بقلم: جيهان لغماري في أسابيع قليلة، فقدت العائلة التقدمية واليسارية بكل تفريعاتها أسماء لامعة ومناضلة طوال مشوارها السياسي والثقافي: أولاد أحمد، عبد الرزاق الهمامي وأحمد إبراهيم. اللافت للانتباه، ولو أنّ المسألة ليست جديدة، إجماع كل الأطياف التقدمية على أهمية هذه الأسماء في مقاومة الاستبداد وعملها الدؤوب من أجل مجتمع تقدمي حداثي بخلفية اجتماعية ديمقراطية. هذا الإجماع حصل حتى من الذين اختلفوا مع الراحلين من داخل العائلة اليسارية الموسعة، في تفاصيل بدت مهمّة حين كانوا على قيد الحياة وانتفت وأصبحت «تافهة» وغير ذات أهمية بعد رحيلهم!. هل هي «لغة» احترام طقوس الموت الموغلة في الإنسانية وذكر «الحسنات» والذكريات التي جمعت الرفاق/ الأعداء/الأحبّة؟ أم هي لغة سياسية يؤمن بجدواها الباقون على قيد الحياة من أصحاب «الحوانيت» المشتَّتة دون القدرة على مواجهة قواعدهم بأنّ زمن النقاء الثوري قد ولّى بلا رجعة وأنّ الانتصار السياسي السلمي يكفله مواجهة الواقع بأطر سياسية أكبر وأوسع من التقوقع الأيديولوجي الموغل في التنظير وتمجيد العزلة؟ إطلالة سريعة على المسارات التي مضى فيها مثلا الراحلان أحمد إبراهيم وعبد الرزاق الهمامي تؤكد هذه المفارَقة العجيبة عند الطيف التقدمي عموما واليساري خاصة. الحزب الشيوعي التونسي، الحزب الأعرق في تونس، وعلى إثر تفتّت الاتحاد السوفياتي وحقبة غورباتشوف وما يسمى «البرسترويكا» التي أنهت الحرب الباردة بسقوط المعسكر الشرقي، سعى وقتها إلى التأقلم السريع مع هذه التغيرات الإقليمية بما يتناسب والخصوصية التونسية بأن قرر توسيع أدبياته باستيعاب المستقلين التقدّميين ولتصبح الماركسية بمختلف مدارسها رافدا فحسب من جملة الروافد الأخرى ذات المنحى الاجتماعي الديمقراطي، المنتصرة لعلوية القانون ودولة المؤسسات ومفاهيم الجمهورية دون التخلي عن مبدإ مركزي وهو العدالة الاجتماعية. هذا التمشّي الذي أخذ وقتا طويلا في النقاش والمداولة مع غير المتحزبين، أسفر عن تغيير اسم الحزب إلى حركة التجديد (المسار حاليا) وتكوين مكتب سياسي مكوَّن بالتساوي بين أعضاء من الحزب الشيوعي سابقا ومن الوافدين الجدد من روافد فكرية أخرى غير ماركسية. هذا التمشّي الجديد قوبل باستنكار شديد من اليسار الماركسي الكلاسيكي الذي كانت أغلب أطيافه تنشط في السريّة، هذه القوى اعتبرت هذا التمشي خيانة كبرى وجريمة في حق اليسار (مع أنه متعدد). هذه المواقف المتشنجة وإن بدت «مبرَّرة» (في الحقيقة لا تبرير لها) وقتها بآلة القمع والسرية وانعدام الحريات السياسية مما ضاعف من حالة التقوقع الحَلَقي الأيديولوجي، تصبح اليوم عند تكرّرها وبعد صعود جميع العائلات السياسية إلى سطح الممارسة العلنية بفضل مسار 17 ديسمبر – 14 جانفي 2011، نوعا من الفولكلور «الثورجي» الذي تسمع جعجعته ولا ترى طَحينه! ما هي تهمة حزب المسار إن صنّفه هؤلاء من «وسط اليسار»؟ وليس يسارا؟، وأنه بعد تغيير اسمه، أصبحت توجهاته إصلاحية وليست ثورية؟. لسنا هنا في موضع الدفاع عن «المسار» أو معارضته، ولكن هل صفة «الثورية» ماركة مسجّلة باسم أحدهم ينفيها عن هذا ويُصبغها على ذاك؟. حين اختار الراحل أحمد إبراهيم الترشح لرئاسية 2009 ضمن ائتلاف القوى الديمقراطية الذي ضمّ أيضا المرحوم عبد الرزاق الهمامي، ما الذي حدث وقتها؟