يبدو أنّ شارع الحبيب بورقيبة سيصبح صداعا مزمنا لكل الطبقة السياسية وخاصة للسلطة التنفيذية وأساسا وزارة الداخلية. فبعد أحداث 9 أفريل وما تلا ذلك من إعادة النظر في شروط التظاهر هناك للموازنة بين «رمزية»هذا الشارع في الثورة التونسية من جهة، وبين ضرورة المحافظة على انسيابية واستمرارية الحركة فيه بما لا يعيق مصالح الأفراد والشركات والإدارات، يطلّ علينا قريبا 1 ماي، عيد الشغل، برأسه على مهل ليذكّرنا بشارع بورقيبة. فبعد أن كانت الأسئلة تتمحور حول من سيتظاهر هناك؟ كيف ومتى؟ ما هي الشروط وكيف سيكون تعامل الوزارة مع مطالب قد تتهاطل عليها طلبا ل«ودّ» شارع بورقيبة في ذات الوقت واليوم ؟، أصبح السؤال الملح اليوم بعد أن منحت وزارة الداخلية ترخيصا وحيدا للاتحاد العام التونسي للشغل هو إلى أيّ مدى سيحترم «الراسبون» في امتحان الترخيص هذا القرار ؟ وكيف سيتصرف العريض في حال أصرّوا على مخالفته؟ ونعني هنا «حزب العدالة والتنمية» و«اتحاد عمّال تونس». بالنسبة لحزب العدالة والتنمية ورغم التزامه بقرار رفض مسيرته، بقي هدفا للتعاليق التي «تحاكم» النوايا الحقيقية لهذا المطلب.فحسب هؤلاء، إنّ عيد الشغل وإن كان مناسبة تحتفل بها كل مكونات المجتمع المدني بما فيها الأحزاب، فإنّ الاحتفال الأبرز يبقى من نصيب النقابات العمالية وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل. والأحزاب اعتادت الاكتفاء بتظاهرة «صغيرة» داخل مقراتها والمشاركة في حضور الفعاليات التي ينظمها اتحاد الشغل. ويتساءلون كيف لحزب فتي مازال في طور التعريف بنفسه أن يتحمّل أعباء مسيرة من المفروض أن تكون ضخمة في شارع بورقيبة؟ . كما يلمحون إلى رغبته في لعب دور محدّد لصالح طرف سياسي في الحكم (النهضة تحديدا) لقطع الطريق على اتحاد الشغل للاحتفال(أو تنغيصه) في ذات الشارع خاصة وأن بيان الاتحاد الأخير كان واضحا في ديباجته «يعلن للرأي العام ولكافة الشغالين عن تنظيم احتفالات عيد العمّال في غرّة ماي في شوارع تونس وبالتحديد في شارع الحبيب بورقيبة تأكيدا على التمسّك بحقّ التظاهر والتزاما بمبادئ الثورة». وهذا التأويل قد يكون مبالغا فيه ذلك أنّ القرار الأخير عاد لوزير الداخلية الذي اتخذ قراره بما رآه مناسبا لحفظ الأمن وسلامة العباد والممتلكات وبقطع النظر عن احترام التسلسل الزمني لطلبات التظاهر الذي كان من المفروض أن يعطي الأولوية زمنيا لحزب العدالة والتنمية، وهو قرار صائب ،ولكن أليس من حق أي حزب مهما كان حجمه السياسي أن ينظّم مسيرة سلمية مع الاحترام الكامل للقانون كما فعل هذا الحزب؟، أليس في ذلك غبن للأحزاب الفتية والصغيرة واستعمال سياسة المكيالين في التعامل مع الأحزاب حسب «قوّتها» على الأرض بما لا يتلاءم وروح القانون الذي لا يقوم على «شخصنة» فصوله؟. ولكن عبد الرزاق بن العربي رئيس الحزب حين يصرح رغم التزامه بقرار الوزير ، «سنشارك في احتفالات الشغالين وسنلعب دور المراقب والمقيّم وان لاحظنا توظيفا سياسيا أو نأيا بمصالح الشغالين والطبقة الكادحة عن مسارها خدمة لأجندات سياسية سيكون ردنا شبيها بيوم الأحد المشهور» وهو يقصد بذلك يوم «غزوة» السلفيين ساحة 14 جانفي وما قالوا عنه نصرة للشريعة! ، فإنه يعطي الفرصة للمشككين للتدليل على أنّ مسيرة الحزب هي في الحقيقة مظاهرة لأنصار «النهضة» برخصة «مناولة» تحصل عليها حزب آخر «صغير» في العمر والإشعاع!.