لم يكتب لنا أن نعيش العرس الإفريقي حتّى فصوله الأخيرة بما أن منتخبنا الوطني غادر المسابقة من الباب الصّغير وتحديدا من الدور الأوّل ورغم أنّ سقف الطموحات كان مرتفعا جدّا قبل بداية المغامرة الإفريقية إلاّ أن حدسنا كان يدفعنا قسرا نحو بلوغ فشل مرتقب خلنا للحظات أنّه هاجس لازمنا بعد جرعة المعاناة التي رافقت رحلتنا إلى وطن الثائر "نيلسن مانديلا"...البداية لم تكن موفّقة بالنسبة لنا بعد أنّ تخلّفنا عن موعد الرحلة المحدّد مسبقا إلى "جوهانزبورغ" لذلك بدأت الهواجس مبكرّا وتأكّدت بعدها في مطار العاصمة الجنوب افريقية بعد ان تمّ احتجازنا أكثر من ستّ ساعات بتعلّة الدخول بتأشيرة زائفة...ثمّ انتهت هواجسنا إلى حقائق مؤلمة سببها كتيبة المنتخب الوطني التونسي التي لم تقو على الصمود في وجه عمالقة اللعبة ممّن كانوا بالأمس القريب لقمة سائغة في فم النّسور... منتخبنا الوطني غادر مبكرّا لأنّه دفع ضريبة خوفه المفرط من نجوم كرتونية عادة ما تاهت على الملاعب الإفريقية ودفعت الفاتورة "كاش" أمام أقدام طوغولية كانت أكثر إصرارا على تحقيق العبور ولانّ كرة القدم لا تعطي لمن يبخل عليها كان الانسحاب المرير بتوقيع مشترك حاكت فصوله خيارات الطرابلسي المغلوطة وكرة "البطاحي" التي لا يجيد سواها أكثر من لاعب في تشكيلة المنتخب... صفحة "الكان" طويت إلى حين وملّف المشاركة سيكون حتما على طاولة الجريء وربّما في أحضان السيّد الوزير والأكيد أن العودة إلى تونس لن تقتصر على تشخيص الداء فحسب بل سيمرّ الجماعة إلى سياسة الكيّ حتى لا تتفشّى العدوى وتطير جميع الرؤوس... خلاصة "الكان"...فلسفة "اديبايور" و تطاوس "الدراجي"... المشاركة التونسية كانت سيئّة بكلّ المقاييس ومكامن الخلل أكثر من أن تحصى أو تعدّ وإذا ما وضعنا المدرّب سامي الطرابلسي على رأس قائمة المطلوبين للمحاسبة قياسا برزمة الانتقادات التي وجّهت له من هذا الطرف و ذاك فإنّ فلسفة بعض اللاعبين التونسيين سواء داخل الميدان أو خارجه كانت حتما تدفع في نفس الطريق و تعكس حقيقة مستواهم وتقيم الدليل على أسباب تتالي الإخفاقات من مناسبة إلى أخرى... عقب نهاية مباراة تونس والطوغو والتي حكم على إثرها بمغادرة منتخبنا من الدور الأوّل بينما فتحت الأبواب على مصراعيها أمام الطوغوليين تحدّث أسامة الدراجي الذي لا يختلف عاقلان في أنّه أفضل لاعب في المنتخب التونسي في المشاركة الاخيرة إلى وسائل الإعلام بنبرة الواثق وكأنّه "جاب السيد من وذنو" و بتطاوس خلنا من ورائه أنّ النسور تجاوزوا بسلام فخ الأسود... الدرّاجي الذي يتقاسم الفشل مع زملائه استاء من أسئلة بعض الزملاء الصحفيين والذين سالوه عمّا يجب أن يتغيّر في المنتخب بعد المشاركة الأخيرة فكانت إجابته "هل هذا سؤال...؟"