بعد سنوات من الإستبداد والظلم جاءت الثورة واعتقدنا أن بلادنا ستنعم بالخير والهدوء والسكينة لكن سعادتنا بهذا الحدث التاريخي لم تدم طويلا . ففي البداية حصلت عدة إنفلاتات وتقلبات وهي أمور عادية وقد نتفهمها نتيجة الثورة وما رافقها من تغيير في طبيعة النظام وغياب السلطة الشرعية وعدم إنطلاق العملية الإنتخابية ، ولكن بعد إيقاف عدد من رموز الفساد ومحاسبة المتورطين وبعد فتح الملفات الكبرى وإجراء الإنتخابات في 23 أكتوبر ، فإن الإعتقاد الذي ساد آنذاك هو عودة الهدوء والإستقرار وإستتباب الأمن . لكن ما حصل في المدة الأخيرة من إعتصامات وإحتجاجات وعنف وفوضى وتهريب للمنتوجات الغذائية مثل الدجاج والبيض والحليب والزيت وإستنزاف لخيرات البلاد مثل "الفسفاط" و"الأمونيتر" والأخبار التي بتنا نسمعها من حين إلى آخر عن مواجهات قبلية بين الجهات جعل المواطنين يتساءلون عن حقيقة الوضع في البلاد وعمن يحرك لعبة الفوضى والتخريب ولعل ما زاد الطين بلة تواتر معلومات عن وجود شبكات لتهريب السلاح إلى داخل البلاد وقد مثلت مواجهات الصخيرة يومي الاربعاء والخميس بين مجموعة مسلحة ورجال الأمن ناقوس خطر لكل التونسيين . فهل أن ما يحصل في تونس بريء ؟ أم أن هناك جهات تحرك لعبة الفوضى والإنفلات في الخفاء ؟ ومن له مصلحة في بث البلبلة وإغراق البلاد في مستنقع الفوضى ؟ البداية إنطلقت بإعتصامات الأهالي التي تأججت فجأة مطالبة بحقها في التشغيل والإنتدابات وهو ما حصل في قفصة وتحديدا بشركة الفسفاط والمجمع الكيمياوي والسكك الحديدية وهناك من طالب بالإسراع في إنجاز مشروع معمل الإسمنت والوحدة الثانية من المصنع الكيمياوي بالمظيلة وتفعيل برنامج الإفراق لبعث مشاريع إقتصادية وخلق مواطن شغل بالحوض المنجمي وفي سياق متصل شهدت شوارع الرديف في تلك الفترة مظاهرات شعبية عارمة إحتجاجا على تدهور المعيشة والفقر والتهميش شاركت فيها أغلب الفئات الإجتماعية والنقابيين والمعطلين... اعتصامات تكررت في أم العرائس وحتى مدن الشمال الغربي حيث إعتصم آلاف المعطلين عن العمل وشهدت منطقة "الفايجة" على الحدود الجزائرية عدة إحتجاجات مماثلة بإستعمال العجلات المطاطية المشتعلة وإندلعت الإضطرابات في الكاف مما أدى إلى غلق المؤسسات التربوية نظرا لغياب الأمن وعدم الشعور بالإطمئنان ، وطالت موجة الإعتصامات الدهماني والسرس وسليانة ومكثر والعروسة وقعفور وبوعرادة والروحية وإنتفضت سجنان ضد التهميش والفقر ... لقد تحركت الإعتصامات في عديد المدن وأخذ نسقها في الإرتفاع يوما بعد يوم فكان ما يحدث محيرا ، عصيا عن الفهم في بعض الحالات ...