جيهان لغماري تأتي «مَوْقِعَة» الكرّاس في التأسيسي لتزيد في تمييع صورة ممثّلي الشعب لدى العامة رغم أنّ في ذلك تعتيما على مجهوداتهم طوال الفترة السابقة بإيجابياتها وهنّاتها التي تناسلت تباعا. قد يُكتب الدستور وقد ينال ثقة الثلثيْن وربما يمرّ باستفتاء ولكن هل تكفي تفاصيل «كرّاس» الدستور وحسن ديباجتها كي نقرّ بنجاح المرحلة الانتقالية وتحقّق كل مطالب المواطنين البسطاء؟. طبعا محتوى الدستور مهمّ حين يقرّ الخطوط العريضة للثورة في الحرية والعدالة الاجتماعية والتساوي في الحقوق والواجبات، ولكن الأهم هو كيفية خروج تلك المبادئ من الكرّاس إلى أرض الواقع، هل بدأت نخبنا السياسية والجمعياتية في تحضير الأرضية اللازمة حتى يعي المواطن بقيمة الدستور وتمظهره في تفاصيل حياته اليومية؟ خاصة وقد جعلته أحداث العنف وغلاء المعيشة وعراك السياسيين يتقوقع من جديد وغير مكترث بالشأن العام. مع الأسف تبدو الإجابة رمادية اللون، فباستثناء محاولات بعض الجمعيات لتأصيل ثقافة الحوار والقانون والتي بقيتْ نخبوية بلا عمق شعبي، فإنّ السياسيين أساسا أخفقوا حتى في طمأنة الناس بأنهم يعملون على التناغم الحقيقي بين ما يكتبون في الدستور وبين ما يفعلون في الواقع. هذا التناقض في الممارسات حمَل المواطن على الاعتقاد جازما أنّ الدستور سيُحفظ في كرّاس ثمّ سيُرمى في غياهب النسيان وأنْ لا دستور سيبقى إلاّ ما سيسطّره على الأرض الطرفُ الأغلبي الذي ستفرزه الانتخابات القادمة. المربك في الأمر أنّ هذا التأويل الشعبي موجود وبقوّة حتى عند بعض الأطراف السياسية المؤثّرة!، وعندها جاز السؤال: لماذا إذن هذا العراك المفتعل في قبّة باردو إنْ كان كاتبوه يلوّحون برمي كرّاس الدستور لاحقا؟، ثمّ وهذا الأخطر إلى أيّ مدى سيقع احترام الحقوق الاجتماعية التي كانت عنوان الثورة خاصة وأنّ ذلك يتطلّب تزاوجا حقيقيا بين الدستور والأنموذج التنموي الذي من المفترَض أنه يقود مسار تفعيله؟، والالتجاء إلى صندوق النقد الدولي في ظلّ حكومة انتقالية مهمتها الأساسية تصريف الأعمال الآنية دون انتظار شرعية دائمة ذات مشروع متوسط المدى، قد ينسف كلّ المجهودات المستقبلية ولو كانت صادقة في تفعيل الحق الاجتماعي. عندها قد ينتصر وذلك ما لا نرغب فيه تطبيق الجانب الزجري للدستور على نصفه الحقوقي لنجد أنفسنا أمام ديكتاتورية تختفي في تبريرها وراء عبارة النظام السابق: نحن نطبّق القانون. وفي كل الحالات والأمثلة بما فيها العالمية، فإنّ الدستور في الرأس لا في الكرّاس!.