... ردّ يغني عن كلّ تعليق من لاعب يشترك صحبة بقيّة السرب في تعميق جراح الشعب التونسي الذي كان يمنّي النفس بفرحة عابرة تزيل ولو لحين غبار الساحة السياسية المحتدم... في المقابل ردّ النجم الطوغولي "أديبايور" الذي يعادل دخله الشهري ما يتقاضاه سرب النسور مجتمعين على سؤال حول سّر المردود الكبير والعطاء الغزير الذي قدّمه على الميدان في مباراة تونس والمتمثل في استعداده لفعل كلّ شيء من أجل الترشّح إلى ربع نهائي "الكان".... أديبايور نجم توتنهام وريال مدريد و أرسنال سابقا والذي يصنّف في خانة النجوم الحقيقيين "خرّج لقرينته إلّي فيه" واستلهم لنفسه مفردات خاصة به خارجة عن المعجم الرياضي لا لشيء سوى لإسعاد الطوغوليين وذلك بتمديد إقامتهم في "نايلس بروت" في حين اكتفى نجوم "الكرتون" عندنا بالبحث عن تعلاّت واهية وتبريرات زائفة لمحو فشلهم المتكرّر في كلّ مرّة تطأ فيها أقدامهم ساحة المعركة... إحقاقا للحقّ أسامة الدرّاجي كان الأفضل مقارنة ببقيّة زملائه لكن عرّجنا على الأمر لكشف ما خفي في رحلة المنتخب وطريقة تعاطي لاعبينا مع الحدث وتفاعلهم مع محيطهم القريب سواء بالسلب أو الإيجاب... الوجه الآخر ل"سامي الطرابلسي"... بعيدا عن حقيقة الميدان كان سامي الطرابلسي الاستثناء الجميل في هذا "الكان" دون منازع فبالرغم من الضغوطات الكبيرة التي سلّطت على الرجل قبل وإبّان المغامرة الإفريقية فقد كان وفيّا لرفعة أخلاقه ومعدنه الأصيل... مدّرب المنتخب التونسي كان حديث كلّ الوفود الإعلامية وخاصة الجزائرية منها في مدينة روستنبروغ بفضل حديثه الموزون وتواضعه المفرط وحسن تعامله مع الجميع سواء صحفيّين أو مشرفين على التنظيم وهو ما دفع ب"ماراداس" المكلّف بتنظيم الندوات الصحفية في مدينة روستنبورغ في كلّ مرّة تسنح فيها الفرصة إلى الإشادة بمعدن الطرابلسي وبدماثة أخلاقه...لن نتحدّث عن الأمور الفنيّة فتلك أمور مفروغ منها لكن حقيقة وجبت الإشارة اليها و الإشادة بما بدر عن "كوتش" المنتخب والذي كان والحقيقة تقال مفخرة الوفد التونسي هناك في جنوب إفريقيا وليس في تونس طبعا... وبالنسبة لنا فأكثر ما علق في ذهننا في هذه المغامرة المتجدّدة بغضّ النظر عن خيبة الانسحاب المرير وكذلك هدف يوسف المساكني المثير هو جلسة خاصة جمعتنا بالطرابلسي عقب انتهاء مباراة تونس والجزائر... غمرة الفرحة وحالة الانتشاء الكبيرة التي كان عليها الوفد التونسي وخاصة سامي الطرابلسي لم تشفع له بإخفاء ما يخالج صدره حيث استوقفنا مدرّب المنتخب ليصارحنا على انفراد بشيء ما بقي بداخله ولم يقو على دفنه أكثر..."الكوتش" حدّثنا بكلّ عفويّة عن مقال حبرته "التونسية" بعنوان "الطرابلسي يفاضل بين الحياة والموت" وهو المقال الذي تحدّثنا فيه عن رفض الطرابلسي لتسريح رباعي من لاعبي المنتخب لمواكبة مراسم دفن المرحوم لسعد الورتاني خلال تربّص المنتخب بدبي... الطرابلسي قال حرفيا " أنا لا أحضر الأعراس...ولا أواكب سوى مراسم الدفن ولا يعقل أن أمنع أيّ لاعب من النسج على نفس المنوال...لم يطلب منيّ أيّ لاعب العودة إلى تونس وحضور جنازة المرحوم الورتاني وبإمكانك التثبّت في الأمر من اللاعبين أنفسهم...أمّا في ما يخصّ المساكني فقانون الفيفا يحتمّ علينا تسريحه إلى فريقه الجديد وليس طواعية منّا...