هذا العنوان يفرض نفسه قسرا وهو يؤشر الى عودة الروح في الاغنية الملتزمة كأغنية بديلة لدى عشاق الموسيقى بعد ان ظلت طويلا في العهد السابق خاصة في غياهب الجب لفها النسيان وكساها الغبار بسبب الحصار الذي ضرب عليها مما جعلها خارج أسوار الحراك الموسيقي حيث لجمت افواه اصحابها بالاقفال وكانت «كلبشات» البوليس السياسي في انتظار كل من يخرق قرار السلطة خاصة اذا كانت معاني اغانيهم تضرب في الصميم.. وللأمانة التاريخية فقد تمكنت بعض الاسماء في عمل فردي من النشاط السري على غرار المرحوم توفيق العجيمي والزين الصافي والازهر الضاوي بأغانيه «فلسطيني» و«يامعدي الايام» و«ياذراعي كلمني» و«بنت الحي» بينما تكفل المطربان الاولان بترديد اغاني «مارسيل خليفة» و«الشيخ امام» اللذين كانا يزوران تونس باستمرار... والتحقت بالركب مجموعة «البحث الموسيقي» بقابس وقد تكونت بفضل مشروع موسيقي جماعي لاسماء من طلبة التعليم العالي وفي طليعتهم «آمال الحمروني» اداء و «نبراس شمام» لحنا ليطوفا بفضاءات الكليات في العاصمة خاصة وتشتهر اغانيهما وتصل الى كل مكان من البلاد فيرددها الطلبة والعمال والبطالة مع دعم بعض الاذاعات وخاصة «تونس الدولية» لما راهن «الحبيب بلعيد» على هذا اللون الجديد في الواقع الموسيقي وقتها...فكانت اروع اغاني «البحث الموسيقي» زادها بهرجا الأداء العذب لآمال الحمروني.. والقائمة فيها عناوين انبلجت من رحم المعاناة والشقاء والفقر وهي «لن يمرّوا» و «هيلا هيلا يا مطر» و «يانخلة وادي الباي» و«يوم استشهادي يا أمي» و«يا حجل» و«البسيسة» و«نشيد الأممية» و«آدم الايام فراقة» و «لو الندى» ..قبل أن تنقسم المجموعة ويكوّن الثنائي خميس البحري وآمال الحمروني مجموعة «عيون الكلام» وينشطان باحد الفضاءات الثقافية الخاصة مقتفيين خاصة خطوات الفنان الملتزم «الشيخ امام» ورفيق دربه «أحمد فؤاد نجم»..وجاء مشروعهما الموسيقي الجديد في شكل متجدد اعتمد خاصة على المقامات التونسية وشمل انتاجهما عناوين ألفها «عبد الجبار العش» و«بلقاسم اليعقوبي» و«التوهامي الشايب» على غرار «اللافتة» و «رجيم معتوق» و «يا القمرة» و«حرية» و«نسج خيال». وفي خانة الاغنية الملتزمة حتما لا يمكن ان ننسى مجموعة «الحمائم البيض» التي ركزت على توهج رحيق الموسيقى بعطر الكلمة وأوجدت امتياز الحضور الركحي وتقديم فقرات عروضها مباشرة امام جمهورها الخاص على طريقتها..واشتهرت «الحمام البيض» باغانيها «الشيخ الصغير» و «كلمات» و «عبور» و «صرخة عطش» و«العركة» و«لذة القلق» و«علاء الدين» و«الحلم» و«كلمات»...والتحق بالركب افراد فرقة «أولاد المناجم» القادمة من دواميس الفسفاط بأم العرائس والمظيلة والمتلوي مرتدين بدلة العامل الكادح ومرددين اجمل اغانيهم «شمس الحرية» و«ياداموس» و«ياعمال العالم»و«يااستعمار» وانشرت قطعهم الموسيقية بين المصانع والمعامل والمركبات الجامعية وكتب عشاقها اجمل الابيات: «ضحايا الشقاء.. يا ضحايا الفساد.. يعم الفساد جميع البلاد» وكان هذا العمل الذي يمهد لقصيد مزلزل كافيا ليقطع البوليس السياسي حلم «أولاد المناجم» ويحكم عليهم بالتجمد والذوبان عبر الملاحقات والمداهمات وقرار الشطب من العمل بمناجم الفسفاط.. وفي نفس الاطار تكونت فرقة «المرحلة» من قبل طلبة المعاهد العليا للموسيقى ممن اشتغلوا على اعمال موسيقية راقية كلمة ولحنا وأداء زادهم في ذلك تكوينهم الأكاديمي والمامهم العميق بأصول الموسيقى العربية فشدوا ب «ارحل» و «الشعب يريد» و«تغريبة» و«عودة النوارس».. وانظروا احبائي القراء الى مدلول العناوين لتفهموا شجاعة هذه المجموعة وهي تغني هذه القطع الملتزمة زمن «بن علي» وتدعوه ليرحل وها قد حصل ما نادوا به ليثبتوا انهم استشرفوا الآتي موسيقيا وهذا يحسب لهم..ونذكر بأن اغاني الفرقة كانت مطية لاصحاب القرار حتى يعاقبوا هذا المشروع الفني ويتم حل «المرحلة» ليهاجر افرادها خارج البلاد..كما لا ننسى مجموعة «أنصار السلام» التي كونها عازف «البانجو» نجيب المفتاحي من ارض الاحياء الفقيرة فغنت بطابع تونسي اصيل «بطال» و«السفينة» و «ثورة العربان» و«لرياح هاجت اليوم» و«جبل الفسفاط» قبل ان يسلط عليها نفس العقاب ليتم اختراقها ويتفرق اعضاؤها وتدخل طي التاريخ باعتبار ان سوط الجلاد في زمن الدكتاتور لا يرحم. واليوم.. بعد 14 جانفي..وفي ظل الحرية التي صار ينعم بها المبدع عادت كل هذه الفرق الى الساحة لتلتحم بجماهيرها في دور الثقافة والفضاءات العامة والساحات العمومية والشوارع وطافت بشتى المدن والقرى التونسية واعادت ذكرى ماضيها التليد مع جمهور عبر «وشاخ» ممن كانوا طلبة في سنوات القهر والجمر خاصة ان ثورة الياسمين كانت في حاجة الى متنفس يهبها مساحة من حرية الرأي والتعبير.. وكانت الاغنية الملتزمة حاضرة بثقلها لتفعل دورها ثم لتقدم معادلة فنية على الساحة الموسيقية.