائي ضلع كبير.. ومع ذلك قمت بعمل موسوعي ضخم هو مرجع للباحثين والدراسين والمهتمين بالراوية في أقطار المغرب العربي والتي أصبحت لها مكانة ملفتة للانتباه. ماهو رأيك في الحملة القائمة حاليا على الرواية الجزائرية أحلام مستغانمي بعد ما قلّل الناقد المصري محمود الغيضاني من قيمتها الأدبيّة والإبداعيّة؟ أحلام مستغانمي قيمة أدبية كبيرة، فهي كاتبة وروائية عربية فرضت وجودها عربيا ودوليا، فلماذا التشكيك في قيمتها الأدبية الإبداعية؟ إنها رمز من رموزنا الثقافية والأدبية العربية حاليا، أستغرب من التطاول عليها وعلى عطائها الإبداعي ذي الخصوصية والتميز والفرادة.. فهذه الحملة الشرسة على أحلام مستغانمي ظالمة يجب أن تتوقف رغم أن «أحلام» استفادت من الحملة وزادت نسبة انتشارها وشعبيتها في كامل أنحاء العالم.