- ما الذي تخفيه التسمية التي أطلقها البعض حول "إسلام تونسي" وإسلام بالرؤية البورقيبية؟ - لماذا تتعمّد بعض الأطراف الزجّ بالإسلام في صراعاتهم السياسية ؟ يبدو أنّ أغلب القضايا ذات الصبغة الإيديولوجية والمرتبطة بحقل الصراع من أجل السلطة ضدّ السلطة أصبحت مرتبطة بضرب من "الامتهان" الفكري، إن جازت العبارة للكثير من المسائل المبدئية وعلى رأسها مسألة الرؤية الإسلامية للحياة وللإنسان وللواقع الاجتماعي عموما. هذه الصبغة الإيديولوجيا أوحت للبعض بضرورة التعويل على توظيف الإسلام على النحو الذي يتلاءم مع مآرب مشروطة قطعا بالتقليل من قيمة الآخر والاستنقاص من قدرته بقطع النظر عمّا يلحق الإسلام من تشويه أو إساءة عن قصد أو عن غير قصد. لم تسمح الصراعات السياسية والاختلافات الإيديولوجية بالتفرقة بين الطبيعة البرغماتية لخطابها ومقتضيات نجاحه دعائيا كي يضمن النجاح الجماهيري ومميّزات الإسلام إجرائيا في شتى مجالات الحياة الإنسانية الفردية والجماعية، الخاصّة والعامة ومقتضيات الارتقاء به فوق المزايدات والحسابات السياسية. يعدّ هذا الإطار الإيديولوجي المشحون بالتناقضات وتغذّيه حماسة غير مسبوقة من أجل الريادة، قادحا للنظر في الدلالات التي تحملها هذه الخطابات من أجل تقدير بعض التبعات التي قد تعوق تقدّمنا وتعطّل مطلبا مشروعا لفكر فتيٍّ هدفه بناء حداثته بذاته وبآلياته الخاصّة. ولعلّ من أبرز الدلالات التي نحتاج إلى طرحها في مستهلّ هذه الورقة تلك التي ترتبط بمقولة لا تبدو عفوية أو بريئة ألا وهي مقولة "الإسلام التونسي". فبماذا توحي هذه المقولة نظريا وسياسية وعقائديا؟ لا يخفى على من يتابع الأحداث ومجرياتها المتسارعة في مجتمعنا منذ ما يزيد عن سنة( جانفي 2011 مارس 2012 ) أن يلاحظ ويسجّل كثرة من مواقف وأفكار وسلوكات ومعاملات غير معهودة فردية كانت أو جماعية، نخبوية أو جماهيرية، سلبية أو إيجابية...كما لا يخفى أيضا ما لعبته تقنيات الدعاية بشتى أساليبها من دور في تلوين وتنويع المشاهد المنبثقة عنها. غير أنّ القراءة المتمعّنة لهذه المجريات تكشف عن استمرار وثبات في رؤية أو لون ما، وهو لا يرتبط بما يخامر ذهننا للوهلة الأولى، وإنّما بذلك الذي ارتبط منذ عقود بمشروع الإنسان الحداثي أو هكذا يدّعون، الإنسان الذي ينبغي محاكاته والاقتداء به فكرا وسلوكا وحياة. فالأمر لا ينحصر في اعتبار سياسي فحسب أو صراع من أجل السلطة، بل إنّه أوسع نطاقا وأعمق تأثيرا من ذلك لأنّه يرتبط بمرجعية الإنسان ومرجعية حياته برمّتها. ما هي صورة الإنسان التي يطرحها هذا المشروع؟ هل يتمتّع الإنسان بحدّ أدنى من الحرية كي يتمتّع بحقّ صناعة ذاته أم هناك نموذج لا محيد عنه يجب علينا الإقتداء به؟ سوف تتحدّد قراءتنا لصورة الإنسان كما يطرحها المشروع المذكور بالنظر إلى سجلّ غير معهود ومجهول المصدر في الظاهر قدّم نفسه تحت عنوان :" الإسلام التونسي": عنوان مريب وغريب لا يقلّ غرابة واغترابا عن كلّ توجّه يرمي إلى إلباس الإسلام طابعا قطريا أو إخضاعه إلى أساس عرقي تختفي خلفه شوفينية مدمّرة للإنسان وللإسلام. ولنا أن نبرّر خطورة هذه المزاعم وما ترمي إلى رسمه من تقديرات خطرة على وحدة مجتمعنا وعلى وحدة الأمّة الإسلامية بواسطة عدّة اعتبارات: - اعتبار نظري: القول بأنّ المرجعية الحداثية هي مرجع النظر، والرؤية التقدّمية للإنسان وللحياة هي معيار الحكم. لكن لو تأمّلنا قليلا في نسبة هذه المرجعية التي يفرضون ومميّزاتها بالنسبة إلينا في مجتمعنا فإنّنا إمّا نجعلها قائمة في مدى تطابقها مع النموذج الفرنسي بما يحمله من خصوصياته أو أن نحتكم إلى الشروط التي أفرزت التنوير الغربي، وفي كلتا الحالتين نكون إزاء حداثة نستهلكها ولا نصنعها وليس لنا القدرة على صنعها ونتعامل مع رؤية تقدّمية لسنا جديرين بالإسهام في بنائها. والمغزى من هذا هو أن نفهم فقط السبب الرئيس الذي حمل البعض ممّن يزعم الحداثة ويدّعي التقدّمية على تحييد الإسلام أو استخدامه ورقة سلبية في خطابه كي يستحوذ على حداثة لم يصنعها وتقدّمية لا يمتلكها. أليس ذلك ما يترجم الخلط الذي وقع فيه هؤلاء حين يستعملون عبارة "إسلام تونسي" من دون أن يدركوا حجم الإساءة إلى أنفسهم قبل أن تكون إساءتهم إلى الإسلام؟ ألم يكونوا هؤلاء على دراية بأنّ الإسلام لا يقبل التصنيف ولا يمكن أن يتّخذ طابعا قطريا بأيّ شكل؟ بل كيف يزعم البعض من هؤلاء أنّه لا حقّ لأيّ كان أن يتكلّم باسم الإسلام ثمّ سرعان ما ينسب هذا الحقّ إلى نفسه من أجل اصطناع تفرقة في الإسلام ليست مشروعة بأيّ شكل؟ هل تُراها حداثة هذه التي تبيح له ما يمنعه عن غيره؟ أكتفي بهذه التساؤلات، فالمجال لا يتّسع لمزيد التوضيح. - اعتبار سياسي: يمثّل الواجهة الحيّة للاعتبار الأوّل، خاصّة بالنظر إلى الاستبسال الذي أبدته بعض الأطراف من أجل ضمان استمرار حضور الخط الفكري نفسه. بدأ هذا التوجّه فعله منذ إرساء المبادئ الأولى للتربية والثقافة والتعليم. فالبرامج المرسومة منذ عقود عديدة نهجت أسلوب التقليص المتدرّج للأصول إلى أن بلغت مرحلة ما عُرف في التسعينات من القرن الماضي بمشروع تجفيف الينابيع. هذا ما انعكس سلبيا على شخصية الإنسان التونسي عموما وعطّل مسار أكثر من جيل إبداعا وحرية. والنتيجة الطبيعية هي التحكّم الناجع وبأيسر السبل في جميع الشرائح الاجتماعية على نحو يضمن استجابتهم وطاعتهم بصمت. ولا يحتاج ذلك إلى "ترتيب كلام أو نظم دليل" ما دمنا قد عاينّا وعانينا من استبداد من لا دراية لهم بتدبير الشؤون العامة وبسياسة الناس. ولعلّ من أهمّ الضمانات التي راهنوا عليها هي احتكار الدولة للشأن الديني، واصطناع صورة للإسلام على نحو يعزّز جور السلطان واتّساع مجالات هيمنته لتشمل حتى مجال العقيدة، كلّ ذلك يفسّر السبب الرئيس الذي كان وراء مطاردة الإسلاميين وتضييق الخناق في شتّى الأنشطة والممارسات المرتبطة بالدين. هذه الصورة ظلّت قائمة في اللاوعي الفردي كما في اللاوعي الجمعي وإن بشكل أقل، وهو ما انعكس بجلاء في بعض الآراء (حتى لا