حاوره: عبد السّلام لصيلع نستضيف في حوار اليوم الدكتور مصطفى التّواتي، الجامعي والنّقابي المعروف، وعضو المكتب التنفيذي لحزب «نداء تونس» سابقا والذي غادره ليصبح من قياديّي ومؤسّسي «حركة مشروع تونس»، ضيفنا تحدّث ل«التونسية» عن الأسباب التي جعلته يترك «النّداء» ويلتحق ب«المشروع» قائلا: لم ننتبه جيّدا إلى تدنّي واقع الديمقراطية داخل الحزب والتْغييب الممنهج للمؤسّسات التسييريّة واختزال الحزب في شخص رئيسه»، مشيرا في معرض حديثه إلى أنّ الاتصالات بين الباجي قائد السّبسي وراشد الغنّوشي «انطلقت سرّيّة بوساطة أطراف أجنبيّة «صديقة» ثم توّجت باللّقاء العلني الشّهير في باريس الذي قدّم لنا على أنّه اللقاء الأوّل». ويبيّن مصطفى التواتي أنّ «حركة مشروع تونس» «جاءت للإنقاذ ولإعادة الحلم إلى أصحابه» داعيا إلى «خطّة وطنيّة للإنقاذ ما دامت البلاد في حالة حرب فعليّة على الإرهاب». كنت من أوائل الملتحقين بحزب «نداء تونس» وأحد أعضاء مكتبه التنفيذي، وها أنت اليوم أحد مؤسّسي «حركة مشروع تونس»، فما هي الأسباب التي جعلتك تغادر «النّداء» إلى «المشروع»؟ - «نداء تونس» لم يكن حزبا بالمعنى الدّقيق للكلمة وإنّما كان ظاهرة نشأت حول شخصية اعتبارية هي الأستاذ الباجي قائد السبسي وفي ظروف خاصة عاشتها البلاد في ظلّ حكم «الترويكا» وما مثله من تهديد جدّي لنمط عيش التونسيين ولرموز اعتزازهم الوطني وذلك في وضع فراغ سياسي واختلال مريع في موازين القوى لفائدة الإسلام السياسي بشقّيه الأخواني والسلفي، الأمر الذي أوقع شرائح واسعة من التونسيات والتونسيين في حالة من الخوف والشعور باليتم وهو ما ولّد لديهم الحاجة إلى الأب المنقذ مجسّدا في صورة الأب المؤسّس للأمّة التونسية الحديثة الزّعيم الحبيب بورقيبة. وقد عرف الأستاذ الباجي بكلّ ذكاء كيف يمثّل شخصية الزّعيم الراحل الحي في المخيال الشعبي. وكان واضحا للمتابع الحصيف أنّ هذه الظاهرة التي بدأت تتشكّل حول شخصية الأستاذ الباجي هي الوحيدة الكفيلة بتحقيق التوازن المفقود فانخرطوا فيها بكلّ نجاعة وحماسة وحوّلوها من الوجود بالقوّة إلى الوجود بالفعل وكانوا، إلى جانب الباجي، الشرط الواجب لنجاح «النداء» في قلب المعادلة السياسية والفوز بالانتخابات التشريعية والرئاسية، ولكنّنا في غضون ذلك لم ننتبه جيّدا إلى تدنّي واقع الديمقراطية داخل الحزب والتغييب الممنهج للمؤسّسات التسييريّة واختزال الحزب في شخص رئيسه، معوّلين على حكمة الأستاذ الباجي ومرجئين الأمر إلى ما بعد الانتخابات. وكان هذا هو الخطأ القاتل.. وقد اتّضح ذلك عندما انطلقت الاتصالات سرّية بين الرئيس والسيد راشد الغنّوشي رئيس حركة «النهضة» بوساطة أطراف أجنبية «صديقة»، ثمّ توّجت باللقاء العلني الشهير في باريس الذي قدّم لنا على أنّه اللقاء الأوّل وقد أثبتت الوقائع اللاحقة أنّ الشقّ النّدائي من الاتفاق الحاصل يتمثّل في: استبعاد العناصر القيادية التي تنعتها حركة «النهضة» بالاستئصالية والتي قد يمثّل وجودها عائقا لتنفيذ الاتفاق، وقد تمّ ذلك على مرحلتين الأولى عند استبعاد الطيّب البكوش من إمكانية خلافة الأستاذ الباجي في رئاسة الحزب وتعويضه بالسيد محمد الناصر، والثانية عند استبعاد معظم تلك العناصر من قائمات المرشّحين للانتخابات البرلمانية. استبعاد الحزب من رئاسة الحكومة رغم فوزه بل وتهميشه فيها وحرمانه من الاختيار الحر لممثليه في تركيبتها. تشريك حركة «النهضة» في الحكم والحكومة مهما كانت نتائج الانتخابات. ورغم الوعود المقطوعة للناخبات والناخبين. الامتناع عن فتح الملفّات الحارقة لحكم «الترويكا» ومنها الاغتيالات