طوت مصر صفحة أخرى من الصفحات الدامية التي طبعت علاقة الإخوان المسلمين بالمؤسّستين الأمنية والعسكرية منذ أربعينات القرن الماضي. صحيح أنّ المشهد الدامي الذي وقفنا عليه على هامش فض اعتصامي ميداني «النهضة» و«رابعة العدوية» يستوجب في كلّ الحالات الاستنكار والتضامن والتعاطف مع كل الضحايا من مدنيين وعسكريين وأمنيين على حدّ سواء، ولكن إن دلّ هذا المشهد على شيء فإنّما يدلّ على مدى رخص دم المصريين في فكر وفي أداء قيادات تنظيم الإخوان المسلمين التي لم تبحث في النهاية سوى عن تأمين فرارها وتهرّبها من الملاحقات القضائية حتى ولو تطلب الأمر التضحية المجانية بدم المئات من أنصار التنظيم ومن نشطائه خصوصا ومن دم المصريين عموما. ولأن اعتصامي «النهضة» و«رابعة العدوية» كانا في منطلقهما مأساويين في المضمون وفي التنفيذ فمن الطبيعي جدّا أن تكون خاتمتهما مأساوية. فهذان الاعتصامان كانا في ظاهرهما سياسيين مدنيين لمّا قاما على المطالبة بعودة الشرعية التي حسم فيها الشارع المصري وقال كلمته فيها، ولكن على الأرض كانت كل الدلائل تشير إلى غير ذلك بالرجوع إلى العناصر المأساوية التي حملها الاعتصامان. ففي الوقت الذي كانت فيه قيادات تنظيم الإخوان تذكي كيفما كان مشاعر أنصارها المعتصمين وحماستهم كان تنظيم الإخوان يفاوض سرّا عبر قنوات مصرية وأخرى غربية فضّ الاعتصامين مقابل تأمين خروج آمن للرئيس المعزول محمد مرسي ولبقية قياديي التنظيم المعتقلين إلى خارج مصر، وهذا يعني ببساطة أنّ همّ تنظيم الإخوان المسلمين لم يكن سوى الخروج من عنق الزجاجة بسلام وأن هذين الاعتصامين لم يكونا سوى ورقة ضغط لا لعودة الشرعية التي بات أمرها محسوما داخليا وخارجيا ولكن للتهرّب من تبعات البلاغات المقدمة ضد الكثير من قياديي التنظيم والتي تنسب إليهم العديد من التهم متفاوتة الخطورة تراوحت بين الجرائم السياسية والجرائم الاقتصادية، فكان هذا هو العنصر المأساوي الأوّل لهذه النهاية المأساوية. أما العنصر المأساوي الثاني الذي مثله اعتصام «النهضة» و«رابعة العدوية» فكان شكل الاعتصام وترتيباته اللوجستية. فمعلوم أن الاعتصام هو شكل راق من أشكال النضال السياسي المدني السلمي، ومعلوم كذلك أنه غالبا ما تترتب عن هذا الشكل النضالي بعض التداعيات المقلقة للغير خاصة إذا تواصل في الزمن مثل صعوبة أو تعطّل حركة المرور أو تراكم الفضلات لبعض الوقت أو الضجيج الذي يحدثه المعتصمون وغيرها من المظاهر الشبيهة، وهي تداعيات مفهومة ومقبولة عموما حتى إنها تصبح غير ذات معنى مع تفهم الشارع بصفة عامة والأجوار بصفة خاصة لشرعية ولمشروعية المطالب المرفوعة وتعاطفهم مع رافعيها وتبنيها لها. ولكن من غير المقبول أن يتحول مكان الاعتصام إلى منطقة عسكرية مغلقة محاطة بالمتاريس وبالسواتر الرملية وبالحواجز وبنقاط التفتيش مع تعزيزها بمسلحين مهما كان عددهم ومهما كانت نوعية الأسلحة التي يحملونها، ويزداد الأمر خطورة وتعقيدا بتواجد أشخاص غرباء من غير الحاملين للجنسية المصرية، كما أنه من غير المقبول أن يحتجز المشرفون على الاعتصام ثلاث عربات مجهزة على ملك الإذاعة والتلفزيون المصري، اثنتان خاصتان بالبث التلفزي وأخرى خاصة بالبث الإذاعي. هذا دون التعرّض إلى مضمون التدخلات والخطب الملقاة على مسامع المعتصمين بدرجة أولى، فضلا عن بعض التفاصيل الأخرى التي يضيق المجال لذكرها كحقيقة ما يجري داخل خيمات اعتصامي «النهضة» و«رابعة العدوية» بالخصوص حيث يتحصّن أهم قيادات تنظيم الإخوان المطلوبين. فهذا المنحى الذي أخذته الترتيبات الميدانية للاعتصامين أفقدهما الشروط الدنيا لبقائهما ولنجاحهما وهي شروط السلمية والطابع