عند ذكر كلمة «البادية» عادة يتبادر للذهن صحراء قاحلة شديدة القسوة، و«البادية» هي تجمعات سكانية لها حضور ثقافي وحضاري منذ القدم خاصة بصحراء الجزيرة العربية، لكن أن نرى بدوا ينصبون خيامهم على مشارف العاصمة فذلك أمر يدعو إلى العجب. اتخذوا من بطون الأودية، ومجاري سيول الجبال مناطق للسكن في شكل تجمعات سكانية غريبة التنظيم.. خيام رثة تنتشر هنا وهناك في منطقة «العقبة» من ولاية منوبة، وداخلها تسكن عائلات، لا يقل عدد أفراد العائلة الواحدة عن الستة أفراد. "التونسية" بحثت معهم في الظروف التي أجبرتهم على تحمّل برد شتاء قارس وحرارة صيف لا تطاق، والعيش خارج إطار الحضارة. خيامهم رثة، ملابسهم بالية وملامحهم صحراوية خشنة، وكأنهم قدموا من كوكب آخر، اقتربنا منهم فلاحظنا الشقوق العميقة على أيديهم، وعلى وجوههم نظرا لقساوة الطقس، هم لا يهتمون بالأخبار الوطنية أو العالمية، وأطفالهم قاطعوا الدراسة أو لم يزوروا مقاعدها رغم صغر سنهم. حياتهم حياة الطيور المهاجرة اقتربنا من الخيمة الأولى، أين كانت تجلس فتاة ال17 ربيعا، «ليلى عيادي» تنتمي إلى عائلة تضم ثمانية أفراد، انتقلوا من سيدي بوزيد لتمكين إبلهم من الرعي. تقول ليلى: «لم أوفق في دراستي لذلك قررت أن أغادر مقاعدها منذ سنوات الابتدائي الأولى، وحاليا أرافق عائلتي في كامل تحركاتها»، وقاطعها شقيقها الأصغر «محمد» قائلا: «نحن نملك منزلا بمنطقة فوشانة لكننا لا نمكث فيه،لأن طبيعة عمل والدينا تفرض علينا البقاء في الطبيعة تحت الخيام». أمّا «سيرين صقر» وهي إحدى قريباتهما فقالت: «عمري 18 سنة، لم أعرف الدراسة يوما وأعيش في الخيمة المجاورة مع والدي، ونحن هنا لنفس الغرض وهو تمكين الإبل والأغنام التي نملكها من الرعي، وإذا قامت السلطات بطردنا ننتقل إلى مكان آخر أو قد تكون ولاية أخرى مثل باجة أو بنزرت، نعم نحن إذا شئت مثل الطيور المهاجرة... ننتقل حيث يوجد مرعى لحيواناتنا رأس مالنا». وبلهجة قاسية، ختمت محدثتنا قائلة إنّ وجودهم في المنطقة ليس للمتعة والاستجمام، ثم امتطت ظهر حمار وغادرت المكان مشيرة إلى أنها ذاهبة لإحضار الماء الصالح للشراب من متساكني المنطقة. الفقر قضى على أحلامهم وفي أسفل الوادي، زرنا خيمة أخرى، تسكنها «حبيبة عيادي» وزوجها «حاتم صقر» وطفلاهما. تبلغ الكبرى أربع سنوات، والصبي لم يتجاوز الستة أشهر وكان ينام فوق خرقة بالية، تقول «حبيبة»: «غادرنا ولاية سيدي بوزيد منذ 23 سنة ولا نملك موردا أساسيا للرزق.. وبما أن حياتنا تقتضي منا الترحال لم يزر أغلبنا مقاعد الدراسة، ويطلقون علينا تسمية «البدو الرحل» وأتذكر جيدا كيف قام رئيس مركز الشرطة بمنطقة «العقبة» بتعنيفي قبل الثورة وذلك كي نغادر المنطقة، وقاطعها زوجها «حاتم» قائلا: أنه يتمنى أن تتحسن ظروف عيش أفراد عائلته وأن يتحصل على عمل قار يمكنه من إعالتهم. جوازات سفرهم لا تعرف حدّا وعلى بضعة أمتار من خيمة «حاتم وحبيبة»، تعيش «خالتي هنية العيادي»، امرأة الستين عاما مع عائلتها داهمناها وهي تغتسل وسط الخيمة على الطريقة البدائية، أين تقبع حذوها عنزتان كانتا تراقبانها، فقالت: «أعيش هنا مع زوجي الطاعن في السن وأبنائي، الذين حرموا من حقهم في الدراسة نظرا لطبيعة حياتنا، وقد قدمنا الى هذه المنطقة لنمكن الابل والماشية التي نحرسها من المرعى ونحن نسافر منذ القدم، لا تمنعنا الأمطار ولا الشمس الحارقة من الترحال، هذه هي حياتنا التي نعيشها منذ ما لا يقل عن الثلاثين سنة». وهو ما أكدته «نورا» ابنتها التي لم تتجاوز العشرين عاما ولم تعرف مقاعد الدراسة يوما «مقرّة أن تنقلاتهم لا تعرف حدودا، يتنقلون من أرض الى أخرى يقومون بكرائها أو يتحصلون عليها بصفة مجانية، وذلك لتمكين الابل من المرعى، وختمت «نورا» قائلة: «فتحت عيني على الحياة لأجد أنني أعيش في خيمة مع أهلي، أربي ماشية الغير ولذلك لا أجد في الأمر أي حرج، حتى أن شقيقتي الصغرى «أحلام» خيّرت عدم مزاولة الدراسة والبقاء لمساعدتي. ابتعدنا عن الخيام وغادرنا المنطقة، ثم توقفنا في لحظة تأمل واستغراب، ننظر يمينا فنرى الابل والخيام وطريقة عيش بدائية عادت بنا آلاف السنين الى الوراء، ثم نلتفت يسارا فنرى الاقامات والعمارات مشيدة ومنازل فخمة حديثة البناء وكأن الصورة أصبحت بالألوان... عالمان متضادان وضعتهما الأقدار جنبا الى جنب في لحظة تاريخية لا يكاد العقل يصدقها. معتمد المنطقة يوضح وللاستفسار، اتصلنا بالسيد «عادل بن يوسف»، معتمد بمنطقة «الحرايرية» التي تضم منطقة «العقبة» والذي لم ينف وجود «البدو الرحل» في المنطقة لا سيما داخل العديد من الولايات الزراعية التونسية وقال في هذا الاطار: «هؤلاء يطلق عليهم اسم «الغنّامة»، هم كالطيور المهاجرة يتنقلون من جهة الى أخرى بحثا عن المرعى لإبلهم وما شيتهم ويملكون منازل، أي لا علاقة للفقر بتنقلاتهم وهو نمط اختاروه منذ سنين وعلاوة على ذلك توجد فئة أخرى تتنقل على الأحصنة وتسمى «الهطّايا»، وتقوم بزيارة كبار المزارعين للحصول على قسط من محاصيلهم».