ماذا يفعل الكائن حين يأخذه الشعر من زحمة أحلام الناس وصخبهم وإيقاعاتهم المألوفة الى عوالم أخرى تحتشد فيها الكلمات والمعاني والصور ويظل الحلم بهجة أخرى يلذّ البحث عنها... وهكذا... هذا ما حصل مع الشاعر صالح الطرابلسي الذي رغم شؤونه اليومية والاجتماعية حرص على اقتراف وداعة الشعراء الكبار ديدنه الكتابة الشعرية في هذا العالم المعطوب الذي كثرت فجائعه وتداعت علاماته وصار أقرب الى متحف مهجور... الشعر لدى صالح الطرابلسي ضرب من المحبة الشاسعة بعيدا عن ضيق الافق ولذلك كبرت لديه هذه الفكرة الباذخة مع مرور الايام. خلال أكثر من ربع قرن... أصدر الشاعر صالح الطرابلسي ديوانين هما «للفرح الظامئ» و«قصائد من جمر وماء» وها هو الآن يصدر مجموعتين شعريتين دفعة واحدة ونعني «أنكيدو» و«مطر لقبّرة البراري» عن دار سنابل للنشر بسليانة وعلى نفقته الخاصة وكأن حرائق الشعر غير كافية لتتبعها أو تنضاف اليها متاهة النشر وأثقالها خصوصا في ظروف مثل التي نعرفها للشاعر صالح الطرابلسي الذي ترهقه العائلة الموسعة والمسؤوليات الثقافية التي يعرفها مواطنو مرناق وبن عروس والجمهورية التونسية ونعني أيضا العائلة الثقافية... وإنها حرقة للشعر وقيمه الصافية حيث يرى الشاعر صالح الطرابلسي الأدب عموما والشعر بالخصوص ضربا من ضروب المحبة والسمو المنوطة بعهدة الكاتب في مجتمعه وأمته... نقول هذا من باب محبة هذا الرجل الشاعر الذي أعطى للثقافة والشعر الكثير ولكنه ظل على تواضعه وصمته الانيق في زمن كثر فيه الادعياء والمسرعون وعديمو أخلاق الآداب والفنون... ونعرف كم تعب هذا الشاعر لنشر قصائده وكتبه في ثلاثة عقود من جراح الشعر... في هذين العملين الشعريين «أنكيدو» و«مطر لقبّرة البراري» يواصل الشاعر صالح الطرابلسي لذة الاحتفاء بالانسان في تجليات جراحه وخاصة هذا الانسان العربي الذي تتنازعه هموم شتى وفي لغة اجترعها الشاعر من دواخله تأتي القصائد منسجمة مع أشجانه التي يختلط فيها الحب بالحزن المعتّق فتغدو المعاني ضربا من الغناء الخافت... «قد كبرنا يا حبيبتي وما اكتمل الزمان بنا انظري كبر همّنا! تعب هو الياسمين الذي كم قد سقيناه من أحلامنا عطرا شذيا! لست أدري ما الذي أرداه على قلبي حزينا!...» مجموعة مطر لقبّرة البراري يفتتحها الشاعر بنص هو بمثابة البيان الذي يكشف شيئا من ألوان الكتابة لدى صالح الطرابلسي وعنوانه كلمات في الشعر ومما جاء فيه: «الشعر كتلة من هواجس ورؤى تتدفق من أعمق أعماق الاحساس خفقات شعور... الشعر كيمياء الذات في تفاعلها بالحياة... للشعر في تغيير العالم دور... ولكن ليس بالشعر فقط يتغير العالم»... وفي ديوانه «أنكيدو» يبدأ الشاعر صالح الطرابلسي قصائده بنص آخر بعنوان «الكتابة جسد للواقع يتضوّع روح الحياة» ونقرأ فيه ما يلي: «أن تكتب يعني أن تعرف لمَ كنت وما معنى أن تكون وكيف يجب أن تكون؟ أن تكتب يعني أن تختار لك ما بين الاقدار قدرين لا ثالث لهما، أن تموت موت العاجزين الخاملين المقعدين، أو أن تموت موت الفاعلين في الحياة، لكي تبقى الحياة»... الكتابةبهذه المعاني لدى الشاعر صالح الطرابلسي فعل حياة وموقف ولذلك كانت القصائد حمّالة هموم ووجد وأشجان هي موسيقى هذا الانسان في رحلته الملونة بالصبر والتضحية والوقوف بوجه المآسي... والشاعر عاد هنا في ديوانه «أنكيدو» الى الاسطورة تقصّدا لمرايا الملحمة حيث البحث عن النبتة في الدروب هي الرحلة وقد خبر الشاعر تفاصيلها فمضى باتجاه الوردة العابقة بالخلود. أعلم جيدا أن الطريق اليها معبّدة بأشواك من جراح وخزها يدمي (أنكيدو) أنا، وشغلي طلاّع الثنايا... نحو تخوم المستحيل. سوف أسعى كي أعيد تفاحة الوصل الى فردوسها في الجنان!... (أنكيدو) أنا سأخترق الدروب، كلها كي أغرس في ثرى الارض وردة ضوعها يعبق بالخلود... قصائد أخرى فيها همس التواصل والوشائج مع الشابي شاعر أغاني الحياة ومع الفنان المبدع محسن الجليطي والشاعر محجوب العياري الذي أهداه الشاعر قصيدة سنة 1990 حيث قرأها بمناسبة حصول العياري على جائزة عربية في الشعر كما نقرأ قصيدة أحالتنا على قصيدة المتنبي وهو يبدع في وصف الحمّى الانثى... وذلك في قصيدة الطب والشعر وقد كتبها الطرابلسي فترة ألمّ به مرض حيث يقول: «ناديته الشعر طبيبا، عساني به أشفي علتي ما استجاب فاستزاد مشقتي وعذابي! قلت من لي بعد شعري إن جفاني؟! هكذا هي القصيدة لدى الشاعر صالح الطرابلسي، لحظة بوح في تجليها المفعم بالشجن والآه ولكننا في ثنايا الاشعار نلمس اكتواء الشعر بالحب والحميمية تجاه التفاصيل والعناصر والاشياء والطفولة من هذه العناوين البارزة التي تزين القصائد حيث نقرأ في قصيدة هذا الحب إذ يستبدّ: «عندما كنا صغارا عمرنا... كناا دفقا من ضياء الفجر في ابتسامات الزهو... كنا نهرا سلسبيلا يلج كل البراري لا تلويه الشعاب!... كنا نبعا زلالا من نشوة الحب في أغاريد الطيور...» والحنين في قصائد صالح الطرابلسي حاضر ففي قصيدة مطر لنوّارة الصبا ضمن مجموعة مطر لقبّرة البراري يقول الشاعر: «شجر الصبا يا الشجر المتربع بالصبابة لكم تعتعتك رياح السنين بالاعاصير شحر الصبا... يا شجر التوت والتين والزيتون! لكم آخيت بيننا يوم كنا في عمر الزهور! عصافير نطير منك، إليك ....... أذكر الطفل الذي هو أنا بين جوانحه كانت تخفق أحزان... وشجون»... «أنكيدو» و«مطر لقبّرة البراري» قصائد أخرى توغل في حياة الشاعر صالح الطرابلسي فتأتي منسابة لأنها تشبهه فهي خارج أسراب الانفعال والافتعال... هي اللغة في معانيها المتشظية تسكب شيئا من أوجاع الشاعر... وهو ينظر باتجاه طفولته في هذا العقد السادس من الحياة... هذه الحياة التي أجمل ما فيها أن الكائن (وهنا الشاعر) يمضي فيها ببراءة الاطفال وأصوات الطيور في السماء الصافية.