بقلم ابو محمد سفيان ما زال السّقوط الحرّ للثورة في جبّ أبالسة السّياسة متواصلاً. تثبت الأيام أنّ هذا الجبّ بلا قاع، لأّنّهم بلا روادع أخلاقية. كنا نحسب أن مخاض الثورة يصنعُ مسارها، لكن المآلات تثبت أن الطريق كانت مرسومة ومعبّدة لعودة كهنة معبد الديكتاتورية. ولعل ما سمي ب "قانون المصالحة" يدل بأنهم بدؤوا مرحلة الحصاد. وهو في الحقيقة (بعد نفض رماد الميديا الذي يملأ العيون) تتمّة ل "الخديعة الكبرى"، هذه الخديعة هرم ذو ثلاث طوابق: الطابق الأول: إحباط تمرير "قانون تحصين الثورة" كان أكبر خطر يتهدّد نظام بن على ليس سقوط رأسه، بل خسارة ميكانيزمات الحكم. و لذلك اشتغلت الآلة الرهيبة (التّي كانت تحكمنا قبل 2011 و بقيت بعده لكن بمساحيق ثوريّة) في كلّ الاتجاهات، فكُتِبَتْ معلّقاتٌ وثبّتت على صحائف كعبة الإعلام تتحدّث عن "حق النّشاط السّياسي كجزء من المواطنة وأن سلبه هو سلب للمواطنة" متناسين أنّهم سلبوا هذا الحق لنصف قرن لكل من يتنفّس هواء غير هوائهم. وتناثرت في نفس الوقت الطّلقات المحذّرة من مروره، فأسالت دماً زكيّاً من جنود و سياسيين (الشهيد الحاج البراهمي اغتيل ليلة تمرير القانون لمن نسي)... الطابق الثاني: الانتخابات كاذبون من يعلّلون وقوفهم ضدّ "قانون تحصين الثورة" على أنّه وُضع لإقصاء العجوز الهرم. كان همّهم الحقيقي أن ينقذوا آليّات النّفوذ التّي ستخدمهم في استرجاع حصون الحكم، أن ينقذوا أدوات السّطو على الأصوات، أدوات وضعت في الدّهاليز ليعاد شحذها بعد حين. بعد أن نجحوا في إسقاط القانون، خرج فيلق سحرة فرعون مرّة أخرى ليوهموا النّاس بسحرهم، وأنّ المومياء لها سرّ عظيم يحول دون فناءها، لكن زماننا لا نبيّ فيه كي يسقط أراجيفهم، فامتلأت العقول بما يخرجه كل ساحر أخذ يوهم النّاس بأنّهم سيقضون على الإرهاب في بضع شهور، أو يبشّر النّاس بالمليارات التي ستتدفّق على الخزينة إن نُصِّبوا، أو يَعِدُ بمنزل دون فائض لكلّ مواطن.. تفانيهم في التّحيّل كان مردّه أيضاً ذلك العطاء الجزيل من دوائر النّفوذ المالي الذين ترعرعت ثرواتهم واشتد عودها في سنوات النّهب والسّلب من العقدين الأخيرين قبل الثورة مع "السارق الأكبر" بن علي. الطابق الثالث: "قانون المصالحة" أو في رواية أخرى "بوس خوك..السّارق" هو زمن القطاف، بعد أن عاد لهم صولجان الحكم. وهنا، سينال كلّ متواطئ في الخديعة أجره وأوفى. فبعضهم سيأخذ "أوسمة"، والبعض الآخر سيأخذ "مواقع في الحكم"، أما أرباب المال والفساد فسيسنّ لهم "قانون على المقاس". قانون يلبس جلباب المصالحة وهو ليس سوى إبطال لمفعول عزل اللّصوص الذي فرضته الثورة، وتقنين السّرقة وشرعنة للنّهب. صائغ المشروع قرأ جيّدا كتاب ابن الجوزي "تلبيس إبليس" فتفنّن في إلباس كلّ سمّ زعاف رداء البلسم والدواء، فأصبح السّارق رجل أعمال وأصبحت خيانة المؤتمن خطأ إداريّاً، وأصبح التسليم في الحقوق مصالحة. سأتلوا بعض خصاله لعلّي أخلع عنه ثياب العفاف الكاذب و أعرّي "إرادة التّوحش" التي تتّبناها الدولة تجاه رعاياها المستضعفين: - في طيّات هذا القانون، السلطة التنفيذيّة تسطو على صلاحيّات السلطة القضائية وتصبح خصماً وحكماً في آن واحد. - في فصل من فصوله، يعطي هذا القانون مقاليد الفصل في كلّ قضايا الفسّاد للجنة متكوّنة من ستّة أعضاء، أربعة منهم من السّلطة التنفيذية واثنان من هيئة الكرامة (للتمويه)، ثمّ يذيّل الفصل بملحوظة تفوح منها رائحة التواطؤ، الملحوظة تقول أن قرارات اللّجنة تعتبر نافذة و النّصاب قانونيّاً إن حضر أربعة أعضاء من ستّة، أي ممثّلي السلطة التنفيذية (و هم من فئة عبد المأمور) سيحتكرون القرار و ستسوّي كل الملفات. - القانون يسقط الأحكام السابقة بمجرّد إتمام الصّلح مع اللّجنة ولا يحقّ تتبعهم في المستقبل. - مهل الإجابة على كل ملفّ ثلاثة أشهر و في أقصى تقدير 6 أشهر، و هي فترة تأكّد أنّ اللجنة ستكتفي بما يصرّح به المعتدي على الحق العام، إن كان من الإدارة أو من السرّاق ( معذرة رجال الأعمال) لأن مهل كهذه يستحيل فيها القيام بتدقيق في الدوائر المالية والإداريّة (بعض عمليّات التدقيق تأخذ سنين) خاصّة أن عمليّات التحيّل كانت تتحقّق بصيغ و أنامل قانونية. - كلّ المعطيات و المعلومات ستبقى في كنف السرّية لدى اللجنة و لا تنشر، مما يعني انتفاء المكاشفة للشعب، و هذه اللّجنة ستتستّر على كل مفسد. يا لهول القانون، نحن أمام دولة ادّعت بهتانا أنّها تقاوم الفساد و - تحت بند فشل مساعيها- أسّست له مسالك و أطراً. ماذا سنقول لأبنائنا وعلى ماذا سنربّيهم إن كنّا نعيش في دولة تعطي صكوك الأمان لكلّ مرتش وكل مدلّس وكل سارق؟ في ديننا الحنيف "الزّكاة واجبة على الغنيّ لتعطى للفقير"، جاءت حكومتنا البهّية لتجدّد في تأويل النّص فتصبح "الزّكاة واجبة على الفقير، ليعين الغنّي السّارق على التوبة".