بقلم: جيهان لغماري مثّل اغتيال الشهيد شكري بلعيد صدمة شعبية كبرى تمظهرت في خروج مئات الآلاف من التونسيين من غير المسيّسين في جنازته احتجاجا واستنكارا ورفضا للقتل على الفكرة وخوفا من أن يكون فاتحة لمسلسل دموي يفتك بالعباد والبلاد. أمّا بالنسبة للجبهة الشعبية وإضافة لعامل الصدمة، فإنّ رحيل بلعيد مثّل ضربة قوية استهدفت قلبها النابض وزعيما استطاع تدريجيا امتلاك نبض الشارع بخطابه المباشر ونقده اللاذع و«صراخه» المُقْنِع والمدجَّج بالأدلّة الواضحة. بلعيد، رغم فشله النسبي في استقطاب الطبقات الشعبية في بداية مرحلة ما بعد الثورة لاستعماله أسلوبا خطابيا جديدا على الذائقة الكلاسيكية، نجح الأشهر الأخيرة بامتياز في اختراقها بمحافظته على نفس الأسلوب المباشر الذي أقنع تدريجيا هذه الفئات لتصبح هذه الأخيرة تنتظر ظهوره في «بلاتوهات» الإعلام معتبرة إياه صوتها المدوّي، الصادق والمجلجل بمشاكلها ومشاغلها دون لفّ أو مواربة. وهذا النجاح الشخصي البارز الذي بدأ يتسع شيئا فشيئا بخراج مبهر للجبهة ربما كان دافعا أساسيا وقويا عجّل بقرار اغتياله من طرف قاتليه. فالكاريزما الشخصية مازالت هي المحدّد الرئيسي لفشل أو نجاح حزب أو جبهة في التمدّد شعبيا، وهنا تكمن الإشكالية المطروحة داخل الجبهة الشعبية: كيف يمكن «تصعيد» و«تسويق» شخصية أخرى ذات كاريزما قابلة للتطوّر تعمل على نفس توجّهات بلعيد الخطابية دون السقوط في فخ تقليدها فالناس رسخ عندهم الأصل ولا حاجة لهم بنسخة مشوّهة. ثانيا، كيف سيكون التصرّف في التوازنات داخلها فغياب بلعيد قد يعني أيضا(نظريا) صعود تجاذبات شخصية على السطح وقد يُضاف إليها أخرى سياسية حزبية بالأساس بين مختلف مكوّناتها. تحت ضغط الواقع الجديد، كيف ستتصرف الجبهة داخليا للمحافظة على تلاحمها، وخارجيا مع بقية الطيف السياسي لمواصلة تحسين موقعها الذي بدأ في الصعود والتجذّر شعبيا؟ مليونية الجنازة ليست تفويضا شعبيا أو انتصارا «شارعيا» مُسْبَقًا للجبهة الصورة الآن تبدو غير واضحة للحكم أو للتأويل المبرَّر، فهي تتأرجح بين استنتاجات أولية تنحى نحو الجمود وأخرى تُناقضها كدليل على مواصلة طريق الصعود وربما ستتضح الأمور بداية من ملاحظة تفاصيل أربعينية الشهيد. فالهوامش قد تشي ببواطن الأمور، والنجاح الساحق في تنظيمها بين حزب الوطد الموحد بالتنسيق الكامل مع الجبهة سيُحْسَبُ استمرارا واضحا للتفاهمات السابقة وعكس ذلك قد يؤشّر على بداية فتور ستكون تبعاته كارثية على مستقبل الجبهة. ربما عامل الصدمة أثّر على الجبهة، حيث أنّ بعض قواعدها اعتبرت الموقف الذي عبّر عنه حمة الهمامي الناطق الرسمي غير كاف ولا يرقى إلى هول فاجعة اغتيال زعيمها بلعيد، بل ذهب البعض إلى حد المطالبة بعصيان مدني مفتوح وإسقاط النظام. هذا الطرح الموغل في الطوباوية استطاعت الجبهة تجاوزه بذكاء لاعتبارات عديدة:أولا لا يمكن اعتبار مليونية الجنازة تفويضا شعبيا أو انتصارا «شارعيا» أو انتخابيا مسبقا للجبهة بقدر ما هو تعبير إنساني مُواطني بالأساس، ثانيا حسن قراءة موازين القوى داخليا وإقليميا إذ أنّ أي خطوة تصعيدية لن يكون مقود التحكّم فيها أو تحديد نهايتها بيد الجبهة. بذلك استطاعت التخلّص من ردّ الفعل الانفعالي العاطفي بالرغم من تواصل «صراخ» القواعد الشبابية المتحمّسة. كما أنّ استمرار عقد الاجتماعات الجماهيرية قد يؤكّد منحى مواصلة مكوناتها في التطبيق الكامل لتفاهمات القيادات مما يزيد من انتشارها الشعبي. مع ذلك، فإنّ بعض التسريبات من داخلها تشير وإنْ باحتشام إلى بعض التململ الداخلي بين موقفين، فريق يرى أنّ الجبهة هي الأصل وينحى نحو الذوبان الكامل لأنشطة الأحزاب داخلها دون أن يعني ذلك بناء حزب يساري عروبي كبير (والمسألة فيها مفارقة غريبة بين الذوبان وعدم التأسيس!)