و أنا أستمع إلى ذلك الشاب وهو يصيح بأعلى صوته في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة مساء الجمعة الماضي بعد أن فرّ الرئيس المخلوع الذي كان جاثما على صدور أحد عشر مليونا من التونسيين ، بالرغم من حظر التجول لم يتمالك ذلك الشاب الخروج إلى الشارع " ليتنفس " الحرية بعد ثلاث و عشرين سنة من القمع و الإضطهاد الذي تعرض له طوال تلك الفترة ، لقد عرفت فيما بعد أنه محام " مغضوب عليه " ، لقد أبكاني كلامه و الله ، لم أتمالك نفسي و أنا أستمع إليه بكل جوارحي وهو يصيح بأعلى صوته في ذلك " الهواء العليل " ، في تلك "الساحة الفسيحة " الممتدة حتى كأنما وجد نفسه في صحراء ممتدة " لا رقيب فيها و لا حسيب " ، لقد وجد لأول مرة القوة الخارقة التي كانت مكبوتة طوال ثلاث و عشرين سنة ، لقد انفجرت فجأة ذات مساء من يوم الجمعة 14 جانفي 2011 ، يوم لن يمّحي من ذاكرة ذلك الشاب الذي تحول فجأة إلى طائر يخرج من قفصه ليغرّد و ينعم بنسمات الحرية ، لقد كان فعلا ينظم شعرا لم ينظمه قبله إلا شاعر تونس الأول " أبو القاسم الشابي " فمن غيره رسم ذلك البيت الشعري الرائع و تلك الكلمات المؤثرة في كل المستضعفين في الأرض حتى أصبحت بمثابة فاتحة لكل المجالس ومقدمة لكل البرامج التي تجمع المضطهدين ومسلوبي الكرامة و الحرية .. لقد كان ذلك الشاب " يتنفس " حرية ليخرج من صدره شعر لا ككل الأشعار ، موسيقى لا ككل الموسيقات ، حب " في المكنون " لحبيبته التي أرادوه بعيدا عنها وهي قريبة منه ، حب تجاوز " الحدود " ، ومن تكون حبيبته التي أبعدوها عنه غير " الخضراء " ، ومن غيرك يا خضراء يتغنى بك أحبابك الذين " هجروك " قسرا تحت ضغط " المفسدين " ، ومن غيرك يا تونس يا ملهمة المحبين و العشاق ، لقد كان هذا الشاب أحد عشاقك الأبرياء ، لقد خرج إلى " الهواء العليل " و صاح مغردا :" تحيا تونس ، تحيا تونس ، تونس حرة ، تونس حرة ، الشعب التونسي حر ، تحيا تونس الحرة ، المجد للشهداء ، الحرية للتوانسة ، يا توانسة يا اللي شديتوا الحبوسات ، يا توانسة يا اللي عذبوكم ، يا توانسة يا اللي قهروكم ، يا توانسة يا اللي سرقوكم ، تنفسوا الحرية ، شعب تونس هدالنا الحرية ، يحيا شعب تونس ، تحيا تونس العظيمة ، المجد للشهداء ، يا توانسة ما عادش خوف ، المجرم هرب .. بن علي هرب .. بن علي هرب .. بن علي هرب .. شعب تونس حر .. الشعب هو اللي يحكم .. يا شعبنا يا عظيم.. يا شعبنا يا باهي .. يا شعبنا يا غالي .. يا شعبنا يا سمح .. تنفس الحرية .. العظمة لتونس .. البقاء للشعب التونسي .. أرانا تحررنا ، وبن علي هرب .. تونس من غير بن علي .. بن علي تنحّى .. الشعب التونسي نحّى بن علي .. أنا في لافيني ، وبن علي هرب .. تحيا تونس الحرة .. يحيا شعبنا العظيم و المجد للشهداء .. راهو دمكم ما مشاش خسارة .. تحيا تونس .. يحيا الشعب التونسي .. " .. شعر عفوي ارتعدت له فرائصي ، وارتعشت كل مفاصلي ، واهتزّ كياني ، وتصببت عرقا ، لا بل دموعا ما استطعت أن أحبسها ، فأطلقت لها العنان حتى تعبّر عما هو " مكنون " في خلجات قلبي ، فنظر إليّ ابني في استغراب سائلا :" اشبيك تبكي بابا " .. لم أجد مقاومة لتلك الدموع و لم أتمكن من " قهرها " ووجدت نفسي غير قادر على لملمة بعض الحروف و ترتيبها لتكون إجابة عن ذلك السؤال الذي هزّني هزّا و خلخلني .. شعر لم تتمالك امرأة تونسية حرة وهي تستمع إليه أن تطلق " زغروتة " في ذلك الفضاء الساكن بسبب حظر التجول ، زادتني تلك " الزعروتة " قربا و اعتزازا بالخضراء فتذكرت حشاد وقلت " أحبك يا شعب " ثم التفت إلى صغيري لأعلمه ما لا يستطيع أن يعرف كنهه و طلبت منه أن ينشد معي " إذا الشعب يوما أراد الحياة * فلا بد أن يستجيب القدر " .. وقد صدق الشابي .. و استجاب فعلا ..