أنا لا أطالع سوى "التونسية" وحزّ في نفسي كثيرا ما كتب خاصة وأنّها أمور خارجة عن الإطار الرّياضي ومن شأنها أن تعطي صورة مغلوطة عنّي..." كانت هذه كلمات الطرابلسي كما ردّدها على مسامعنا حرفيّا ولأنّنا نحرص دائما على اقتفاء الخبر كما هو دون زيف أو قيود حرصنا على تمرير رسالته إلى قرّائنا الأوفياء حتّى تكتمل الصّورة لأنّنا لسنا من هواة الإثارة أو اختلاق المشاكل بموجب أو دونه... وقد يكون تشابك الأخبار وتواترها وتعدّد مصادرها خاصة وأن المنتخب يقيم وقتها في دبي وراء تأويل الرواية كما وصلتنا أو ربّما تهويلها لكن الأهمّ من كلّ ذلك هو أنّ نوايانا كانت بريئة وهذا ما يعيه الطرابلسي نفسه... الدكتور في التسلّل... خلال تواجدنا بمطار دبّي في انتظار الإقلاع إلى مطار تونسقرطاج فوجئنا بوجود طبيب المنتخب الجديد محسن الطرابلسي مع الدفعة الأخيرة من الوفد الرسمي العائدة إلى تونس... الدكتور كان مستاء للغاية وهذا مفهوم جدّا فالرجل وجد نفسه في التسلل وأجبر على البقاء خارج النصاب رفقة حافظ أثاث المنتخب وبعض الوجوه الأخرى على غرار جوهر المناري...مثل هذه التفاصيل الصغيرة تعكس درجة وعي القائمين على شؤون الوفد التونسي لأنّه من غير المعقول أنّ يعامل طبيب المنتخب بهذه الطريقة ويترك هكذا لحال سبيله ومن الغريب حقّا أن تؤمّن عودة اللاعبين إلى تونس من دون طبيب تحسّبا لأيّ طارئ... هذه المهزلة ما كانت لتحصل لو كان الدكتور فيصل الخشناوي محافظا على موقعه داخل عائلة المنتخب لأنّه خبر جيّدا مواقع صنع القرار وكيف تؤكل الكتف وهذا ما لا ينطبق على الطرابلسي الذي مازال غريبا عن أجواء الدار ويجهل نواميسها لذلك لا غرابة في أن يطيل المقام في دبيّ أو غيرها طالما أنّ "القعباجي" مازال هو سيّد الموقف في "عشّ النسور"... أهداف الثورة لم تكتمل بعد... لم تسنح لنا الفرصة سابقا لزيارة جنوب افريقيا هذا البلد المليء بالتناقضات وكلّ ما نحمله في ذهننا عن هذا البلد هو الصراع الأزلي بين البيض والسود والثورة التي قادها الزعيم الشهير "نيلسن مانديلا" الذي وحدّ طرفي النزاع في هذه الرقعة السوداء على ظهر الخارطة الإفريقية... الأمر بدا لنا كذلك بالنظر إلى ما كتب وما يردّد من هنا وهناك عن انجازات مانديلا ومساهمته الكبيرة في وأد نار الخلاف والقضاء على "كابوس العنصرية" الذي كان يمزّق أركان هذا البلد... قد يكون الأمر كذلك بما ان البيض والسود يتعايشان فعلا جنبا إلى جنب دون ضجيج أو نسمات حرب باردة لكن حسب ما لمسناه على أرض الواقع فإنّ أهداف الثورة التي قادها مانديلا في جنوب إفريقيا لم تكتمل بعد على غرار ما يحصل عندنا في تونس... العنصرية هناك في جنوب افريقيا لا تزال تعشّش في كلّ أركان و زوايا البلاد مع اختلاف بسيط وهو أنّها عنصرية صامتة دون إيقاع على عكس السنوات السابقة حيث كان الدم ينزف من ضحايا الطرفين ويفصل بين اللونين والجنسين... هناك في جنوب افريقيا وحدهم السود من يفترشون الرصيف ويتسوّلون حقّ الرغيف وهم فقط من ينظمون سير الحياة عبر حراسة البوّابات والطرقات وكبرى الفضاءات وهم أشبه بعمالة أجنبية في دولة تستورد حاشيتها من سوق العبيد...