المدني وحد أدنى من التعاطف الشعبي. وأغلب الظنّ أن الخطأ الوحيد الذي ارتكبته السلطات المصرية هو عدم تفطنها منذ البداية إلى مظاهر عسكرة الاعتصامين والتدخل في الوقت المناسب لغرض سلمية الاعتصامين على تقدير أوّلي منها بأنها ستتوفق في فضّهما دون كلفة تذكر على أساس ثلاثة معطيات رئيسية: اليقين بأن الحديث عن عودة الشرعية هو مطلب عبثي أصبح مستهلكا في الداخل لا يحظى بأيّ دعم سياسي أو شعبي في حدّه الأدنى. الارتياح لما توصلت إليه الإدارة الأمريكية ومؤسسة الاتحاد الأوروبي من اعتبار أنّ ما حصل في مصر بعد تحرك 30 جوان الماضي هو انتقال للسلطة بإرادة الشعب المصري. التركيز أكثر على استحثاث نسق التفاوض مع قيادة تنظيم الإخوان المعتقلين والمختبئين ومتابعته وتقييمه سواء عبر قنوات مباشرة أو غير مباشرة (أوروبية وأمريكية) على حساب الانتباه إلى الكثير من التفاصيل الخطيرة على الأرض في محيط الاعتصامين كان يتعين التفطن إليها ومعالجتها في الإبان. وعموما فإن الأجهزة الأمنية المصرية ليست أقل كفاءة أو خبرة أو حرفية من الشرطة الأمريكية التي فضت بالقوة اعتصام وول ستريت دون تسجيل ضحايا بشرية، أو من الشرطة اليونانية التي فضت دون كلفة تذكر اعتصام أثينا أو من الشرطة التركية التي فضت بالقوة المفرطة اعتصام ساحة «تقسيم» باسطمبول مع سقوط عدد محدود جدا من القتلى، ولكن ما صنع الفارق بين هذه الاعتصامات وهي أهم الاعتصامات التي شهدها العالم في السنتين الأخيرتين وبين اعتصامي «رابعة العدوية» و«النهضة» هو استعمال عدد من المشاركين فيهما للأسلحة النارية بما يفسّر سقوط هذا العدد المرتفع من الضحايا سواء في مكان الاعتصامين أو في مناطق مختلفة من محافظات مصر كرد فعل من أنصار التنظيم على فضّ الاعتصامين بالقوّة. وفي المحصلة لم تتوفق قيادة تنظيم الإخوان المسلمين إلاّ في جرّ المؤسّستين العسكرية والأمنية في مصر إلى مواجهة مباشرة دامية وباهظة الكلفة البشرية ولكنها لم تتوفق في تحقيق أيّ هدف آخر وخاصة منها الظهور في مظهر الضحية. فالمؤسسة العسكرية ازدادت إصرارا على تفكيك تنظيم الإخوان وتتبع قياداته المورّطين. إن سياسة الهروب إلى الأمام التي انتهجتها قيادة التنظيم عمقت من عزلة التنظيم داخليا ومن اشمئزاز الشارع المصري منه ومن ممارساته الانعزالية، رغم تنديد قواه الديمقراطية والثورية بسقوط هذا العدد الهائل من الضحايا لكن هذا التعاطف من منطلقات مبدئية لم يمنع من استحظار هذه القوى لصورة تنظيم الإخوان الحامل للواء الإرهاب الفكري والسياسي والعسكري. يلمس المتتبعون للأوضاع في مصر نفورا رسميا وشعبيا في المنطقة العربية يكاد يكون مطلقا من دعم الإخوان في مصر سياسيا ومعنويا وذلك من منطلقات مختلفة. مزيد إرباك الموقف الأوروبي عموما والأمريكي خصوصا ذلك أن المؤسسة العسكرية المصرية تبدو تجاه الغرب وتجاه الإدارة الأمريكية في موضع قوة أكثر من أيّ وقت مضى إذ مازالت تتوفر على ورقات رابحة على مستوى الاعتبارات والتحاليل الجيوسياسية في المنطقة كالورقتين الروسية والصينية وهو ما يزعج أكثر جنرالات وزارة الدفاع الأمريكية. وفي ما عدا ذلك فلا السيناريو العراقي ولا السيناريو الجزائري ولا حتى السوري يمكن احتماله للمرحلة القادمة في مصر وكل ما يمكن توقعه هو بعض العمليات الإرهابية التي تعوّد عليها الشارع المصري هنا وهناك في فترات مختلفة من تاريخه المعاصر ومزيد استنزاف للقدرات البشرية ولما تبقّى من قاعدة شعبية لتنظيم الإخوان في مصر، والأكيد أنّ الأمر سينتهي بالإدارة الأمريكية إلى رفع يدها عن تنظيم الإخوان وإلى دفع التيار السلفي ليكون لاعبها الجديد في مصر. بقلم: مصطفى قوبعة