كما أنّ النقابات في العالم أجمع بحرصها على التوجه إلى العمال والكادحين، وعلى استقلاليتها، لها بالضرورة النفس اليساري وتتبنى الشعارات السياسية ذات الأفق الديمقراطي الاجتماعي وما يطالب به حزب العدالة قد لا يُفهَم منه في خلفيته سوى عدم فهم أو عدم الاعتراف أصلا بالعمل النقابي. بالنسبة لاتحاد الشغل ، بدأ استعداده لهذا الحدث بتشكيل لجنة تنظيم ضخمة وبحملة إعلامية كبرى تدعو إلى إنجاح هذا الاحتفال.و لكن بعد الثورة، أصبحت التعددية النقابية واقعا لا هروب منه ومن حق بقية النقابات الجديدة الاحتفال أيضا. ونعلم أنّ اتحاد عمال تونس الذي أسسه إسماعيل السحباني (صاحب المنصب الأول سابقا في ساحة محمد علي!) رغب في شارع بورقيبة ورغم رفض الداخلية، يصرّ على الاحتفال هناك. في هذه الحالة، قد نجد أنفسنا أمام شبحِ (نتمنى عدم حصوله) أحداث قد تتجاوز في خطورتها ما وقع في عيد الشهداء. أي مظاهرتين في مكان واحد وحتى ثلاثة في واحد ،يصبح المشهد يوم 1 ماي في شارع بورقيبة كما يلي:قوات الأمن ،مظاهرة «نقابية» لاتحاد الشغل وأخرى لاتحاد عمال تونس، وأنصار هذا وذاك يتبادلون الاتهامات، وعدديا لا يمكن لقوات الأمن مهما كان عددها وبرودة دمها أن تسيطر على ما يمكن أن يحدث من انزلاقات خطيرة قد تتجاوز العنف اللفظي إلى المادي.و من جهة أخرى انفلات «سياسي» بين التشكيلات السياسية المشاركة مع اتحاد الشغل و«مراقبي» التوظيف السياسي من حزب العدالة والتنمية و«ما جاوره»!. طبعا هو مجرد سيناريو لأنّ مجريات الأمور في مجملها بيد وزير الداخلية الذي يجد نفسه مرة أخرى أمام إشكالية يختلط فيها القانوني والسياسي والأمني. بمعنى سيحاول أن يكون قراره بالأساس من أجل إبعاد شبح الاحتقان «الشارعي» وبما لا يفتح واجهة لصراع وهمي، البلاد في غنى عنه . في هذا الشأن، ما يُحسب لوزير الداخلية هو قدرته على قراءة المصلحة العامة وشجاعته في إعادة صياغة قراراته إن ثبت له عدم صحتها أو عدم تلاؤمها مع غايته الأولى والأهم وهي إعادة الاستقرار والأمن والابتعاد عن كل «المنغصات» الظرفية. لذلك ورغم كل ما قيل عن أحداث 9 أفريل ،لاحظنا أنه حافظ على ثقة النخبة السياسية بما فيهم من نقده وعارضه في قراره ،لأن الجميع يقرّون له برغبته الحقيقية في الإصلاح والخطأ وارد لدى رجل الدولة (على ألا يصبح المبدأ!) لكن المهم هو صدق العزيمة وهذا ما جعل ناقديه يكتفون بمعارضة قراره الأول مع تأكيدهم على ثقتهم في شخصه. وعلى صحة قراره في تخصيص شارع بورقيبة للاحتفال بعيد الشغل للاتحاد العام التونسي للشغل فإنّ المشكلة لم تُحل بعد. هذا هو قدر علي العريض من تحدّ إلى آخر ومن مشكلة إلى أخرى،!. وأمام هذا التبعثر بين الأخذ بروح القانون كاملة والأخذ بعين الاعتبار المصلحة العليا التي تقتضي الجمع بين هذا الجانب(القانون) وبين تفهم طبيعة مرحلة ما بعد الثورة التي لم يتبلور بَعدُ طابعها المؤسساتي النهائي ،كيف سيتصرف وزير الداخلية؟ وهل ينجح في الوصول إلى قرار صائب يجعل التونسيين يحتفلون حقيقة بعيد الشغل لينسيهم «دموع» عيد الشهداء ودموعه هو شخصيا؟.