أقول مواقف أو إيديولوجيات عهدناها مشروطة بمواصفات غير متوفّرة في هذه الخطابات الاعتراضية الآن على الأقلّ) التي ظلّت ثابتة على سلوكها المناهض والعدائي للإسلاميين. ولذلك فإنّ من بين التقديرات التي كانت من الناحية المبدئية في التعامل مع الإسلاميين هي رسم حدود لأفقهم الفكري والثقافي وتعطيل تجربتهم السياسية بأيّ شكل. لكن أن يعتلي الإسلاميون سدّة الحكم على نحو يقلب الصورة تماما فذلك ممّا يخرج من دائرة التقديرات ويدخل ضمن دائرة الرفض القطعي المعلن لهم في البداية، رفض أخذ يتدرّج ويتفاقم إلى أن بدا كأنّه يستهدف الإسلام، وهنا حصل الخلط وبرزت في حقل الصراع السياسي ورقة المزايدة بالإسلام. وعندئذ تتّضح خلفية الدعوة إلى "إسلام تونسي" أو استعادة لما يعنّ للبعض أن يسمّيه ب"الحداثة البورقيبية". اعتبار عقائدي: انبجاس الإسلام بصفته دينا خاتما وخطابا كونيا شاملا جاء لتوحيد البشر وليس للتمييز بينهم أو تصنيفهم بمقتضى عرق أو لون. الإسلام عقيدة توحيد: يضمن أساس وحدة ترسي أفقا كونيّا يعبّر عن المشترك الإنساني. ويمثّل مصدر وحدة كيان الجماعة أو الأمّة أين ينصهر الأفراد على اختلافهم وينسجمون بتأثير القيم الإسلامية والميزات والقواعد التي تجمعهم. بهذا لا يكون الحديث عن الإسلام بصفته دينا يماثل بقية الأديان، بل بصفته خاتم الأديان وأشملها : يحافظ على الخاصّ بالنسبة إلى أيّ مسلم في بيئته ومجتمعه وعوائده وزمنه ، وفي الآن نفسه يوحّد جميع البشر بناء على مبدأ التوحيد. ترمي النظرة الإسلامية للعالم إلى جعل التنوّع والاختلاف بمثابة تتويج للتدبير الالهي للكون بعيدا عن كلّ تعصّب أو انغلاق ديني يقصي الغير ويرفض التعايش، لهذا يبدو إمّا من سوء التقدير التعامل مع الإسلام على أساس قطري، وإمّا لتقدير مقصود يدافع عن مرجعية لا تمتّ للإسلام بصلة. ( أمّا من سيتعلّل بوجود الفرق والمذاهب في الإسلام فإنّه أبعد ما يكون عن السياق الذي نحن فيه ولا يريد بذلك إلاّ الخروج عن الإطار الفعلي الذي نحاوره فيه كما هي عادته). الخصوصية المميّزة للإسلام هي الباعثة على النظر إليه من زاوية مغزاه الكوني على نحو يقبل الاختلاف ويحمي التنوّع ويدافع عن المظاهر الأصلية في الوجود التي لا تستقيم دون كثرة وتعدّد. وهنا أستحضر ممّا طالعته لأستاذنا الجليل الدكتور عبد الوهاب بوحديبة قوله بصورة بليغة ودقيقة: "لا تعتبر النظرة الإسلامية للعالم التعدّد والتنوّع البشريين من قبيل الحوادث التاريخية أو العيوب أو الانحرافات ولا من قبيل أسوأ الاحتمالات، بل تعدّهما مظهرا من تدبير الله للعالم، ولو شاء لخلق الناس على نفس النمط الموحّد. ولكن اقتضت حكمته اختلاف البشر وتعدّدهم في الكون إزاء سُمُوِّهِ ووِحْدَانِيَّتِهِ". يقول الحقّ تبارك وتعالى:”وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّ مَن رّحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ“ (سورة هود 118-119) هكذا لا تبدو مقولة "الإسلام التونسي" في محلّها، وليس