الأرض قفراء والمزار بعيد هنا في هنشير القلال من معتمدية منزل بوزيان التابعة لسيدي بوزيد ,حيث كنا نتقدم –بصعوبة كبيرة- لا تواجهنا سوى الأوحال ولا يلفحنا سوى هجير كثبان الرمال وحيثما تمتد الأعين لا يصادفنا سوى «ضلف الهندي « تقدمنا الى حيث لا نعلم لان لا شيء كان يوحي أن هناك أثرا للحياة البشرية على هذه الأرض الى أن رأينا أهوالا مفزعة. ففي هذا الربع الخالي يقطن «عرش الشناينية» عائلات وكأنها تأتي من زمن النسيان انقطعت عنها كل مقومات العيش الكريم .... الطرقات هي عبارة عن مسالك بدائية جدا.. حفر وأوحال تساءلنا كيف يتنقل الصغار وماذا يفعل العاجزون اذا أصابهم مرض ؟في هذه المنطقة عرين الفلاقة التي افتدت أهالي الأمس زمن الاستعمار وافتدت من ينعم اليوم بزهرة الحياة الدنيا بدماء ابنائها لم تر شيئا من نور الثورة وكأن قدرها أن تظل في الصفوف الخلفية... في الظل تعطي لتنسى ويقابل جميلها بالجحود لتسجل فقرا دخل موسوعة غينيس العالمية. مآسي هذه المنطقة فوق الوصف ربما لا تختزلها كل لغة الضاد لان أقلامنا مهما عبرت لن تستطيع وصف حجم البؤس الذي تعانيه هذه العائلات. فالبيوت أكواخ مصنوعة من الطوب لا يوجد بها سوى بعض الخرق البالية, وأوان أكل عليها الدهر وشرب ,لا طعام ولا تلفاز ولا ثلاجة ولا أي شيء آخر... كان كل شيء شاهدا على مظالم عمرها أكثر من خمسين سنة توارثتها الاجيال من الاستعمار الى بورقيبة الى عهد بن علي الى الثورة والى ما بعدها. وضعية الأطفال تزيد في وجع هذا المكان ملابسهم صيفية وبالية تساءلنا ان كان لهؤلاء وزن وحساب داخل تشريعات الطفل وللهياكل التي نصبت نفسها لحماية الطفولة من كل ما يهددهم من انتهاكات أو أن مثلوا جزءا من برامج العدالة الانتقالية التي تهتم برد المظالم وبقي سؤالنا بلا جواب: أين هم من كل هذا ؟فهنا الفقر حرمهم من الدفء وكتب عليهم النوم وبطونهم خاوية بعد صبر في انتظار رغيف خبز لم يأت لان والدهم عاجز عن إطعامهم خاصة عندما لا يجد «مرمة» يجود بها صاحبها عليه ببعض النقود اقتربنا من أحد هؤلاء الأطفال وسألناه عن مستقبله وعن طموحاته فصمت وضحك لينطق بما جادت به قريحته البريئة «نحب نولي عندي فلوس باش نشري «ماكلة وحوايج». «عرش الشناينية» يفتقر كذلك الى الماء الصالح للشرب ويتطلب الحصول على الماء مجهودا كبيرا وهو ما عمق مأساة هذه المنطقة فإلى جانب أنها تغرق في الأوحال فإنها تغرق كذلك في العطش وان صبر أهاليها على بؤسهم فإنهم امتعضوا كثيرا من تجاهل السلطات لأبسط حقوقهم في تزويدهم بالماء الصالح للشرب. وسط كل هذا القبح صادفتنا «خالتي هنية» عجوز هي بمثابة الغابة التي حجبتها الأشجار وقد كانت تحمل فوق ظهرها الذي قوضته السنون بعض الحطب... كانت تجاعيدها تروي قصصا وحكايات من الماسي التي لم يكتب لها النهاية رغم مرور ما يقارب الثمانية عقود. هذه العجوز ظلت تنتظر تذكّر إحدى الحكومات ببطاقة معالجة وبنت في خيالها أحلاما كثيرة أن يأتي اليوم السعيد الذي تتحصل فيه على منحة معوزين لكنها تخاف ان تموت - «وفي نفسها شيء من حتى» – ولم تتحقق لها هذه الأمنية التي تراها كبيرة جدا رغم أنها طرقت كل الابواب التي بقيت موصدة أمامها مدى الحياة وحرفيا قالت «ما عندي شيء لا منحة لا باش نعالج حتى شيء» وهو ما جعل دموعها تغرق عينيها المظلمتين – كفيفة- . كانت التساؤلات تقفز الى أذهاننا: أين المجلس التأسيسي؟ أين وزارة الشؤون الاجتماعية أين واين ....اين الاحزاب التي تستعمل هؤلاء وقودا في حملتها الانتخابية لتفوز بالأصوات «كيف تقتسم مغانم الثورة دون أن يكترثوا الى حال هذه العائلات ؟عائلات لا يعرف أهاليها اتقان فنون الاعتصام وإضرابات الجوع حتى يبلّغوا أصواتهم أو أن يحرقوا أجسادهم كي يعلم القاصي والداني عن عالمهم المظلم لكنهم صابرون مجاهدون ومستعدون لافتداء هذا الوطن فهل من استفاقة للهياكل ولمكونات المجتمع المدني للنظر بعين الرحمة لخالتي هنية التي تحلم بمنحة وبطاقة علاج لها ولأبنائها وذويها؟