السياسية وتشجيع التنظيمات التكفيرية والأمن الموازي وإهدار المال العام وسوء التصرّف والفساد... وبالرغم من وجود طابور خامس داخل الحزب مموّل من بعض أباطرة المال الفاسد ومدعوم من أوساط الإسلام السياسي و«الأصدقاء» الخارجيين، فإنّ ردّ فعل إطارات الحزب كان في مستوى خيبة الأمل وهم يرون انتصارهم الشاق يسرق منهم ويشهدون وعودهم الانتخابية تتحوّل إلى نقيضها، لذلك كان لابدّ من إضعاف هذا الحزب وقلع أظافره وفي هذا الإطار جاءت فتنة التوريث بكلّ تبعاتها المعروفة. ونتيجة لكلّ ذلك كان لابدّ من التحرّك لإنقاذ المشروع وإعادة الحلم إلى أصحابه فكانت «حركة مشروع تونس» التي جمعت نسبة هامّة من قيادات «النّداء» وإطاراته بمن فيهم الأمين العام محسن مرزوق وعددا من خيرة نوّابه في البرلمان وكذلك عشرات الآلاف من مناضليه وناخباته وناخبيه في الجهات. ما هي الأرضية الفكريّة والسّياسيّة لهذا المشروع؟ - «حركة مشروع تونس» هي حزب ديمقراطي اجتماعي ولا أقول اجتماعيا ديمقراطيا باعتبار الأولوية المطلقة للدّيمقراطيّة فكرا وتنظيما حزبيّا ونمطا في الحكم والمجتمع وهو اجتماعي لأنّه في اختياراته الاقتصادية يعمل على تحرير المبادرة الخاصّة في إطار مجتمع متضامن تقوم فيه الدّولة بمسؤولياتها الاجتماعية والتّعديليّة عبر نظام جبائي عادل وشفّاف وناجز وكذلك بتحمّلها مسؤولية القطاعات الاستراتيجيّة. أمّا المرجعيّة الفكريّة فتعود إلى ما سمّيناه بالبورقيبيّة الجديدة أي الجمع بين رموز المرجعيّة الإصلاحيّة والتّحرّريّة التونسية العريقة والمستنيرة بمختلف تيّاراتها ورموزها وفي مقدمتهم الزّعيم الحبيب بورقيبة باني الدّولة الوطنيّة التونسية الحديثة مع الانفتاح على الإرث الإنساني وخاصّة ما تعلّق بالمنظومة الكونيّة لحقوق الإنسان ومبادئ التّسيير الدّيمقراطي والأخذ بناصية العلم والتّكنولوجيا. وفي إطار هذه الرؤية يتنزّل المفهوم البورقيبي للهويّة التّونسيّة الضّاربة في أعماق التّاريخ والمتطلّعة دوما إلى المستقبل. هل شرعتم بعد في وضع برنامج عمل لحزبكم؟ - إنّ برنامج العمل بدأ فعلا من خلال المقاربة الجديدة التي توخّيناها في تأسيس هذا الحزب انطلاقا من القاعدة الشّعبيّة والجهات فانتظمت اجتماعات استشاريّة واسعة بعضها قطاعي مثل اجتماع المرأة واجتماع الشباب وبعضها عامّ مثل اجتماع قمّرت واجتماع يوم 10 جانفي بقصر المؤتمرات، ثمّ سلسلة من الاستشارات الإقليميّة التي شملت مختلف ولايات الجمهورية إضافة إلى استفتاء شمل أكثر من 125 ألف مواطن ومواطنة في جميع الجهات وقد تمّ تتويج هذا المسار بالاجتماع الجماهيري الحاشد يوم 20 مارس في القبّة الرياضيّة بالمنزه والذي أعلن فيه المنسّق العام محسن مرزوق رسميّا عن تأسيس حزب حركة مشروع تونس وهي التسمية التي أفرزها الاستفتاء الشعبي. أما برنامج العمل اللاّحق فيتمثّل في تكوين لجان الإعداد للمؤتمر التّأسيسي الذي سينعقد أواخر شهر ماي على الأرجح وسوف تكون هذه اللجان على المستوى الوطني والجهوي وسيتمّ فيها تشريك كلّ الكفاءات من ذوي الاختصاصات سواء من الحزبيّين أو من الأصدقاء والمتعاطفين لنخرج ببرامج عمل ومشاريع جديّة وواقعيّة لمقاربة القضايا والمشاكل التي تعاني منها البلاد حاليّا وتحصينها منها مستقبلا. أمّا في العطلة الصّيفيّة فإنّ إطارات الحزب ومناضليه مدعوّون إلى العمل الحثيث لإنجاز المؤتمرات المحليّة والجهويّة حتى نكون قد فرغنا من بناء مجمل هياكل الحزب واستعددنا كما ينبغي في مفتتح السّنة الاجتماعية والسّياسيّة أي في شهر أكتوبر لتحمّل مسؤولياتنا الوطنيّة باعتبارنا الحزب صاحب ثالث كتلة نيابيّة والذي يضمّ عشرات الآلاف من المنخرطين وخاصّة الحزب الذي بنى شرعيّته على الارتباط الحميم بطموحات شعبه وانتظاراته ومتطلّبات الوضع الدّقيق الذي يمرّ به وطننا العزيز. مادمت قد أشرت إلى دور محسن مرزوق، فلابدّ أنّك على علم بأنّ هناك اختلافا حوله فالبعض يراه المهندس الأوّل للمشروع والبعض الآخر يراه مجرّد واجهة، فما رأيك في هذا؟ - ينبغي ألاّ ننسى أنّ محسن مرزوق ليس وافدا على السّاحة السياسية مع المطرة الأخيرة وإنّما هو عريق فيها، فقد تمرّن على النّضال السياسي في الحركة الطلاّبية في الثمانينات وكانت له تجربة دوليّة هامّة في العمل الجمعياتي والنّضال من أجل الحرية والديمقراطية وكان له دور بارز بعد 14 جانفي 2011 وبرز من بين قيادات «نداء تونس» بنشاطه وإشعاعه ولعب دورا أساسيّا في الحملات الانتخابية وخاصّة الرئاسيّة، ويدلّ التحاقه بالحركة الاحتجاجية في الحزب وقيادتها والمساهمة في تحويلها إلي حزب محترم في وقت قياسي على شجاعة ونضاليّة وبعد نظر وهو ما أهّله ليحوز على ثقة مؤسّسي المشروع. أمّا قضيّة الزّعامة فهو يدرك جيّدا أنّ الزّعامة الفرديّة بالمعنى القديم قد انتهت وسمعته يقول مرارا إنّ الزّعامة الحقيقية الآن هي المشروع نفسه. كيف ترى الوضع السياسي العامّ في البلاد؟ وما هي آفاقه المستقبليّة؟ - إنّ التّشخيص الصّحيح والدّقيق للمرض شرط أساسيّ للتّوفيق في الوصفة العلاجية والواقع الذي تعيشه البلاد اليوم يتلخّص فيه: وجود خلل أمني تفاقمت مكوّناته في السّنوات الخمس الأخيرة. وضع اقتصادي يتّسم بالتّدهور المستمرّ لمعدّلات النموّ والتّراجع المتواصل في الاستثمار وتفاقم أزمة البطالة. وهو ما نتج عنه تدهور في الوضع الاجتماعي وتوتّر في العلاقات بين الأطراف الاجتماعيين ممّا أدّى إلى المزيد من الإضرابات والاعتصامات والقطع العشوائي والمتوحّش لعمليّة الإنتاج، كلّ ذلك في إطار استقالة شبه تامّة أو مواقف تغلب عليها الانتهازيّة بين مختلف التنظيمات السياسيّة بل وقد شمل الأمر حتى منظّمات المجتمع المدني للأسف. ولعلّ أهم الأسباب وراء تواصل هذا الوضع، هي الطّريقة التي تمّ بها تشكيل هذه الحكومة بعيدا عن النتائج الفعليّة لصناديق الاقتراع وبضرب واضح لمصداقية الشّرعيّة الانتخابية فجاءت حكومة معزولة عن كلّ دعم سياسي حزبي حقيقيّ فاقدة للانسجام مفتقرة إلى رؤية واضحة في الحكم ومنهج في السّلطة لذلك لا تبدو في شكل حكومة بقدر ما هي مجموعة من الوزارات التقنية وكنت أودّ ألاّ أقول إنّهم بمثابة عازفين فرادى دون قائد أوركسترا. وهذا ما يفسّر حالة الارتخاء في سلطة الدّولة ونحن نعتقد أنّ الحل من هنا يبدأ أي في إعادة السلطة إلى الدّولة لفرض سلطة القانون على الجميع وإعلاء المصلحة الوطنيّة على كلّ مصلحة واعتبار الظّروف الاستثنائية التي تمرّ بها البلاد وتطبيق قوانين الحزب ما دامت البلاد في حالة حرب فعليّة على الإرهاب. وينبغي أن يقترن ذلك بخطّة وطنيّة للإنقاذ تستغرق ما تطلّبه من وقت يسود فيه السّلم الاجتماعيّ وتعود للعمل قيمته وتلتزم جميع الأطراف بتقاسم الأعباء والتّضحية للخروج بالاقتصاد من أزمته ولإعادة الأمل وإشاعة النّور في آخر النّفق أمام مئات الآلاف من العاطلين وجلّهم من الشباب وخاصّة من حاملي الشهائد. فالمطلوب من الأحزاب الفاعلة على الساحة والمنظمات الشغيلة وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف والاتحادات الفلاحيّة ومنظمات المجتمع المدني ذات المصداقية أن تلتقي على ميثاق وطني إلزامي في هذا الشّأن يسهم فيه الجميع كلّ من موقعه في الحرب الحقيقيّة وضدّ الإرهاب انطلاقا من محاضنه الأولى ومكامن تفريخه.