في المقابل يزّين البيض واجهة المطارات والبنوك وكبرى المحلّات وهم في غالبيتهم أصحاب العقارات وصنّاع القرار... في روستنبورغ أفخم المطاعم روّادها من البيض وحيث يجتمع البيض لا وجود للسود سوى لخدمتهم... في مطعم "كابيلو" أحد أفخم المطاعم في روستنبورغ كنّا شهود عيان على صورة عنصرية صارخة... المطعم مملوء على بكرة أبيه... الجلوس هم من البيض والسود يطوفون حول الطاولات لإسداء الخدمات فقط لا غير...هم يتواصلون فيما بينهم بشكل إيجابي لكن مع ذلك يمنع الأسود من الجلوس ويحجّر على الأبيض الوقوف فتلك تقاليدهم ونواميسهم... الحمد لله لم نكن ننتمي إلى السود ولا كذلك إلى البيض فلنا لوننا الخاص لأنّنا كنا سنشعر حينها بكثير من الحرج ونحن الغرباء عن هذه المواقف... الأمر لا يقتصر على البيض بعينهم فالسود كذلك لهم طقوسهم وعالمهم الذي يمنع على البيض اقتحامه, فقط الفرق بينهما هو أن عنصرية الأبيض نابعة من تعاليه المفرط في حين يستمدّ الأسود شرعية عنصريته من إحساسه بالنقص حتّى لو حاول إخفاء ذلك... سائق التاكسي الذي أوصلنا من جوهانزبورغ إلى روستنبورغ في أوّل أيامنا بجنوب إفريقيا قال لنا إنّ الحال لن يستقيم أبدا في جنوب إفريقيا طالما أن هذه الأرض تحمل اللونين وسيأتي اليوم الذي يندثر فيه أحدهما وإن كان يقصد طبعا البيض... جنّة على وجه الأرض... رغم كلّ ما سبق تختلف جنوب إفريقيا كثيرا عن بقيّة دول القارة السمراء بل يمكن اعتبارها استثناءا جميلا قياسا بما شاهدناه خلال الأسبوعين اللذين قضيناهما جيئة وذهابا بين "جوهانزبورغ" و "روستنبورغ" و "نايلس بروت" فالمناظر الطبيعية الخلاّبة والخضرة الممّتدة على كامل البلاد والبنية التحتية المتطوّرة جدّا أضف إلى ذلك النظافة الملحوظة في كامل زوايا المدينة والطريق السيّارة التي تربط مئات من الكيلومترات دون حفر أو مطبّات تجعل من جنوب افريقيا تحفة معمارية ولوحة فنيّة ندر وجودها على ظهر هذه القارة... الطريق السيّارة في جوهانزبورغ تسع 8 أروقة بالتمام والكمال ورغم العدد المهول من السّيارات إلاّ أننا لم نسجّل حالات اكتظاظ أو اختناق مروري بل على العكس تماما فالحركة كانت عادية ومنظّمة بشكل كبير على غرار عديد المجالات الأخرى فحتّى المطاعم ومحلّات "الفاست فود" تشبه إلى حدّ كبير المصحّات الخاصة في تونس فكلّ شيء معلّب حتّى قطع الخبز الصغيرة... فقط ما يعاب على هذه الأرض الخصبة هو أن شعبها غير مضياف بالمرّة وغالبيتهم مثيرون للاشمئزاز... الجنس وما طاب من الملذّات هي وقود هذه البلاد التي لا تقوى على الصمود دون مسكنّات... على هذه الأرض الطيّبة... تركنا تونس قبل ثلاثة أسابيع من الآن وهي تتلظّى على جنبات التحوير الوزاري المشتعل الذي طال أكثر من اللزوم وعدنا بعد كلّ هذا الوقت بخفي حنين نجرّ أذيال الخيبة مع ذلك ما زال مسلسل التحوير الوزاري يشغل بال الكثيرين فلا قديم يذكر ولا جديد يعاد لكن بالرغم من كلّ ذلك ولاننّا جزء لا يتجزّأ من هذا الوطن نعتبر أنفسنا من المحظوظين جدّا بزيارة جنوب افريقيا لا لشيء سوى لأنّ عرق الرحلة أيقظ فينا مجدّدا حبّ هذا الوطن لأنّه فعلا على ظهر هذه الأرض الطيّبة ما يستحق الحياة رغم وفرة المصاعب والهنّات...