، الجميع يذكر أنّ السهام التي طالته ومن معه و«تجريمه» ونعته بالخيانة كان بالأساس من العائلة اليسارية. الوقائع أثبتت بعد ذلك صحّة رؤية ائتلاف القوى الديمقراطية. فأحمد إبراهيم لا نخاله ترشّح معتقدا حقا في حظوظه، ولا أيضا ترشّح ليعطي مصداقية للنتائج القياسية لنظام بن علي، وإنما كان تقديره ومن معه أنّ مجرد القيام بحملة ذكيّة كفيل بحلحلة الأوضاع السياسية الموغلة في الخوف والمقاطعة وهذا ما حصل بما أقلق السلطة وقتها والتضييقات التي حصلت له في صفاقس تثبت ذلك، كما أنّ اختتام حملته في العاصمة كان فرصة ليعمد بعض المواطنين خاصة من غير المتحزبين إلى الظهور التلفزي العلني ليدلوا بدلوهم في الشأن العام بوجوه مكشوفة في تأكيد على بداية كسر حاجز الخوف. هذه النتائج – في زمنها – ألم تكن قياسية ورافعة للمرور إلى مرحلة أعلى وأكثر تطوّرا في آلياتها وأساليبها لفرض الحريات السياسية؟ نفس الأمر ينطبق على الراحل عبد الرزاق الهمامي مع اختلاف طفيف في بعض التفاصيل، أحد أهم رموز التيار الوطني الديمقراطي، عايش تجارب سياسية ونقابية مختلفة واتخذ مواقف اتفق معه فيها رفاقه واختلفوا أيضا، بل وصل الأمر إلى التجريح والاتهام بالهرولة إلى الفكر الإصلاحي. تمكن سنة 2005 من إعلان تأسيس «حزب العمل الوطني الديمقراطي» في خطوة علنيّة شجاعة رغم عدم حصوله على التأشيرة من السلطة الحاكمة آنذاك مما عرّضه إلى هرسلة وتتبعات يومية. وانضمّ إلى مبادرة ائتلاف القوى الديمقراطية التي رشّحت أحمد إبراهيم للرئاسية وخاض معه الحملة في الشوارع في تحدّ للحزب الواحد. هو أيضا، لم تكن لديه أوهام الانتصار في انتخابات صوريّة ولكنّ الهدف كان واضحا: كسر حاجز الخوف عند العامّة من المشاركة في الشأن العام وفضح ممارسات النظام للمرور إلى مرحلة أخرى من النضال. نقطة مفصلية مربكة بعد الثورة، كان من الضروري إعادة التموقع حسب الواقع الجديد، طبعا قد يكون أخطأ حينا وأصاب حينا آخر وتلك هي أسس العمل السياسي القائم على المتحوّل والنسبي، ولكن هذا لا يفسّر الهجمة التي طالته من عائلته اليسارية الموسَّعة. الجميع يعرف محاولات تجميع فصائل التيار الوطني الديمقراطي (الوطد بكل تفريعاته الحلَقيّة) وقد بلغ التنسيق أوجُه بين عبد الرزاق الهمامي والشهيد شكري بلعيد وتبلور خاصة في سلسلة اللقاءات الجماهيرية المشتركة بينهما. ولئن أسفرت في الأخير عن التحاق جزء كبير من حزب الهمامي بحزب الوطد الموحّد دون عبد الرزاق فإنّ هذه النتيجة ليست مبررا لكيل التهم وتعميق الهوّة مع أنّ ما يجمعهم في العام أكثر من التفاصيل التي فرّقتهم. أن يبدأ بعد ذلك، عبد الرزاق الهمامي رحلة البحث عن تموقع أو جبهة ديمقراطية أوسع لأنه يرى أنّ العاجل هو الحفاظ على مدنية الدولة وأن يقوم بمبادرات، في الحقيقة لم يكن لها تأثير في الواقع السياسي، فذلك شأنه وتلك اجتهاداته قد يرفضها أغلب رفاقه (وهذا ما حصل) وقد يقبلها البعض وقد لا يبالي بها أحد، ولكن هذا الاختلاف في قراءة المشهد ليس مبررا لينهشه رفاقه بكل تلك القسوة. حين رحل عبد الرزاق، قال عنه رفاقه/المنافسون/المحبّون ما كان عليهم قوله في حياته: «مهما اختلفنا أو اتفقنا معه، لا أحد يزايد على نضالية وشجاعة وإنسانية الهمامي»، هكذا قالوا. هذه التفاصيل السريعة (وما أكثرها) التي عاشها الراحلان إبراهيم والهمامي تشي بوجود نقطة مفصليّة مُرْبِكَة لدى فصائل اليسار المختلفة، لا أحد يرغب في زحزحتها إمّا حفاظا على حالة الركود ببقاء الأمور على ما عليه من تعدّد للحوانيت الحزبيّة، أو خوفا من تبعات الجهر علنا بضرورة مغادرة هذه الحوانيت الصغيرة نحو أفق أرحب سواء بحزب كبير يجمع كل المدارس اليسارية المختلفة قادر على تأطير وإدارة الخلافات داخله أو بجبهة واسعة لا تستثني أحدا من العائلة التقدمية الاجتماعية مع احتفاظ كل حزب بهويته وأركانه. هذا الخوف مردّه عدم القيام بمراجعات داخلية مؤلمة وضرورية تحافظ على الحد الأدنى والموضوعي من المبادئ وأساسا العدالة الاجتماعية من جهة، وتأخذ في الحسبان أنّ هدف السياسة هو الحُكْم