هناك ما يدلّ على أنّها مقولة بنّاءة، بل على العكس من ذلك، نجدها تحمل من التهديم والتدمير ما يجعلها أبعد ما يكون عن التأسيس. الأمر الذي جعل بعض الخطابات التي تسوّق لفكرة استبداد الإسلام و التخويف منه وإظهاره على أنّه رؤية استبدادية للحياة والإنسان، تغلّب الغنم السياسي على الاعتبار العقائدي وتخلط بين هذا وذاك على نحو قد يكون مقصودها منه في الظاهر خصم سياسي غير أنّه انزلق في تصوّرات غريبة عن الإسلام إن لم تكن مسيئة إليه بشكل أكيد. لا يمكن أن يكون استهداف العمق الإسلامي للإنسان والحياة في مجتمعنا هو الحلّ تحت أيّ عنوان، وحتّى مزاعم الوسطية والاعتدال التي يتعلّل بها هؤلاء، لا يمكن أن يستعملوها بمنزلة الحجج، لأنّ الإسلام ذاته دين الوسطية، ولأنّ الإسلام منذ ظهوره قام على الاعتدال، فهل يُعْقَلُ أن نسمع اليوم من يقول إنّ "الإسلام التونسي" وسطي ومعتدل؟ أعتقد أنّ السبب الرئيس المتواري خلف هذا الإدعاء هو الرغبة في الحفاظ على مرجعية النظر للحياة وللإنسان على النحو الذي يخدم مصالح حداثة مستوردة وتقدّمية مغلوطة. وما ترانا غنمنا من هذه المرجعية غير التفكّك على مستوى شخصية الفرد وتذبذبه، غير تصدّع لبنية الأسرة وتعطّل وظيفتها التربوية، وتشتّت وحدة المجتمع وانقسامه. وفي إطار كلّ ذلك: هل نعدّ الإسلام مصدر هذا الذي حصل ويحصل اليوم؟ هل بات الإسلام مشكلا لنا اليوم أم أريد له أن يكون مشكلا حتّى وإن كان حلاّ لمشاكلنا؟ إنّنا نحتاج اليوم إلى استعادة الصورة الأصلية عن الإسلام الذي رضيه الله للمسلمين بعيدا عن التشويه الذي روجت له الدوائر الغربية وممثلوها بالداخل،تلك الصورة التي ترتقي بالإنسان إلى أعلى منازل التكريم وتبوئه مركز الكون. إنّنا نحتاج اليوم إلى أنّ نستعيد وحدة الإسلام كما أرادها الله منذ بعث رسله إلى الناس أمّة بعد أمّة، إنّنا نحتاج اليوم إلى أنّ نستعيد حقيقة الأمة الوسط بالتعبير القرآني، تلك الأمة التي جعلها الله خير أمّة أخرجت للناس، وجعلها شهيدة على الناس. وفي تقديري أنّ تلبية هذه الحاجات وتحقيق المبتغى منها رهين العمل على تفكيك بنى الاستبداد التي ما زالت جاثمة بآلياتها ووسائلها ومختلف تقنياتها التقليدية على المجتمع ومتغلغلة في لاوعي العديد من شرائحه دون تخصيص. هذا العمل التفكيكي لا ينطلق إلاّ عبر خلق آليات جديدة قادرة على بعث وعي جديد قادر على التحرّر من الخوف الذي زرعه فيه كلّ من يقطع مع تاريخ الأمّة الذي في رأيه يشدّ إلى الماضي ولا يبني حاضرا، مع أنّ الحاضر ذاته ليس سوى مشروع لكتابة تاريخ المستقبل. فما غاب عن هذا الرأي هو أن يكون حبيس ماض من صنعه ومن نسج خياله أكثر ممّا يوجد داخل نسق حيّ لا يفصل بين ماضٍ حاضرٍ على نحو ما في مستقبلٍ لا نستطيع كتابته إلا عبر الحاضر. هكذا تكون كتابة تاريخ المستقبل بالمعنى الحقيقي، وهكذا يمكن أن تتشكّل بعض روافد صناعة حداثتنا وبناء تقدّمنا على نحو ذاتي لا يمنحه لنا الغير ولا يمنّ به أيّ قطب مهما إدّعى حداثته وتقدّمه