بقطع النظر عن نتيجة مناقشة مشروع قانون تحصين الثورة داخل قبّة التأسيسي، فإنّ كرة النار بين الفرقاء واصلت توسيع رقعتها بما أنها أضافت إلى لهيبها «سعير» المؤيدين للقانون و«رمضاء» الرافضين له مّما يزيد في الابتعاد عن البوصلة الحقيقية للثورة. فعوض الانكباب على معالجة المُعطى الاجتماعي المُلِح وتحفيز الاقتصاد وتقرير البنك المركزي الصادر أمس دقّ ناقوس الخطر، عاد الجميع إلى مشروع ولئن لم يختلف أحد على مبدئه، فإنّ الاختلاف كان واضحا حول مضمونه وخاصة في توقيته، هل هو إجراء ثوري أم واجهة «ثورجية» لقرار سياسي يتدثّر بغطاء شرعية المجلس التأسيسي حتى يُحَصِّنَ حظوظه من المنافسين في امتحان الصندوق القادم؟ فالمشروع لو طُرِحَ زمن المسار الثوري وفي سياقه لكان أكثر نجاعة ومصداقية بل لاختلفتْ حينها حتى تفاصيله إذ كان يكفي إنشاء هياكل قضائية خاصة تتكفّل بكل التجاوزات والانتهاكات الماضية والحسم فيها في ظرف محدود في الزمن وإرجاع الحق إلى أصحابه ثمّ تُطوى الصفحة نهائيا، أمّا أنْ يُصبح ورقة ضغط سياسية منذ أشهر فهذا ما يُفرغه من أهدافه المفترَضَة أنها مبدئية. إنّ اللحظة الثورية التي لم يقع اقتناصها زمن توهّجها المحدود، تصبح محاولة استرجاعها نوعا من الفبركة خارج الأنساق المعروفة، فلا هي ثورية ولا هي مؤسساتية وهذا «البَيْنَ بَيْن» يشي بتكتيك سياسوي لا علاقة له بالمبدئية. فمرّة يتأخّر المشروع إلى آخر الصف وأخرى يصبح الأول في المَطالب، ويأتي هنا تذبذب النهضة دليلا على حسابات خارج النقاء الثوري المُعلَن، فقد اختلفت مواقف قياداتها وتوزّعت بين تأييده أو تبجيل العدالة الانتقالية أو الاكتفاء بالاعتذار ولم تحسم أمرها إلا أوّل أمس في توقيت تزامن مع زيارة السبسي لفرنسا ثم تصريحاته في الندوة الصحفية مع حلفائه في الاتحاد من أجل تونس!. بهذا المعطى أصبح المشروع ورقة تكتيكية تأخّر استعمالها حتى جاءت اللحظة المناسبة عبر قراءة واقعية من السلطة الحاكمة استنتجت فيها تراجع شعبيتها والمشروع قد يُعيد لها البريق الثوري. وحتى بعد حسمها لاختيارها، لا ترغب النهضة في الظهور في صورة القائد للمشروع فربما تتغيّر الحسابات مرّة أخرى ولو في الوقت الضائع. في الجانب الرافض للتحصين وإنْ تعدّدت الأسباب، لا أحد أيضا يريد أن يقود المواجهة بوضوح حتى لا يُرْمَ بتهمة الثورة المضادة التي أصبحت صفة سحرية يتبادلها المؤيدون والرافضون، لذلك كان الاكتفاء بالقول بضرورة الابتعاد عن العقوبة الجماعية واللجوء إلى القضاء مع أنّنا لا نعرف كيف سيفصل هذا الأخير في من تعلّقت به المسؤولية السياسية لا الجزائية!. في الموقفيْن لا أحد تذكّر أنّ الذي يريد أن يقودَ ويكون حصان القافلة عليه بإيجاد العَرَبَة قبل كل شيء، العَرَبةُ بما تحمله من أحلام في العدالة الاجتماعية والحرية وعلوية القانون والتعايش السلمي، هذه العَرَبة اسمها أحلام الثورة التي أصبحت مفقودة في واقع المواطن البسيط، ومُغَيَّبَة عمدا في أذهان وقرارات السياسيين.