قد يبدو السؤال في الوهلة الأولى متناقضا مع فكرة الانتصار (انتصارها الساحق في عدم تحديد مدة المجلس) الدّالة على وحدة المواقف والرؤى وتماسك الكتلة. وإذا اعتبرنا أن السياسة لا تُقاس بنتائجها الآنية فحسب، بل بتلك التي تتمظهر في استحقاق الحكم القادم الذي سيعتمد أساسا على «الترويكا»، وخاصة في الحراك الذي سيتسبب فيه داخل الهياكل الداخلية لأحزاب الأغلبية مع ما قد يحدثه ذلك من تجاذبات وانعكاسات في قرارات التحالف، يصبح السؤال عندئذ معقولا بحجم عدم القدرة على تحديد إجابة واحدة. وترتبط التأويلات المتعدّدة بموازين القوى داخل «الترويكا» وخاصة داخل الأحزاب المكوّنة لها. حركة «النهضة»: انضباط كامل مقابل انحسار مجال المناورة استطاعت إلى حد الأيام الأولى لانعقاد المجلس التأسيسي أن تناور دون أن تتورّط في مواقف قد تجعلها وحيدة في مواجهة بقية الأطراف، إذ فهمت أنّ انتصارها الانتخابي الواضح لن يعفيها من الدخول في ائتلاف بل و التمسّك به لأنّ بقاءها وحدها سيُحسب عليها كحركة متشنّجة في مواجهة كل الأحزاب وهنا يصبح عدد المقاعد ثانويا بالمقارنة مع عدد الأحزاب المعارضة وإن تفاوتت أحجامها. وهذا ما جعلها تعتمد في ترشحات أعضائها للجان المختلفة على الكفاءة أولا قبل الاعتبار النضالي «السجني» أو في المنفى. وقد برز ذلك خاصة لدى الأستاذ الحبيب خضر رئيس لجنة إعداد مشروع قانون التنظيم المؤقت للسلط العمومية، إذ استطاع أن يكون دقيقا في المصطلحات القانونية بل وسريع البديهة في الرد على الملاحظات المختلفة وهو ما يحملنا على الاعتقاد بأنّ الديباجة الأولى لمختلف الفصول كانت مقصودة ومحسوبة وكنتيجة لذلك كانت الاقتراحات والملاحظات التعديلية متوقََّعة مما جعلها مقبولة في مجملها دون السماح لها بالنزول تحت الحدود التي رسمتها الترويكا وبالأساس «النهضة». بهذا التمشي أرادت الحركة أن تؤكد قدرتها على التنازل من أجل التوافق لا مع حلفائها فقط بل مع كل مكوّنات المجلس وقد كان ذلك واضحا في تصريح نور الدين البحيري حول الاتفاق على الأغلبية المطلقة في كل ما يتعلّق بالرئاسات الثلاث (التكليف والعزل). كما أنّ هذا الأخير أكّد – رغم المصادقة على عدم تحديد المدة الزمنية للمجلس– على احترام الحركة لتعهداتها بالعمل على عدم تجاوز سقف السنة وأنّ المسألة شكلية لا غير. ولكن وإن كان من الممكن احتواء التجاذبات الداخلية للقواعد حتى مع وجود حدث مهم وقريب وهو مؤتمر الحركة وذلك للقوة التنظيمية و انضباط أنصارها الحالي على الأقل، فإنه في المقابل لا يمكن تجاهل التحدي الكبير الذي يواجهها: استحقاق دستوري واستحقاق حكومي واستحقاق انتخابي(تشريعي ورئاسي وبلديات) بعد حل المجلس. ويبدو أن المعطى الثاني (استحقاق الحكم) هو الذي وضعته الحركة كمحدد لنجاحها في بقية الاستحقاقات. في هذه الحالة قد تصبح حياة المجلس مرتبطة بالتوقعات الانتخابية، فإن بقيت موازين القوى على حالها، أي في صالحها، قد تذهب نحو تقصير المدة، وإن اختلّت الموازين بعكس ما تشتهيه، قد تهرب نحو التمطيط. وفي كلا التأويلين تجد نفسها غير قادرة وغير راغبة في الذهاب وحيدة للمساءلة أمام المطالب الاجتماعية العاجلة للشعب وهذا ما يفرض عليها التمسك بحلفائها حتى لا تخسر استحقاق الحكم الآني وخاصة المستقبلي الدائم. وهنا نتساءل إلى أي مدى تستطيع «النهضة» التنازل لحلفائها قبل معارضيها دون أن تخسر رؤيتها السياسية ودون أن تتصادم مع جزء من قواعدها الذي بدأ في التململ إزاء ما يعتقدون أنه سلسلة من التنازلات غير المفروضة على الفائز الأول؟. «المؤتمر»: واقعية متميزة وضعف تنظيمي يبدو حزب المؤتمر هو الطرف الماسك بتوازنات التحالف، إذ أنّ تواجد توجهات فكرية و سياسية مختلفة، جعله براغماتيا و«تونسيا» في خطابه. وبدا ذلك واضحا في مسألة عمر المجلس، إذ رفض وثيقة الانتقال الديمقراطي المحددة وإن أخلاقيا مدة عمل المجلس بسنة واحدة منطلقه في ذلك استحالة القيام بإصلاحات ثورية كاملة تقضي على جذور الفساد في فترة قصيرة. ولكن مع إعطاء الرئيس صلاحيات محددة، فإنها لا تماثل إجرائيا وفعليا تلك المعطاة لرئيس الوزراء. وإذا أضفنا بعض الوزارات لأعضاء المؤتمر، هل ستكون ممارسة الحكم والصلاحيات بفكرة الدولة أم بعقلية الحزب، مع ما يتطلّب ذلك من «تقليم» الخطاب الحاد الذي ميّز أحيانا رئيسه وبعض أصحاب القرار فيه؟ وفي خضم الاستحقاق الحكومي، هل سيغفل المؤتمر عن الاستحقاق الانتخابي الحقيقي بعد حل المجلس وكيف ستكون ردود أفعاله داخل الحكومة وخارجها على مناورات بقية مكونات التحالف والحال أنّ الجميع ينظر إلى نفس هذا الاستحقاق وبنفس الفكرة تقريبا كمحدّد رئيسي للدور المستقبلي لكل حزب؟ ولعلّ الأمر الذي يزيد في غموض قراءة مستقبل الحزب ومدى قدرة تعايش «فرقاء الايديولوجيا» فيه، هو تصويت أعضاء الحزب داخل المجلس ضدّ اقتراح رئيسه المرزوقي المرور إلى الاستفتاء على الدستور في كل الأحوال، وإذا أضفنا إلى ذلك إمكانية استقالة هذا الأخير من رئاسة الحزب للتفرغ لرئاسة الجمهورية ومع إمكانية عودة «أم زياد» نزيهة رجيبة إلى الحزب بعد أن عبّرت عن امتعاضها من بعض مواقف قياداته وخاصة نقدها اللاذع لمواقف حركة «النهضة»، لا يمكن التنبؤ بالهزات «الارتدادية» داخل الحزب وتأثيرها على مواقفه خاصة تجاه الحليفين الحاليين. والدخول في منطق الحسابات يحيل الفرقاء على خلفيتهم التي تميل لدى أغلبهم نحو «النهضة» ولدى البعض الآخر ضدها وبحدّة قد تؤدي إلى تشظّي الحزب مع معرفة القيادة بحدودها التنظيمية والشعبية باعتبار المؤتمر حلاّ وسطا بين «النهضة» و«التكتّل» و«التقدّمي». «التكتّل»: الأضعف هيكليا لكنه الأقوى بقياداته يبدو التكتّل نظريا الحلقة الأضعف في «الترويكا» على أساس ترتيبه الانتخابي، ثمّ على أساس ابتعاده مبدئيا عن أفكار الفائز الأكبر حركة «النهضة». أيضا بعد انطلاق اجتماعات المجلس التأسيسي، التشظّي الظاهري للتكتل خاصة مع التصريحات الواضحة لخميس كسيلة وتصويت سبعة أعضاء ضد الترويكا في تحديد مدة المجلس قد يؤدي إلى استنتاجات خاطئة: الملاحظة الواضحة هي أن لا أحد داخل التكتل أنكر أو قلّل من شأن التحالف، هذا يعني أنّ الاختلاف لم يكن على مبدإ الدخول في التحالف بل على كيفية التعامل معه. وهذه الرؤيا الناقدة من داخل الترويكا قد تؤكّد سلامة التوجه والفكرة لدى بن جعفر و معارضيه داخل حزبه : نحن هنا لا اقتناعا بل حتى نراقب. وهذا المسار جعل «التكتل» محترما من المعارضة و خاصة التقدمي والقطب وفي نفس الوقت من الحلفاء. بن جعفر يقول وإن مجازا نحن داخل الحكومة لمراقبتها، وهذه الفكرة تقبّلتها قيادات «التكتل» مع اختلاف في التصريحات. كيف ستقبل «النهضة» وهي الطرف الأقوى انتخابيا ريبة التكتل ومراقبتها وهي داخل الحكومة؟ وكيف ستقبل رئيسا للجمهورية قد يميل لمبادئه المعروفة؟. يبدو أنّ الحديث عن تحالفات مختلفة لا يستقيم في تونسالجديدة إلا مع الانتخابات القادمة بعد صياغة الدستور، وعليه فإنّ الترويكا الحالية أو ما يسمى المعارضة لا تستقيم إلا بالاستحقاق الشعبي وهذا هو المعطى الغائب لدى النهضة،المغيََّب عند المؤتمر والواضح بلا تفعيل عند التكتل.... الكتل الحالية ستتفتت لتبني لغة شعبية لدى النخب و المشهد العام.. «النهضة» هي الأقرب تنظيما، المؤتمر الأقرب عاطفيا و التكتل الأقوى مناورة وقراءة صحيحة لموازين القوى، والدليل رسائل المغازلة بين التكتل والتقدمي والمرزوقي شخصيا. انتصروا بالتصويت، فمن سيهزمه الشعب؟ _ المنصف المرزوقي _ حمادي الجبالي _ مصطفى بن جعفر