هي صورة طبق الأصل تلك التي نتابعها في سورية وليبيا.. وهي صورة قاتمة-للأسف الشديد- ويزيد من قتامتها أن الشعبين محكومان بنظام حديدي أنفق سنوات حكمه المديدة التي تقترب من نصف القرن على إعداد الجيوش والأجهزة الأمنية المعقدة، وتكديس الأسلحة للحظة الحسم الفاصلة، ليس مع العدو المتربص بالبلاد، وإنما للفتك بالشعوب حالما تتحرك للمطالبة بحقوقها.. وما نشاهده في ليبيا اليوم صورة مصغرة لما يمكن أن تشهده سورية إذا تواصلت ثورة الشعب السوري العظيم.. فلئن كان «القذافي» يحرقها «شارع شارع.. وزنقة زنقة»؛ فإن النظام السوري مستعد لحرقها شبراً شبراً، ويحولها إلى مقبرة كبرى - لا قدر الله - ولا مبالغة في ذلك ولا تحامل، فنظام «القذافي» إن كان قائماً على تمجيد فرد وتأليهه، ولا تزيد تركيبته عن حالة شعبية عشوائية، وتعتمد قوته على «المرتزقة»، وتتركز قيادته في أيدي أبناء الزعيم.. فإن النظام السوري مختلف؛ فهو قائم على عقيدة «البعث» التي زرعها في المنطقة «ميشيل عفلق» (1910 - 1989م)، وتقوده منظومة من أبناء الطائفة العلوية التي تمثل 5% من الشعب السوري، فهو - إذاً - نظام عقائدي طائفي، وبالتالي فهو أكثر إحكاماً وأشد استعصاء على التغيير أو التجاوب مع المطالب الشعبية، وأكثر حنكة في الألاعيب السياسية والإعلامية القادرة على الحفاظ على وجهه المشرق. ونظام بهذا الشكل من الصعب أن يتخلى عن نفوذه وسلطاته وسطوته على البلاد واستعباده للعباد.. حتى آخر مدى! وحتى تقترب الصورة أكثر، أتوقف قليلاً - للتذكير فقط - أمام بعض الجوانب المهمة بشأن «حزب البعث العربي الاشتراكي».. فالمعروف أن «ميشيل عفلق» هو الأب الروحي لهذا الحزب، وقد أسّسه بالتعاون مع «صلاح البيطار» في سورية، والمعروف أيضاً أن أيديولوجية «البعث»، وكذا أيديولوجية «الحزب القومي السوري» الذي أسسه «جورج سعادة» توضعان في خانة مقاومة الصحوة الإسلامية في المنطقة، بل ومحاربة الإسلام ذاته.. ف«عفلق» نادى بالقومية العربية، بعد أن فرّغها من روحها الإسلامية، و«سعادة» دعا للقومية السورية بعد أن نزع منها روح الإسلام المتجذرة في أعماق الشعب السوري المسلم.. وهما (عفلق وسعادة) يعتبران الإسلام تراثاً لا أكثر. وقد قال لي د. حسن هويدي (1925 - 2009م) أحد أبرز قادة الحركة الإسلامية في سورية يرحمه الله: إنه شارك في فترة شبابه في كثير من ندوات «ميشيل عفلق» في دمشق خلال السنوات الأولى لتأسيس حزب «البعث» (بداية خمسينيات القرن الماضي)، ودارت بينهما مناقشات مطولة في تلك الندوات.. يقول د. هويدي: «كان «ميشيل» يطرح أفكاره بذكاء ومنطق يجذب به قدراً كبيراً من الشباب الجامعي، وقبل أن ينادي «ميشيل» بفكرة حزب «البعث» كانت له نزعة شيوعية، لكنه رأى أن الشيوعية لا يمكن أن تنجح في بلد عربي؛ فعدل عنها، ولجأ إلى الاشتراكية، ووضعوا شعارهم: «حرية - اشتراكية - وحدة»، ولكنه برغم ذلك بعد أن قوي الحزب، كان يكتب في الصحافة بعناوين ضخمة من قبيل: «الماركسية بالنسبة لنا هي الأم».. لكن تغيراً طرأ على فكره في أواخر حياته، وقد سمعته في إحدى محاضراته يقول: يجب أن نستمد دائماً من معين الإسلام الذي لا ينضب». وقد أشيع أن الرجل أسلم في آخر حياته، وقيل: إنه ترك رسالة بهذا الخصوص قال فيها: «إذا حصل لي حادث، فإني أموت على دين الإسلام.. وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» (أحمد ميشيل عفلق في 12/7/1980م). وأكد نجله «إياد عفلق» خبر تلك الرسالة لموقع «العربية. نت» 8/5/2007م. ولكني أتساءل مع عشرات المتسائلين: هل يعقل أن يؤسس عفلق حزباً عقائدياً يقوم عليه نظام الحكم في دولتين عربيتين (العراق «صدام» - وسورية «الأسد»)، ويمتلك أفرعاً في العديد من الدول العربية، ثم يأتي ليعلن إسلامه في الخفاء في رسالة يتم إعلانها بعد وفاته (1989م) بسبع عشرة سنة؟! ألم يكن حرياً به أن يقول شيئاً للملايين من أتباعه عن أسباب تغيير فكره، بل وأسباب اعتناقه للإسلام؟ فالرجل طالما ارتضى اعتناق الإسلام، فلابد أنه وجده أفضل وأصح من عقيدة «البعث» التي عبّر عنها أحد متطرفيه ببيت الشعر المشهور: آمنت بالبعث رباًَ لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني! ألم يكن حرياً بالرجل أن يفعل شيئاً - طالما أسلم - يطفئ من أفكاره البعثية التي عششت في المنطقة، وقادت بلداً كالعراق نحو الهلاك بالأمس القريب، وتهدد سورية اليوم بمصير مجهول، ومازالت تودي بالمنطقة إلى المهالك؟! -------------------------------------------------------- (*) كاتب مصري- مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية