كلمة لا بدّ منها طغت في المدّة الأخيرة قضية شغلت الرأي العام في تونس وامتدّت انعكاساتها للخارج، وهي التي عُرِفت تسميتها ب«السلفية الإسلامية» وانكشف للجميع أبرز وجه لطائفة كبيرة من الشّباب السلفي الإسلامي متبنّي الفكر الجهادي القتالي التكفيري - فكر القاعدة وطالبان - ما أدخل الفزع في كثير من النفوس، فتعالت دعوات التصدّي لهذا الفكر الطارئ، القائم في حقيقته على اعتناق أصحابه لجملة من المنظومات الفكرية الموروثة التي أُلصقت بالإسلام فصارت عندهم بمرتبة المقدَّس الممنوع الاقتراب منه أو تشريحه أو التشكيك فيه، فهو للحفظ والترديد والتسليم لا أكثر ولا أقل، الأمر الذي أنتج لدى أصحابه سوء فهم للعلاقة بينهم وبين الآخر أمسلمًا كان أو غيره.. فتعدّدت التوصيفات واختلفت الحلول وتراوحت بين الدعوة إلى تشديد القبضة الأمنية وتفعيل الملاحقات القضائية.. وبين إرساء نموذج تنموي يقوم على برنامج اقتصادي قادر على القضاء على بؤر الفقر باعتبارها الحاضنة الأوفى لفكر أولئك من الشباب.. ولكنّي أقدِّر، بأنّه ولئن كان في الحلّين المذكورين ما قد يخفِّف من خطر ظاهرة السلفية القتاليّة، إلاّ أنّ الحل الأكثر جذرية ونجاعة يبقى المواجهة الفكرية لها وللفكر السلفي الإسلامي عموماً.. هذه المواجهة الرامية إلى دحض أباطيلهم وتعرية زيف أساسات الأفكار التي يتبنّون وإليها ينظِّرون، انتهاءً لتقويضها وتبيان أقوم السبل في فهم الكثير من قضايا ديننا الإسلامي الحنيف، بالاستناد إلى عماد هذا الدين، القرآن الكريم وما صحّ من سنة رسول الله . ولعلّي بهذه المساهمة المتواضعة أوفّق في أن أضع أحد لبنات سرح الفكر الإسلامي المستنير القادر على أن يجلب لمعتنقيه وللبشرية الخيرَ والسلامَ ويرسي قواعدَ الحرية والعدل والمساواة. مقدّمة مثّل موضوع النظر للمرأة ودورها في المجتمع وعلاقتها بالرجل أهمّ الموضوعات مثار الجدل والخلاف على مرّ الأزمان وعُدّت المرأة في كثير من الأوقات - وحتّى وقتنا الراهن - محل قهر مسلّط عليها من المجتمع الذي يتحكّم الرجلُ في تشكيل العلائق فيه.. وانتهى الأمر بالبعض رجالاً ونساءً، ومنهم المسلمون إلى اتّهام الإسلام باستضعاف المرأة وتحقيرها، وتفضيل الرجل عليها. وكان من أهمّ المسائل التي تؤخذ كمثال على ذلك موضوع تعدّد الزوجات.. . ففي الوقت الذي تناضل فيه المرأة من أجل عدم إقرار مبدإ تعدّد الزوجات باعتبار ذلك – وضمن القوالب الفكرية التي يُروَّج لها وسادت في التفكير الإسلامي الموروث - مظهرًا من مظاهر النظرة الدونيّة لها وتلبية لنزوات الرجل في المتعة الأنانيّة المرتبطة بغرائزه وشهواته المحضة، يتشبّث الكثيرون - من دعاة الإسلام وتطبيق الشريعة - بوجوب إقرار مبدإ التعدّد باعتباره أصلاً من أصول أحكام الشرع، ومفتاحًا لقبر العديد من مظاهر الفُحش كالزنا، وبصورة عامة ما يتعلّق بالعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، وما يترتّب عنها من مساس بالمنظومة الأخلاقية، ومن إشكاليات تتعلّق بالأبناء.. وحلاًّ للتقليص من عدد النساء المنفردات