بقلم وسام الأطرش يبدو أن ما بقي من فتات "هيبة الدولة" المهترئة قد تآكل بعد موجة الأحداث الأخيرة التي شهدتها تونس، والمواقف المضطربة التي ميزت الحزب الحاكم ومسؤوليه في الدولة أكبر دليل على ذلك فضلا عن تأكد حالة فقدان جهاز المناعة ضد الهجمات الإرهابية، وكأن الأمر أسند في النهاية إلى الشعب كي يذود عن نفسه بنفسه دون أدنى تدخل أمني أو عسكري، ما يجعل الحديث في الإعلام عن عمليات استباقية ضد الإرهاب ومنفذيه مجرد ذر للرماد في العيون. فبعد المهازل التي قام بها وزير الخارجية الطيب البكوش في رحلة بحثه عن "الفيزا" ونجاحه الباهر في اختلاق الأزمات الدبلوماسية المتتابعة، وبعد التداخل العجيب بين مفهومي الحزب والدولة لدى شخص محسن مرزوق الذي صار يوقع الإتفاقيات الإستعمارية نيابة عن رئيس الدولة، خرج الزعيم المفدى والأب الروحي لحملة لواء "النخلة الحمراء" من قرطاج، لينتقل على وجه السرعة إلى مدينة سوسة حيث تم استهداف العشرات من السياح ضمن عملية القنطاوي الإرهابية بل الإجرامية، ليمسح دموع أبناء الجالية الأوروبية ويرفع من معنويات نسائها المصدومات من هول الحادثة، خلافا لما حدث منذ أيام قلائل حين تعلق الأمر بوقوع ضحايا من بني جلدته في حادث اصطدام قطار بشاحنة نتيجة غياب الحواجز المجاورة للسكة، حيث حجبت السحب شمس الباجي قايد السبسي على منطقة الفحص فلم تسطع على أهل بلده يوم تطايرت أشلاء المسافرين،وغابت بكسوف شمسه دموع التماسيح التي كان يذرفها على غلاء الأسعار أيام حملته الإنتخابية. أما لماذا حركت دماء الأجانب ولم تحركه دماء أهل البلد وأشلاؤهم المبعثرة نتيجة تخاذل "دولة الحداثة" عن رعاية شؤون الناس، فالإجابة موجودة لدى حكومة الرقص على جثث الضحايا والشهداء، حيث جاءت منذ مدة على لسان وزير الصناعة السيد حمد زكرياء حين أكّد تلقيه لمكالمات من قبل سفراء الدول الأجنبية أعربوا من خلالها عن قلقهم من وجود حملة "وينو البترول" في تونس. ولذلك، لم يلبث السبسي في تعليقه على عملية القنطاوي الإجرامية إلا أن يردد كلام مستشاره مرزوق (الذي منعه من مرافقته يومها لقاؤه بسفير أمريكا) قائلا: "هذا ما جنته علينا حملة وينو البترول". "الفرضية الوحيدة التي تكون فيها حملة وينو البترول متسببة في الإرهاب، هي أن دول الشركات الناهبة لثرواتنا أرادت إيقاف الحملة التي هددت مصالحها، فكلفت مخابراتها بالتصرف". هذا ما أكده المحامي سيف الدين مخلوف تعليقا على تصريح السيبسي. ومن هذا التصريح الخطير، بدأ التوظيف السياسي للجريمة النكراء التي حصلت يوم الجمعة الماضي في سوسة، من قبل قائد القوات المسلحة في تونس أعلى منصب في هرم السلطة، فوجدناه منشغلا عن حيثيات الجريمة ومن يقف وراءها تخطيطا وتنفيذا متجنبا المساءلة والمحاسبة عن حالة الفراغ الأمني التي يسرت حدوثها، وعن كيد المتربصين من الدول الغربية التي ينتمي إليها الضحايا، ليقوم بتصفية حساباته مع خصم سياسي صاعد في تونس هو حزب التحرير محاولا استغلال منصبه وأجهزة دولته العتيدة، فيدعو ودون حياء إلى مراجعة تراخيص الأحزاب التي ترفع الرايات السود، في ترفّع واضح عن ذكر اسم حزب التحرير، وإن كان شرفا لهذا الحزب أن لا يذكره عاجز برتبة رئيس دولة. هذا التوظيف الرخيص لم يقف على رئيس الدولة، لتنتقل حمى "فوبيا حزب التحرير" إلى رئيس الحكومة، الذي ذكرنا بمناسبة عملية القنطاوي الإجرامية أن لديه ملفا حول هذا الحزب وأنه سيطبق القانون، فكان في الموعد ليؤكدأنه أسد علينا وفي الحروب نعامة، فيما أضاف مرزوق إلى"تطبيق القانون" تلك الكلمة الرنانة التي تنبأ باقتراب موعد خلعه "بكل حزم". طبعا، أُمْنِية القضاء على حزب التحرير ومنع نشاطه بصفة نهائية لم تكن وليدة