لتقديم بدائل ممكنة للشعب. ومادامت كل الأحزاب بيمينها ويسارها قبلت الخضوع إلى مبادئ الجمهورية وأساسا التداول على السلطة عن طريق صندوق الانتخاب، فإنّ المبالغة في «النقاء الثوري» من الأطياف اليسارية المشتَّتة لن تمكّنها من الوصول إلى عدد كبير من المواطنين الذين يُعتَبَرون المفتاح الوحيد للنجاح في صندوق الانتخاب!. كما أنّ هذا التقوقع والصراع اليساري/اليساري يفرض علينا سؤالا عن مدى جديّة الاقتناع بالديمقراطية الصندوقية بالأساس داخلها أي في هيكليتها قبل خارجها مع المنافسين؟ هذا التقوقع النظري تقابله اجتهادات عليها أن تتطوّر أكثر، فالجبهة الشعبية بكل مكوّناتها تتحدث عن أهمية دور القطاع الخاص «الوطني» مع استعادة دور الدولة في التوجهات الاستراتيجية الكبرى ولم تشر لا من قريب أو من بعيد إلى أدبيّات قديمة من نوع «التأميم»، فلماذا لم يقابل هذا التمشي تغيير «بنيويّ» ذهني حقيقي عند قواعد مكوّناتها التي بقيت حبيسة تقديس أدبيات صراعات الجامعة في القرن الماضي؟ بقية الأحزاب من خارج «الجبهة الشعبية» ك«الجمهوري» و«التكتل» و«حركة الشعب» و«التيار» و«التحالف» و«المسار» و«الاشتراكي» و«العمل» وحتى «حزب البناء الوطني» (مؤسسه رياض الشعيبي المستقيل من حركة «النهضة»)، لو راجعنا مواقفها وأدبياتها لوجدنا اتفاقها الضمني على مبدإ دولة الرعاية الاجتماعية، تبقى التفاصيل هي التي يقع فيها الاختلاف: ما الذي يمنع كل هؤلاء من التحوّل من قوى تنظيرية محترَمة إلى آلة انتخابية لها حظوظ وافرة دون فقدان بوصلة المبدإ الجامع بينها وهو العدالة الاجتماعية؟، طبعا هو عدم القدرة على إدارة الخلافات مع أنها روح السياسة. هؤلاء، عليهم أن يتذكّروا أنّ من صعد منهم إلى البرلمان ما كان له أن يكون هناك لولا قانون أكبر البقايا!. جبهة موسعة نظريا، ماذا لو ترشحوا في جبهة واسعة واحدة؟. الإجابة الموضوعية هي إمكانية نجاحهم دون «مزيّة» البقايا، القدرة على التأثير وعلى المضي في تنفيذ برامجهم المعلَنة. أمّا الأهم فهو على مستوى الناخبين من غير المتحزبين الذين يمثلون الأغلبية المتحوِّلة من انتخابات إلى أخرى، هؤلاء ليست لهم القدرة ولا الوقت لفهم وتفحّص برامج عشرات الأحزاب ويكتفون فقط بالأحزاب التي تتردّد أسماؤها دائما على طريقة «من الفم إلى الأذن» وهي الأحزاب الحاكمة في أغلب الأحيان باعتبارها تتصدّر المشهد الإعلامي. إذن لو تجمعت العائلة الاجتماعية الديمقراطية في جبهة انتخابية واحدة، فمن المؤكد أنها ستقلّص من حيرة الناخبين وفي نفس الوقت قد تكون بديلا لحُكّام اليوم الذين مهما اجتهدوا فإنّ التهرئة حاصلة وتلك ضريبة كلّ من وصل إلى السلطة اليوم وغدا في كل أنحاء العالم. في المحصلة، آن الأوان لكلّ المقابر والمآتم التي جمعت كل مدارس اليسار والأطياف الاجتماعية الديمقراطية بكل تفريعاتها التقدمية عموما واستحضار مزايا ونضالية الراحلين، أن تتحوّل إلى مراجعات حقيقية على ألمها، لتصبح مشروع حياة يجمع في إطار أشمل وأوسع كل الذين يؤمنون بالعدالة الاجتماعية. إطار حزبي أو جبهوي قادر على لعب دور مهم في بناء تونس الجديدة وعلى أن يصبح لاعبا رئيسيا في المشهد يمكن له منافسة الأقطاب التقليدية المنافسة كحركة «النهضة» أو الأحزاب الانتخابية ك«النداء»، طبعا على أن يبقى هذا التنافس في مساره القانوني المدني السلمي المؤمن بالتداول على السلطة طبقا لسلطة الشعب التي يمارسها عن طريق الانتخاب. الانتخابات البلدية على الأبواب وما لم يجد هؤلاء مكانا آخر للاجتماع والاتفاق على الحدّ الأدنى سوى المقابر وتأبين الراحلين منهم، فإنّ نتائجهم ستكون حتما كارثية وقاتلة سياسيا دون قدرة على نفخ الروح في جثّة باردة !