بقلم: المنجي المازني (تونس) سلم الشاب الذي قام بإنزال العلم نفسه إلى وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية. فرغم تصريحه، على إثر قيامه بالعملية، إلى بعض وسائل الإعلام بأنه لم يقصد الإساءة إلى العلم التونسي فإن القوم لم يتركوه وتتبعوه وشنوا عليه حملة عنيفة في جل وسائل الإعلام حتى أرهبوه وخوفوه من المصير القاتم الذي ينتظره نظرا للفعلة الشنيعة التي قام بها (في نظرهم) فسلم نفسه للسلطة القائمة هروبا واتقاء للحملة التي طالته. ففي الحقيقة لم يقلل هذا الشاب من قيمة العلم ولم يقم بأية حركة ترمز إلى الإساءة إليه. ولكنه في اعتقادي أخطأ في تقدير الموقف ولا يستحق كل هذا الهجوم. وإذا أردنا قول الحقيقة فإن الفئة التي اتهمته بالإساءة إلى العلم التونسي وشنت عليه حملة عنيفة هي أول من أساء إلى هذا العلم. فالعلم هو راية تتضمن شعارا يختزل هوية وثقافة ودين العباد والبلاد. فالتعدي على ثوابت وهوية وثقافة الدولة هو تعدي على العلم. والتعدي على العلم هو أيضا تعدي على هوية وثقافة ودين الدولة. فهذه الجماعة تسعى في كل آن وحين إلى الإساءة إلى ثوابت وهوية المجتمع وإلى إشاعة الفساد بين الناس وإلى نشر الثقافة الهابطة ونشر الصور الفاضحة في كل وسائل الإعلام وإلى إباحة كل ما حرمه الإسلام الذي هو دين الغالبية العظمى من الناس. ولقد ثارت ثائرة هذه الفئة عندما اعتقلت السلطة صاحب الجريدة الذي نشر صورة امرأة شبه عارية تخدش الحياء وطالبوا بالإفراج عنه فورا وطالبوا أيضا بحرية الصحافة وبحرية «الإبداع»: بمعنى طالبوا السلطة بتقنين الفساد وبرفع يدها عن الموضوع في نفس الوقت. قال الله تعالى: «إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون». فيمكن تفسير ما يحدث بأن القوم لا يؤمنون بعالم المثل والقيم ولا يؤمنون إلا بعالم المحسوسات والمجسمات وبما يمكن رؤيته ولمسه. فالحياء مثلا غير مجسم ولذلك لا يؤمنون به. فتراهم يطالبون الدولة في كل مرة وفي كل مناسبة بعدم منع الصور واللقطات الفاضحة. وهذا ما وقع لبني إسرائيل. فبعد أن نجاهم الله بمعجزة في وضح النهار وفتح لهم طريقا في البحر وأغرق فرعون وجنوده مروا على قرية تعبد الأصنام فقالوا لموسى اجعل لنا إلاها كما لهم آلهة. يعني لا يقدرون على عبادة إلاه لا يرونه ولا يلمسونه. قال الله تعالى «وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلاها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون». ثم قالوا بعد ذلك «لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة». ولقد أشار أبو القاسم الشابي إلى هذا المعنى في قصيدته النبي المجهول عندما قال : أَيُّها الشَّعْبُ ليتني كنتُ حطَّاباً فأهوي على الجذوع بفأسي ليت لي قوة العواصف يا شعبي فألقي إليك ثورة نفسي أنتَ لا تدركُ الحقائقَ إن طافتْ حواليكَ دون مسّ وجس. فكنت أظن أن أبا القاسم الشابي كان يلوم البعض من عامة الناس ركونهم إلى الظلم وإلى التصاقهم بالأرض وبعالم المحسوسات والمرئيات وإلى تقصيرهم وتقاعسهم في التشبث بالسماء وبعالم المثل والقيم والمعاني السامية. ولكني لم أكن أتصور أن المعنى الذي أشار إليه الشاعر يمكن أن يطال شريحة من المثقفين. ويمكن تفسير ما حدث بمحاولة فئة من الناس تحويل وجهة الشعب إلى قبلة غير قبلته. فما من أمة عاشت أو تعيش على وجه الأرض إلا ولها ثوابت ومقدسات تشبثت وتتشبث بها. ويحدث في زمن الاستبداد أن يشوه الحاكم المستبد المقدس لدى غالبية الناس بشتى الطرق ويبني قدسية لنفسه بالقوة لإرضاء وإشباع نفسه أولا ولمنع مقدس البلاد من التأثير في حياة الناس وحثهم على محاربة الفساد والاستبداد ثانيا. ولكن وبعد الثورة وسقوط الطغاة بدأ الناس يرجعون شيئا فشيئا إلى إسلامهم وإلى مقدساتهم بفضل جهود الخيرين. ولم يعد ممكنا صد الناس عن الرجوع إلى دينهم والتمسك به. ومن ثم مزيدا من محاربة الفساد والاستبداد. ولم يكن بد لبقايا الاستبداد إلا أن يشرعوا في البحث عن مقدس جديد يناسب المرحلة ويكون أقل خطر عليهم وعلى مخططاتهم ويسمح لهم بالتأثير في المجتمع وتوجيهه بما يتلاءم والمحافظة على شهواتهم وامتيازا تهم ورغباتهم وهم في طريقهم للبحث عن المقدس الجديد حتى حدثت واقعة العلم. فلم يجدوا أحسن منها وتبنوا الفكرة على عجل ودون عناء تفكير. فعوض أن يشكروا هذا الشاب على ما قدمه لهم استقبلوه بشتى أنواع الشتائم. فدفع الناس وإخراجهم في مظاهرات حاشدة وهي ترفع الأعلام وتنادي بالتوحد تحت راية العلم أفضل بكثير (في نظر هؤلاء) من خروج الناس في مظاهرات حاشدة تهتف «الله أكبر» وتنادي بالتوحد تحت راية الإسلام والجهاد. فنفسيتهم (في نظري) تقدر على استحقاقات العلم ولا تقدر على استحقاقات الإسلام في عمومه. فيكفي العلم أن تحييه في بعض المناسبات وتنشد له نشيد حماة الحمى. فلو أن الله تعالى خفف عنهم قليلا واستجاب لنفسيتهم وسمح لهم بممارسة بعض المحرمات مثل السرقة والرشوة والزنا ونشر الصور الفاضحة وشرب الخمر بنسب محددة وبشروط ميسرة لخرجوا في مظاهرات حاشدة رافعين المصاحف، عوضا عن الأعلام، منادين بتطبيق الشريعة ومطالبين بإدراج الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي ووحيد للتشريع.