بقلم: شكري بن عيسى (*) لم اشاهد طيلة الاربع سنوات الاخيرة برنامجا اردأ واكثر ابتذالا مثل الحصة الاخيرة ل"قهوة عربي" التي تنشطها "الاعلامية" انصاف اليحياوي واستضافت فيها "المفكر" محمد الطالبي، ل"مناقشة" آخر "اكتشافاته" حول البغاء واللواط والخمر. والحقيقة ان الامر لم يتوقف على الابتذال والرداءة وخرق كل القواعد المهنية الصحفية بل تعدى ذلك الى التورط على الاغلب في ارتكاب جرائم قانونية واضحة، ولن نثير المسألة من الجانب الاخلاقي على اهميته. وهو ما يطرح حقيقة الاستفهامات العميقة حول حقيقة دور ووظيفة الاعلام العمومي وخاصة التلفزة الوطنية التي يساهم دافع الضرائب في تمويلها من جيبه مباشرة عبر فاتورة "الستاغ" او غير مباشرة عبر ميزانية الدولة. و"المنشطة" التي وصلت الى حد التقييم والاحكام المعيارية لضيفها المنجي الحامدي في حلقة سابقة في عرضه للمساعدات القطرية والتركية ووصفته ب"تقديم شيك لتبييض قطر"، دخلت في حالة سبات وصمت امام الطالبي، وكتفت بدور المتفرج، ولم تطرح سوى بعض الاسئلة وتركت له المجال فسيحا فسيحا لعرض افكاره بما يذكر بشكل الدروس الجامعية والمحاضرات التي لا يقاطع فيها الطلبة المحاضر، او المداخلات الاشهارية مدفوعة الاجر المتعلقة بالادوية "الطبيعية" والطب "الرعواني" التي تختص بها القنوات الفضائة اللبنانية الخاصة، ويظهر فيها المنشط كديكور لتزيين الفضاء، تشترط وجوده الجهة المستشهرة. "المنشطة" طيلة قرابة الساعة لم تطرح سوى بعض الاسئلة واقرت صراحة بانها "لن تقاطع ضيفها"، في قضية تثير عديد الاشكاليات المعقدة، زيادة على حساسيتها الدينية، وخطورتها اجتماعيا وتربويا بالنسبة للشباب والاطفال، هذا فضلا عما اثير من اسئلة تشكك في قدرات الطالبي الذهنية بحكم تقدمه البيولوجي في العمر، وهو ما كان يستوجب تدقيقا وتمحيصا خاصا في كل ما يعرض، بل مواجهة متكافئة، ونقاش حقيقي يوضّح المسألة ويستكشف خفاياها ويسبر اغورها، ولا نسقط في برامج البروباغندا مهما كان نوعها الفكرية او الايديولوجية او الدينية اوالسياسية. ولا ندري حقيقة هل ان طريقة التعاطي ناتجة عن عدم دراية "المنشطة" بدقائق الموضوع ام جهل بوظيفة الاعلام العمومي او نقص في الالمام بقواعد الاعلام والمواثيق والقوانين الذي تحكمه ام اننا في حضرة "الجهل المركب" الذي يجمع الكل دون دراية صاحبه بالامر، اذا لم يدخل في اطار التضليل او البروباغندا الايديولوجية، او لم يرتبط باشهار مدفوع الاجر او انخراط في التلهية السياسية القائمة هذه الايام وتتبرز من حين لآخر عبر جملة من العناوين المثيرة والصادمة. الاطروحات التي دافع عنها الطالبي تمحورت اساسا حول عدم تحريم الخمر والبغاء واللواط في القرآن، ولم ينبش ببنت كلمة حول الاثار التدميرية على الفئات غير المتخصصة علميا التي لا تمتلك الادوات الفكرية لتفكيك تفاصيلها، وعلى المجتمع في عمومه، كما لم تراع وجود فئات هشة مثل الاطفال والشباب والاميين الذين يفتقدون لادوات التمييز الفكري في الصدد، وصارت بذلك في شكل دعوات، ويمكن ان تشكل جريمة على معنى القانون الساري، وكان ضروريا مواجهتها وتدقيقها وتمحيصها ومساءلتها ومحاججتها ودحضها وتنسيبها لتبيان الحقيقة حولها ولتبيان الرهانات الشخصية او السياسية التي يمكن ان ترتبط بها للوقوف على خلفياتها الحقيقية واغراضها العميقة. ابسط قواعد الاعلام اليوم هو التعدد والتوازن في الافكار وهذا مفروض بموجب المرسوم عدد 116 المتعلق بالاتصال السمعي البصري، بل هو من قواعد التفكير، وهو حق من حقوق المواطن في معرفة القضايا بمختلف جوانبها وجملة ابعادها، وكشف ما يرتبط بها من مغالطات وتضليل وتدليس باعتبار ان الخطاب الفكري او الايديولوجي او السياسي او الديني غير بريء في اغلبه، والامر يزداد تأكدا خاصة وان دعوات الطالبي جاءت مع تصاعد الازمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والامنية التي يعيشها البلد من جراء السياسة المرتبكة للسلطة التنفيذية برأسيها، وطرحت اسئلة كثيرة حول اندراجها في خانة التلهية. نعلم ان من خصائص الخطاب الاعلامي العمومي خاصة هو خطاب قوامه السؤال والشك والنقد والحوار والدحض وفضح المغالطات والخدع وكشف الاوهام والتضليل والارتقاء بالذائقة العامة ونشر الفكر النقدي وخلق التواصل الايجابي وطرح القضايا الحقيقية ذات الرهانات العالية ولعب وظيفة تربوية واتصالية ايجابية، ومناهضة الانغلاق والخضوع الانفعالي السلبي للدعوات مهما كان مأتاها من الواعظ او السياسي وغيرهم، وهو ما اشتغل عليه عديد الفلاسفة مثل بورديو وفوكو. المصيبة ان يصبح هذا الاعلام اسير الاعتبارات الايديولوجية والمالية والحزبية، فيساهم في تقويض الوظيفة الاساسية المفترض ان يلعبها، خاصة في غياب هيئات التعديل سواء القانونية منها "الهيكا" او المؤسساتية "مجلس المشاهدين"، فتكون دعوات الابتذال والشذوذ على الفضاء بالصوت العالي، مع توفير كل مؤثرات البروباغندا العالية.