أغلب الأصوات أطلقت صيحة فزع محذرة الحكومة مما يحصل لكنها بدت عاجزة غير مدركة لخطورة ما يحدث ولم تتمكن الدولة من إحتواء الأزمة ولوحت باللجوء للقوة في محاولة منها للسيطرة على الإعتصامات ولكن هناك من ذهب إلى إعتبار الأحداث الأخيرة مبرمجة وغير بريئة وان لم يكشف عن الأطراف التي أججت الشارع التونسي وتسببت في إحتقان الأوضاع . ما جد في تونس في الفترة الأخيرة لم يقف عند ذلك الحد بل وصل الأمر إلى حد العنف والإعتداءات التي مست أغلب الهياكل ومؤسسات الدولة وهو ما جد في المستشفى المحلي بطبربة من ولاية منوبة حيث عمدت مجموعة من المخربين إلى الإعتداء على المؤسسة الإستشفائية ، وقدرت الخسائر ب 30 ألف دينار وطالت الإعتداءات مركز التوليد وطب الرضيع بالعاصمة (مستشفى وسيلة بورقيبة) كما تم نهب القباضة المالية بالمتلوي من ولاية قفصة وإقتحام مستودع التبغ بالهراوات و الأسلحة البيضاء ثم مداهمة المستشفى الجهوي بالمدينة وتهشيم الواجهة الأمامية وتكسير النوافذ واقتحام غرفة العمليات وإتلاف التجهيزات الطبية... لقد تواترت الاعتداءات وأعمال التخريب وهو ما بث الرعب في صفوف الموظفين والإطارات الطبية وحتى المرضى وتساءل كثيرون عن سبب إستهداف مستشفيات تعمل على تقديم العلاج والمساعدة الطبية للمحتاجين ؟ لقد تكررت الإعتداءات وكان توقيتها موحدا... صحيح أن المناطق متفرقة ولكن الأحداث متشابهة . وبمجرد عودة الهدوء وتقلص الإعتصامات وتراجع أعمال العنف إنطلقت عمليات تهريب المواد الغذائية المدعمة وخاصة ذات الإستهلاك المكثف وبدأ إستنزاف خيرات البلاد ، فمرة نسمع عن إحباط تهريب 22 طنا من الأغذية بولاية مدنين في إتجاه ليبيا ومرة تحجز شاحنات محملة بالزيت والسكر والعجين الغذائي والحليب والمياه المعدنية، حتى الشاي لم يسلم من موجة التهريب وتم حجز 15 ألف كلغ من هذه المادة . هذه الوضعية ساهمت في إرباك المنظومة الإستهلاكية خاصة في ظل إرتفاع الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية ولتم تقف المسألة عند هذا الحد بل طالت الثروات الوطنية مثل الفسفاط ومادة الأمونيتر حيث تم إيقاف 35 شاحنة برأس جدير حاولت تهريب الفسفاط بالقوة وهو ما إستدعى تدخل قوات الأمن كما تم إحباط تهريب 90 طنا من مادتي أمنيوم الفسفاط والأمونيتر وذلك بعد ضبط 4 شاحنات على طريق منزل شاكر من ولاية صفاقس . وبعد تكرر محاولات التهريب أفاق الشارع التونسي على وقع تهريب الأسلحة عصابات تنشط من الشمال إلى الجنوب وهو ما زاد في غموض المشهد السياسي فتضاعفت المخاوف وساد شعور بالقلق . محاولات متفرقة لإستغلال المناطق الحدودية بين الجزائروتونس وليبيا وتهريب السلاح الذي يباع في ليبيا بلا رقابة أو شروط وبعد حالة الانفلات التي عرفتها ليبيا إثر سقوط نظام القذافي بدأت المجموعات المسلحة تحاول التوغل في التراب التونسي وقد تم إحباط دخول مسلحين على متن سيارات رباعية الدفاع في منطقة "الرحوية" القريبة من الحدود وأعلنت وزارة الداخلية أيضا عن ضبط 97 مسدسا و 251 بندقية وعددا من بنادق "كلاشنكوف" و 9751 طلقة ذخيرة. صحيح أن تونس ليست "العراق" وليست "الصومال" لتنتشر الفوضى وتنطلق عمليات التقتيل ولكن على الحكومة والجهات المعنية التحرك لتجنيب البلاد السقوط في متاهات لا حصر لها. نأمل أن تنتهي هذه الأزمة سريعا ويسود تونس الأمن والإستقرار لكي لا تسقط في "هاوية" يصعب الخروج منها .