، وفريق ثان يرى أنّ من حق الأحزاب مواصلة بناء تنظيمها وتعزيز انتشارها دون أن يتعارض ذلك مع الالتزام الكامل بالعمل الجبهوي وأنّ هذا لا ينفي ذاك، في انتظار اتخاذ قرار المضي من عدمه في تأسيس الحزب الكبير ولكن بتؤدة وحسن تدبير. والمعروف لدى المقرّبين من الشهيد بلعيد أنه قطع شوطا كبيرا في كتابة المشروع النظري للحزب الكبير وهو منظّر استراتيجي متمكّن من أدوات التحليل والتأسيس. هنا نطرح السؤال:ما سبب اختلاف الموقفيْن؟، الأول قد يحيلنا على حسابات سياسوية ضيقة ( مجرّد تأويل لا حقائق!) في محاولة ربط الجبهة بشخص حمة الهمامي بالأساس وبالنتيجة رهنها بمواقف حزب العمّال وتصوّراته في محاولة لفرض توجّه وحيد لا يخرج عن قراءة العمّاليين للمرحلة. يمكن أن نستدلّ هنا ببعض «المشاكسات» الصغيرة التي تحدث الآن في الجامعة بين شباب الوطد الموحّد الذي يرغب في النشاط تحت يافطة حزبه والجبهة في آن واحد وبين شباب«البوكت» الذي يرفض هذه الثنائية. أمّا الموقف الثاني فيبدو أكثر توازنا ومواصلة لتوجهات بلعيد أي أنّ العمل الحزبي ضروري لأنّ خراجه الجماهيري سيكون بالضرورة للجبهة في انتظار التمهيد لوضع الأرضية اللازمة لإنجاح مسار بناء الحزب الجامع وقد كان حلما رئيسيا عند بلعيد، لذلك نرى استمرارا لأنشطة حزبيْ الطليعة والبعث وخاصة لحزب بلعيد، الوطد الموحّد. حكومة العريض ستصبح واقعا لا يمكن «ملاعبته» بالبيانات! حزب الوطد الموحّد ورغم غياب زعيمه، استطاع تجاوز حالة الصدمة ومواقف قياداته متجانسة ومتطابقة مع رؤى بلعيد بما قد يؤشّر على نجاح الراحل ورفاقه في تأسيس تنظيم حقيقي قادر على الاستمرارية حتى في غياب إحدى أعمدته الرئيسية، كما واصل عقد لقاءات جماهيرية خاصة داخل البلاد وشهد في ظاهرة لافتة، عودة جماعية كبرى للعديد من مناضليه الذين غادروه سابقا لسبب أو لآخر. على مستوى «الكاريزما»الضرورية لاستمالة الأغلبية الشعبية، بدأ نائب الحزب في التأسيسي المنجي الرحوي في جلب الانتباه إليه كما يُحظى زياد الأخضر بحضور لافت، وتشير التوقعات في انتظار انعقاد المجلس المركزي إلى صعود الأخضر إلى منصب الأمانة العامة خلفا لبلعيد. وفي كلا الموقفيْن، يبدو غياب شخص شكري بلعيد بارزا ولا بد للجبهة إذا أرادت تجاوز هذه الإشكاليات، أن تعمل على«تصعيد» شخصية وفاقية لها من القدرة على تبادل التنازلات الداخلية من أجل الوصول إلى قرارات مقبولة من كل المكوّنات وهو دور كان يقوم به الشهيد بامتياز. في هذا الإطار يبدو أنّ الأستاذ أحمد الصديق من حزب الطليعة له من المؤهلات للعب هذا الدور المهم والضروري لعدم انفراط عقد الجبهة. لكل هذه الأسباب، يمكن اعتبار الفترة القريبة القادمة محددا نهائيا لصعود الجبهة أو جمودها. ونجاحها أو فشلها في تعاطيها مع بقية الطيف السياسي يكمن في حسن ترتيب الأولويات دون التغافل عن بعض شروطها الأساسية وعلى رأسها ضرورة الكشف عن مغتالي بلعيد لأنّ أيّ تهاون غير مقصود قد ينعكس سلبيا على صورتها لدى الطبقات الشعبية المتعاطفة. في الجانب «التسويقي» والإعلامي، بدت الجبهة بمفعول صدمة الاغتيال غير قادرة على إيصال موقفها على صحّته أو خطئه، إذ أنّ اكتفاءها ببيانات مكتوبة تبيّن فيها رفضها لمبادرة الجبالي لم تصل إلا للسياسيين أمّا العامّة فلا تعرف إلاّ الصورة وكان عليها الجلوس معه حتى لا تظهر بصورة «القصووية» التي لا يستسيغها الشعب والإدلاء بنفس موقفها المكتوب ولكن على الطاولة ومن ثمة التوجه إلى وسائل الإعلام المرئية صاحبة التأثير الأكبر. ولا نعرف اليوم كيف ستتصرّف الجبهة مع حكومة علي العريض، صحيح أنها أصدرت بيانا ترفض فيه هذه الحكومة وتعتبرها عنوانا لمواصلة إنتاج الفشل، ولكنها(حكومة العريض) ستصبح أو أصبحت واقعا لا يمكن التعامل معه و«ملاعبته» ومناورتَه بإصدار البيانات!، بل يتطلّب حضورا إعلاميا وسياسيا لافتا لا يمكن الوصول إليه من خارج الانغماس في الجلسات السياسية التي تجمع في بعض الأحيان الفرقاء، فوحدها تلك اللقاءات تسمح بإيصال الموقف مهما كان حادا أو رافضا إلى أكبر عدد من الناس، أمّا مواصلة رفض«الذهاب» بتعلة عدم الجدوى من الحضور فإنه إنْ تواصل قد يصبح أيضا غيابا في الذاكرة الشعبية!. ويبدو أنّ بعض مكونات الجبهة لم تتخلّص بعد من كذبة«النقاء الثوري» وهي تتعارض ومفهوم العمل السياسي الميداني وتقلّباته. بلعيد كان من القلائل الذين أدركوا أنّ الميدان هو الفيصل وكان لا يعبأ بوصف بعض رفاقه له بأنه إصلاحي وقد أثبتت الوقائع أنه كان محقا لأنه كان ثوريا في الميدان لا على ربوة التنظير المتعالية على الواقع بحجة امتلاك الحقيقة الثورية!. «الجبهة» لن تتحالف مع «النداء» والتأكيد قد يكون عودة «حركة الشعب» إليها في ما يخصّ علاقتها ببقية العائلات السياسية لا نعتقد في تغيير كبير فيها، أي سيكون لها تقاطعات في مسائل معينة مع الجمهوري أساسا والديمقراطيين مع استثناء نداء تونس من ذلك لكن دون التعرّض له، إذ نعرف أنّ الجبهة تعتبر النهضة والنداء واجهتيْن لمشروع واحد تتعارض معه مبدئيا وليس من صالحها التموقع مع أحدهما ضد الآخر. في هذا الإطار يبدو أنّ استثناء فكرة التحالف والتعاطي مع النداء هي خيار نهائي لا رجعة فيه. لماذا؟، أولا تصريحات بلعيد الأخيرة قبل اغتياله، يضاف إليها وضوح موقف حمة الهمامي وبقية القيادات يؤكد هذا الرفض. ثانيا وهذا الأهم، إنْ صحّت التسريبات عن لقاءات تشاورية تنسيقية جرت بينها وحركة الشعب ربما تمهيدا لعودة هذه الأخيرة إلى الجبهة خاصة وأنها كانت لاعبا رئيسيا في صياغة أرضيتها السياسية (للإشارة، حركة الشعب أصدرت توضيحا تؤكد فيه أنّ قرار العودة من عدمه هو من صلاحيات المكتب السياسي حصرا)، فإنّ استنتاجنا يتأكد من عدم إمكانية التحالف إطلاقا بين الجبهة والنداء ونعرف جيدا موقف حركة الشعب ذات التوجه القومي الناصري من«السبسيين»، كما أنه لو تأكدت هذه العودة (طبعا نظريا)، فلا يمكن فهم ذلك إلا بحصول حركة الشعب على ضمانات وتوافقات مرضية وخاصة على مكانة رئيسية داخل الجبهة بما يقوّي أسسها وخاصة يزيد من استقطابها لبقية الطيف التقدمي كمقدمة ربما لتأسيس الحزب القومي اليساري الكبير، ولكن هذه العودة المفترَضة أيضا قد تؤدي إلى تململ من أصحاب الطموح الذاتي داخل الجبهة لأنّ شخصيات مثل محمد البراهمي، زهير المغزاوي أو خالد الكريشي لها من الحضور اللافت ما قد يثير بعض الشخصيات الأخرى. بخلاصة، اغتيال شكري بلعيد لم يكن مفصليا في إعادة صياغة المشهد السياسي فحسب، بل هو مفصلي بالأساس ل«حياة» الجبهة الشعبية. وبعيدا عن لفظ «استثمار»اغتياله غير الأخلاقي، الجبهة ليست في موضع الاختيار بين عديد السبل، فأمامها خياران لا ثالث لهما: إمّا مواصلة الصعود ولن تستطيع ذلك إلاّ بحسن إدارة أولويات المرحلة المقبلة سواء بحسن التصرّف في التوازنات داخلها أو بوضع تكتيكات ناجحة في مواجهة خصومها. أمّا إذا دخلت مكوّناتها في لعبة الحسابات السياسوية الضيقة، فلن تصاب بالجمود فحسب بل ستخسر كل ما ربحته من نقاط شعبية في المرحلة السابقة. لن ننتظر كثيرا وأربعينية الشهيد بلعيد ستكون مؤشّرا أوّليا على الصعود أو الجمود!.