الفائضات (اللاتي لم يتزوّجن رغم تقدّم السنّ بهن) وما ينتج عن ذلك من مشكلات اجتماعية. وهكذا بقي الإشكال يتراوح بين الموروث التاريخي المتشبّث بإقرار مبدإ تعدّد الزوجات وبين مطالبات المرأة (وخصوصًا في العصر الحديث وما صاحبه من شيوع لمبادئ الحريات وحقوق الإنسان، وسعي لتقليص الفروق بين الرجل والمرأة) بإقرار مبدإ المنع.. فجاز طرح التساؤل التالي: أين تقف الحقيقة القرآنيّة من ذلك ؟ أيقرّ القرآن تعدّد الزوجات ؟ أم الأصل فيه المنع ؟ أم ما هي تحديدًا ملامح هذه الحقيقة ؟ قبل الجواب عن هذا التساؤل، من المتّجه في البداية عرض التوضيح التالي: 1 يؤكّد الله تعالى أنّه ما فرّط في الكتاب من شيء «مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَبِ مِنْ شَيْءٍ» (الأنعام 38 ) وأنّ القرآن يتضمّن تبيانًا لكلّ شيء «وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَبَ تِبْيَنًا لِكُلِّ شَيْءٍ» (النحل 89) ولهذا فإنّ عدم فهم الناس - بمن فيهم العلماء - لكتاب الله تعالى (القرآن) أو لحكم من الأحكام الواردة فيه لا يعني أنّ القرآن قاصر عن ذلك.. فكَلاَّ إنّ من خصائص القرآن الكمالَ لأنّه ينتمي لعالم الأمر، عالم الإطلاق والكمال وانتفاء النقص والتناقض، وبه اكتمل الدين للناس أجمعين إلى يوم الدين. 2 إنّ القرآن حجّة على الموروث وليس الموروث الذي لا يتعدّى كونه إنتاجا بشريا سمته الأساسيّة القصور والخطأ بحجّة على القرآن. ولهذا فإنّ استمرار الناس على الفهم الخاطئ لحكم من أحكام القرآن وإنتاج هذا الفهم جملة من السلوكيات والممارسات التي تصير بمرور الزمن في مرتبة العقائد لا يشكّل حجّة على القرآن في مجمله أو في حكم من أحكامه كشأن موضوع تعدّد الزوجات.. فالشائع لدى الجميع أنّ تعدّد الزوجات مبدأ قرآني من متعلّقات الشريعة.. وحجّة القائلين به أنّ الأمّة أجمعت على ذلك طيلة أربعة عشر قرنًا، وأنّ السلف حكّامًا وعلماء وعوام قد تزوجوا مَثْنى وثُلاث ورُباع. نقول لهؤلاء ولغيرهم ممن اعتقد أنّ السّلف قد أتى على فهم كلّ متعلّقات الحياة البشرية وعلى استنباط أحكام الشريعة.. وما ترك لنا من شيء غير الدعوة بما استنبط لا محيد لنا عنها، وإن فَعَلْنا غير ذلك فإمّا عصينا وإمّا كفرنا وخرجنا عن الملّة (نقول لهم) كفى تخميلاً لعقول الناس، وخلّوا بينكم وبين أصحاب العقول المستنيرة الرافضة لعبادة أصنام التاريخ، المنفلتة من كلّ عصبيّة لإمام أو شيخ أم مذهب أو طائفة لم تنل الأمّة منهم عبر التاريخ غير الدم والتخلّف، الباحثة عن الحقيقة أملاً في الاقتراب أكثر فأكثر من عمق مفاهيم القرآن بما يكفل صياغة ملامح جديدة متجدّدة للمنهج قائمة على الإيمان بأنّ القرآن صالح لكلّ زمان ومكان، وبأنّه احتوى تبيانًا لكلّ شيء، وبأنّه ما أُنْزِلَ على الرسول الأكرم ليُظلَمَ به رجل أو امرأة، مؤمن أو كافر.. ولتكن بيننا الحجّة والبرهان من القرآن مصداقًا لقوله تعالى « قُلْ هَاتُوا بُرْهَنَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَدِقِينَ « (البقرة 111).