اللحظة، ولا نتاجا للعملية الإرهابية الأخيرة، وإنما هي رغبة دفينة في نفوس الحاقدين على مشروع الإسلام السياسي عبر عنها في لحظة صدق نيابة عن أسياده محسن مرزوق (الحزب) عشية مؤتمر قبة الهرج والمرج، وطالب السلطة بتطبيق القانون واسترجاع هيبة الدولة ليقوم لاحقا السيد محسن مرزوق (الدولة) بالإستجابة لمطالب ودعوات الحزب الحاكم. هذا هو الحزب الحاكم إذن، وهذه هي "الهيبة" التي يتعسف عليها السبسي لإلحاقها بالدولة ! أما عن الأبواق الإعلامية المناضلة في سبيل تثبيت نخلة النداء واقتلاع راية التوحيد من أرض الزيتونة، فراحت تعدد إنجازات الحكومة الجديدة وتتمسح بالقرآن بعد إعلان الحداد، حتى يظن المتابع لوسائل العهر الإعلامي -إلا ما رحم ربي- أن الثورة لم تندلع في تونس إلا من أجل غلق المساجد ومنع كل ما له صلة بالمشروع الإسلامي. إن ورطة مضاددة الطرح الإسلامي القائم على وحدة المسلمين في عقيدتهم وإمامهم ورايتهم ودولتهم ليست جديدة على الأحزاب العلمانية القطرية الفاقدة لأي رؤية استراتيجية على المستوى الإقليمي والدولي، وهي بالنسبة لمن يستميت في الدفاع عن الديمقراطية والدولة المدنية في إطارها المحلي الضيق المكرس لبقاء بل تمدد النظام الرأسمالي العالمي ورطة محمودة منشودة لا محالة، ولكن الورطة الكبرى التي سقط في شراكها الحزب "الأغلبي" الحاكم في تونس، هي طبيعة العلاقة المضطربة التي أنتجتها عنجهيته في التعامل مع الدول المجاورة، حيث نجح وفي ظرف وجيز في عزل تونس عن محيطها الإقليمي، والأخطر من ذلك كله تقديم البلد على طبق من ذهب للأجندات الإستعمارية المتهافته. فهاهي العلاقات الدبلوماسية مع الجارة الليبية قد انقطعت أو توشك على ذلك، دون أن يكترث وزير خارجية حكومة الفشل الذريع بمصير مائتي ألف تونسي هناك بل دون الإعتبار من درس اغتيال نذير وسفيان، وهاهي الجزائر تسحب سفيرها من تونس ولأول مرة احتجاجا على تنطع دولة الندائيين بعد ازدواجية خطاب السبسي في تعامله مع قوات فجر ليبيا وتضارب مواقفه الرسمية منها، ثم بعد رهن البلاد لقوات حلف شمال الأطلسي على يد من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يُحسن صنعا مُحسن مرزوق، هذا دون الحديث عما سينجر عن هذه الظروف الشائكة من وضعيات مقلقة في مجالات الأمن والديوانة والجيش وخاصة في المناطق الحدودية. فهل يظن السبسي أنه بتقربه للجزائر عبر التهجم على حملة "وينو البترول" سيعيد المياه إلى مجاريها؟ بعد هذا الكم الهائل من الملفات المتروكة جانبا فوق الرفوف، يريد حفنة من العاجزين التفرغ لحزب التحرير قصد شيطنته وجعله أم المشكلات في البلاد، مع أنه لا صلة له بمن أعلن رسميا وجود عناصر لنقابته الأمنية ضمن تنظيم داعش العالمي، حتى غدا هذا الحزب اليوم الشماعة التي تعلق عليها الحكومة كل مظاهر عجزها وفشلها، بداية من وعود التشغيل والتنمية مرورا بملف الإرهاب الذي أسقط في يديها ولم تكشف حقيقته إلى الآن، ووصولا إلى السياسة الخارجية التي صارت سياسة كارثية لا تنبئ إلا بصور أليمة من التدخل الأجنبي المباشر. ليترك أمر التفنن في تشويه الحزب لاحقا لأهل الذكر في تضليل الرأي العام، حيث تُنعت راية التوحيد التي تجمع كل المسلمين شرقا وغربا براية داعش، ويُختزل المشروع الحضاري للإسلام في التجربة الداعشية، فيظل غباء إعلامنا "المحايد" باق ويتمدد! ختاما، حالة الفراغ الأمني والسياسي التي نعيشها اليوم، والتي لم يسبق لها مثيل في تاريخ تونس تلخص حجم الورطة التي يمر بها السبسي وزمرته، ولن يشفع لمن رد إلى أرذل العمر ولم يتعظ من الموت حلف شمال الأطلسي أو غيره، بل تشفع له كلمة لا إلا إلا الله التي يعاديها في رايةٍ رُفِعت أو خُطبةٍ سُمِعت...