مرة أخرى أبى البعض إلا محاولة تحويل حدث عادي تشهده بلادنا إلى عامل انقسام بين أفراد الشعب التونسي .. الأمر تعلق هذه المرة بزيارة رجب طيب «أوردغان» الوزير الأول التركي إلى تونس، حيث تلاحقت الدعوات على صفحات المواقع الاجتماعية بين داع إلى التجمع والاحتجاج حيثما سيتنقل الضيف التركي ..وبين مناد بضرورة الترحيب به بشكل استثنائي كضيف فوق العادة .. الموقف من تركيا متباين لأسباب داخلية لا تخفى على أحد .. فالبعض يرى في حزب العدالة والتنمية الحاكم بتركيا الذي يرأسه «أوردوغان» حليفا ل «النهضة»، وهو لذلك أصبح « آليا» «عدوا» لبعض الاطياف السياسية المعارضة في بلادنا. وجاءت الأحداث التي تشهدها تركيا هذه الأيام لتغذي هذا التباين، أو لتتحول إلى عامل للاحتجاج على زيارة «أوردغان» إلى بلادنا فضلا عن موقف انقرة مما يجري في سوريا حيث يحمل «أردوغان» منذ اندلاع شرارة الأحداث هناك لواء المناهضين للنظام السوري الى جانب انه أول من دعا بصفة علنية الى تنحي الرئيس الأسد. لم يحدث أن اهتم الرأي العام الوطني ووسائل إعلامنا بمختلف اختصاصاتها بتركيا مثلما يحدث هذه الأيام.. ويبدو أن علاقة حزب «أردوغان» بالحزب الحاكم في بلادنا هي التي ولدت هذا الاهتمام الكبير، وليس الأحداث التي تعيشها تركيا نفسها، مما زاد في القناعة بأننا نهتم اليوم بتركيا لدواع داخلية أكثر من أي سبب آخر مهما حاولنا التغطية على ذلك. صخب كبير إذن صاحب زيارة «أوردغان» إلى بلادنا.. وانتقلت المعركة كالعادة إلى رحاب المجلس الوطني التأسيسي بمناسبة مناقشة مشروع قانون قرضين تركيين لتونس في نفس الوقت تقريبا الذي كانت طائرة الضيف التركي تحلق فيه في أجوائنا وعلى أهبة النزول بأرض تونس، ولا أعتقد أن الأمر مجرد صدفة . تركيا رجب طيب «أوردوغان» ليست ملاكا ... ولا هي بشيطان .. و«أوردوغان» رجل سياسة .. كغيره من السياسيين يخطئ ويصيب .. وهو يتزعم دولة لها مصالحها وحساباتها واستراتجياتها في كل مكان من العالم .. والرجل ينزل ضيفا على الدولة التونسية. ولذلك يجب احترامه.. ولكن الاحترام لا يعني عدم الاحتجاج عليه إن كان هناك موجب لذلك، شرط أن يتم هذا الاحتجاج بالطرق المتحضرة المعمول بها في البلدان الديمقراطية. والتجربة التركية مع «حزب العدالة والتنمية» ليست كما يحاول أن يصورها البعض خيرا صافيا .. ولا هي شرا مطلقا، كما تريد أن تقدمها أطراف أخرى ..ففي هذه التجربة ما يصلح لتونس وفيها أيضا ما لا يتماشى مع بلادنا .. والنموذج التركي لم يبن خلال السنوات الأخيرة فقط، بل هو تشكل على مدى عقود من الزمن. وقد يكون «حزب العدالة والتنمية» استثمر ما راكمته الحكومات التي سبقته بشكل ذكي لتحقيق نهضة اقتصادية كبرى جعلت تركيا تنافس كبار العالم اقتصاديا ليس في دول جوارها فحسب كالجمهوريات الإسلامية المنفصلة عن الاتحاد السوفياتي سابقا، ودول الشرق الأوسط والخليج العربي بل في قلب أوروبا وفي أماكن أخرى من العالم. وتركيا التي كانت وما تزال من أبرز منافسي المؤسسات التونسية في الجزائر أصبحت أيضا من أشرس منافسينا في السوق الليبية، بل إن هناك نوعا من الضيق للمنتجات التونسية في السوق الداخلية بسبب البضائع التركية، كما أن ميزان التبادل التجاري بين تونس وتركيا يشهد عجزا لصالح الأتراك، وهذا كله يؤكد صلابة المؤسسات الاقتصادية التركية و«شراستها» في الأسواق الخارجية، وهي ظاهرة ليست جديدة. إن تركيا تلتقي مع تونس في العديد من الأشياء ولكنها مختلفة عنها تماما من حيث الحجم والطموحات.. ولكن ذلك لا يمنع من أن تكون الصداقة التركية التونسية كبيرة شرط احترام القرار الوطني لكل بلد. أما الاحتجاجات التي رافقت زيارة الوزير الأول التركي، وانتقاد الموقف التركي مما يجري في سوريا الآن فلا يجب تهويلها، ولا الغضب منها أيضا. وفي كل الأحوال لا ينبغي أن تتحول زيارة «أوردوغان» إلى بلادنا إلى عامل تجاذب داخلي وتحميلها ما لا تحتمل.