حصريّ لأوتار حالات الرجل الغائم للقاسمي: شاعر تشكيلي يرسم القصائد الأكيد أن عديد المهتمين بالشعر في بلادنا قد لاحظوا ما لاحظته فالمجموعة الشعرية التي تصدر هذه السنة مثلا تلقى بعض الاهتمام النقدي في أحسن الحالات، و بعد مرور سنة على صدورها و ربما أقل تهمل وتترك في الرفوف باعتبارها أصبحت قديمة ولم تعد جديرة بالاهتمام. هذا هو السائد في ساحتنا الراكدة، وها أنني أراوغ المألوف وأقرأ لكم مجموعة الشاعر عبد الله مالك القاسمي ( حالات الرجل الغائم) التي صدرت سنة 1999.* *الرجل المزدحم: في البدء قرأت فهرس الكتاب فتبين لي من خلاله أن الشاعر لم يذكر عناوين القصائد، إنما تعمد تجاوز ذلك و الاكتفاء بعناوين الأبواب كما سميتها ( أشجان، تخطيطات، اشتعالات، ألوان، أصوات، و أقباس) و باستثناء الباب الأول الذي هو عنوان قصيدة، فإنّ الأبواب الأخرى تتبطن عدّة قصائد ذات عناوين مستقلة و جاءت الأبواب في صيغة الجمع، أشجان اشتعالات، تخطيطات إلخ لتخبرنا أن القاسمي قد جاءنا مثقلا بالجراحات و يختزن هموما شتى و في جرابه بشائر الذي يحاول تغيير ما حوله بالكلمات. منت خلال الفهرس نشعر أنّ الشاعر لم يجئ ليقول كلمة ثم يمضي لم يجئ خفيفا و نسيما عليلا إنما جاء ليقول الكثير. لأنه كثير الأعباء و لا بدّ أن يهبّ في ريح حتى يؤثر و يحفر سبيله من الدروب الوعرة. و لا يملك الشاعر في هبوبه و حروبه سوى الكلمات. كم مات الشاعر مشنوقا بحبال الكلمة كم كان يرى مؤتلقا وجه العتمة (ص 10) و الشاعر مهما كان طاعنا في الدمار، فهو ذلك الطفل/النبي، الذي يضم الورد، و يسعى في المدينة الفاضلة، و يكسر الحواجز لبلوغ دار السلام: و لمّا أفقت و صرت نبيّا و طفلا و كنت طريقي مشيت إليك أحث الخطى مثلما شجر راجل نحو بيت الحريق (ص15) و حتى إذا كالت رحلة السعي و لم يصل الشاعر إلى ما وراء العرش، و أدت رحلته إلى بيت الحريق فليكن من قال أنّ النار ليست هي المسعى؟ فهي التي تطهّر و من رمادها يولد الطائر ليحلق في الأفق الأرحب. * الرجل الغائم: ها هو الرجل الغائم، شاعر بأتم معنى الغيم و رغم ازدحامه بالأثقال، و بالأحلام، و بالنبوءات، فهو وحيد تماما، غريب بين قومه ذلك هو قدره فقدر الشاعر أن يصارع الأمواج وحده، أن يسير وحيدا يقود مسيرة تبشّر بالآتي المستحيل و ها هو يخاطب طفلا يشبهه أو يخاطب ذاته. هكذا مذ كنا التقينا و منذ مشينا وحيدين ثمّ وحيدين لا شجر في الطريق يرافقنا و لا فقر في اليدين (ص17) و القاسمي مؤمن بقدره و يعرف أن الازدحام الذي يختزنه في داخله يبطل وحدته و يجعله كثيفا في ذاته. مغطى بما تنسجه الكلمات، حتى إذا تعرّى ذلك العريّ الذي يحسّه الشاعر حين يخون الأصدقاء و يرحلون و حين تعبس السماء و لا تمطر و حين تعلو الأشجار و لا تثمر، حينها يتدبّر شاعرنا أمره. حيز نعرى نلوذ بنا بحياد طفولتنا المتعبة و نعدّ من الجرح أغنية وردة قمرا أو كتابا من الأسئلة (ص20) إذن يعرف الشاعر كيف يتخطى ريستر جرحه، رمز الجرح يخلق المعجزات الصغيرة التي هي زاد الطريق فلتكن أغنية أو وردة أو قمرا أو كتابا من الأسئلة لمزيد الحيرة، و التأمل و التوغل في المجهول و في متاهات العالم فالسؤال يعيد الأشياء المألوفة إلى حالة اللامعنى و على الشاعر إعادة اكتشافها و البحث عن أسماء جديدة لها، و عن وظائف أخرى غير الوظائف السابقة. فالشعر فعل تغيير و أكثر من ذلك إذ هو فعل محو و إعادة ولادة في هيئات مغايرة. *اشتعالات الرجل الغائم: و عند وصولنا أمام باب (الاشتعالات) نجده مفتوحا فندخل، فنلحظ بإحساسنا أننا في فضاء تحرّكه الصوتيات بشتى إبداعاتها، و منذ الوهلة الأولى نسمع: بين الأصابع و الشذى صوت نما فاحمرّ وجه الياسمين و اختصر عشب في السماء (ص31) القاسمي في هذا الباب بدفعنا إلى القراءة بالسماع، إلى العناية بما هو مسموع فللأصوات إيقاعاتها البالغة القادرة على التأثير في الوجدان: تعبت من الياسمين يخاتلني في الصباح و حين المساء يجيء و حين تمر الحدائق يشتمن للرياح (ص35) ليكن الياسمين المخاتل صوته في شذاه فيكون خافتا في الصباح ثمّ عند المساء يعلو و يصبح سليطا ليشتم الشاعر للريح. تعبت من الياسمين الذي كنت أحمل شجرا من البكاء و عاصفة من النواح (ص36) و لعاصفة النواح أصواتها هكذا يعبر القاسمي عن تعبه بصوت مسموع. إنه الوصف البالغ الشاعرية يصل إلى الأذن فيترقرق فيها و ينسل إلى جهة بين الضلوع ليستقر بها. لقد تعبت أكفّ الجراح رسمتك صوتا و ضوءا شذى خفقة من جناح (ص36) و أقنعنا الشاعر عبر هذا المقطع الرائع بأن الجراح استطاعت أن ترم صوتا و هاهو المرئي يتحول إلى مسموع و كم من لوحة نراها فنقول إنّها تكاد تنطق. القاسمي و بقطع النظر عن معنى القصيدة استطاع إتقان لعبة الصوتيات فنسج منها ما يدهش، و ما يستحق القراءة لعدة مرات إلى حد الحفظ. كنّا التقينا، ها هنا في همسة، في لمسة في قبلة منسية (ص 39) إنني أسمع الهمسة، و القبلة و بالتالي من السهل تصوّر المشهد، و بهذا المعنى أو بهذا الشك يكون التأثير أعمق و أسرع و أروع. و لتتأهل هذه المفردات (الخطى، الريح، الموج و المطر و الطير، الأشجار و الخريف...) لكلّ مفردة صوتها، و بالتالي فنحن أمام حشد من الأصوات جمعها عبد الله مالك القاسمي ليبدع بها قصائد تعبّر عما يختزنه من تعب و جرح و مسرات و تداعيات. * الشاعر يرسم: و ندخل الآن من باب الألوان لنجد أنفسنا بين اللوحات و الرسوم حيث يحتفل اللون باللون و تتجلى قدرة المبدع على خلق جمالية مدهشة تعادل الشعر و ترنو إلى الخلود. و القاسمي قارئ جيد لأعمال الرسامين و لا يكتفي بالقراءة بل يذهب إلى الاحتفاء باللوحات و يرسمها شعرا فيسافر مع الضوء و الماء و اللون و الظلال في انسجام حميمي لا عسر فيه. هذا الضوء القادم من بين أصابعه منذ البدء يجيء و ينسل أفلاك في يده تتجلى أنوارا و ظلالا أفراس تركض في الماء و لا تبتل ألوان في بهجتها ترعى أو في معراج الصورة تنحل (ص44) يبدو لنا الشاعر رساما قديرا يحاو الشعر فيجيده، فليس من السهل قول لوحة بقصيدة، إنها إعادة رسم بكلّ ما تحمله الكلمة من إبداع. وفي باب (ألوان) اندمج القاسمي مع الرسامين تدخل في أعمالهم و أدخلهم في شعره، فأضاف إليه لقد وصل الأمر إلى الانبهار، و أنا أقرأ رسوم الشاعر، أو أشاهد قصائد الرسام. إنه يتلوّن فبعد مهرجان الصوتيات أخذني إلى مهرجان الضوئيات... فطوبى للرسامين الذين استطاعوا إدهاش القاسمي فعرض لوحاتهم في هذا الكتاب. *مقدمة بدل الخاتمة: بين (هذه الجثة لي) و (حالات الرجل الغائم) قطع عبد الله القاسمي مسافة إبداع فيها إضافة، بفضل تمكنه من اللعبة الشعرية و إدراكه أن الشعر هو فعل محو و تغيير. و في الختام أقول أن هذه القراءة ليست متأخرة، فيمكن الكتابة عن كتاب صدر منذ عشر سنوات خصوصا إذا لم حظه من العناية النقدية، و أغلب كتبنا لم تأخذ حظها. ------------------------------------------------------------------------ * (حالات الرجل الغائم) المكتبة المتوسطية – جمعية الكتاب بتازركة - 1999