هام: انخفاض أسعار هذه المنتوجات..    عاجل : ايران تعلن عن تعرض مروحية تقل رئيسها الى حادث    الأهلي المصري يعامل الترجي بالمثل    عاجل/ الرصد الجوي يحذر من حالة الطقس ليوم غد..    الحرس الوطني: هذه آخر المعطيات المتعلقة بالهجرة غير النظامية    القنصل العام للجزائر في زيارة الجناح الجزائري بالصالون المتوسطي للفلاحة والصناعات الغذائية    سفيرة الامارات في زيارة لصالون الفلاحة والصناعات الغذائية بصفاقس    صفاقس ولي يصفع معلما ويلوذ بالفرار    العاصمة: وقفة مساندة للرئيس قيس سعيد    الجمعية النسائية ببرقو تصنع الحدث    طقس الاحد: امطار غزيرة وتساقط البرد بهذه المناطق    اليوم : انقطاع التيار الكهربائي بهذه المناطق    السيارات الإدارية : ارتفاع في المخالفات و هذه التفاصيل    نابل: اختتام شهر التراث بقرية القرشين تحت شعار "القرشين تاريخ وهوية" (صور+فيديو)    هيئة الانتخابات تشرع غدا في تحيين السجل الانتخابي    إطلاق نار واشتباكات قرب القصر الرئاسي في كينشاسا    صيف 2024: 50 درجة منتظرة و شبح الحرائق حاضر    علماء يكشفون : العالم مهدد بموجة أعاصير وكوارث طبيعية    إضراب بالمركب الفلاحي وضيعة رأس العين ومركب الدواجن    نابل: تضرّر ما يقارب 1500 هكتار : «الترستيزا» مرض خفي يهدّد قطاع القوارص    أخبار النادي الإفريقي .. البنزرتي «يثور» على اللاعبين واتّهامات للتحكيم    بفضل صادرات زيت الزيتون والتّمور ومنتجات البحر; الميزان التجاري الغذائي يحقّق فائضا    يهم مُربّيي الماشية: 30 مليون دينار لتمويل اقتناء الأعلاف    اليوم : وقفة احتجاجية للتنديد بالتدخل الاجنبي و بتوطين أفارقة جنوب الصحراء    طقس اليوم ...امطار مع تساقط البرد    الأونروا: 800 ألف فروا من رفح يعيشون بالطرقات.. والمناطق الآمنة "ادعاء كاذب"    في عيده ال84.. صور عادل إمام تتصدر مواقع التواصل    بغداد بونجاح يحسم وجهته المقبلة    الجمعية التونسية "المعالم والمواقع" تختتم تظاهرة شهر التراث الفلسطيني    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    في إطار تظاهرة ثقافية كبيرة .. «عاد الفينيقيون» فعادت الحياة للموقع الأثري بأوتيك    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    نهائي دوري ابطال إفريقيا: التشكيلة المتوقعة للترجي والنادي الاهلي    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    داء الكلب في تونس بالأرقام    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقف والارهاب في تونس
نشر في باب نات يوم 25 - 08 - 2015


أ.د. علي الشابي
جامعة تونس،
من أهم ما لفت انتباهنا خلال السنوات الاخيرة نمطيةُ قراءة ظاهرة الارهاب في تونس ذلك أنَ بعض المثقفين لم يستغلّوا الاستغلال الامثل لما وفّرتهُ علوم المناهج من وسائل التحليل فبدت بعض مواقفهم مجانبة للموضوعية أو متغافلة عن جوانب هامة من عوامل الارهاب لفائدة جوانب أخرى أقلّ أهمية. وفي هذا السياق نطرح منهجية تؤطر ظاهرة الارهاب في علاقة بدور المثقف في تونس خلال المرحلة الانتقالية. ومن هذا المنطلق نتخذ بالدرس ابستمولوجيا التطرف في تونس بعد تشخيص الاطار الاجتماعي والسياسي خلال المرحلة الانتقالية ثم ننتهي الى بعض التوصيات المنهجية لتحليل ظاهرة الارهاب.
مسافة المثقف من السطحيات
في السنوات الاخيرة برز في تونس العديد من الفنانين والجامعيين والسياسيين والخبراء ورجال أعمال أثّروا في صناعة الرأي وتوجيه مسار البلاد وشأنه العام الى منحى قابل لكل السيناريوهات. وإذ نعم بحرية التعبير وإثبات الذات البعض من الذين لم يُعرف عنهم توقٌ لها فانه بات جليا انه كلما ابتعد المُغني اوالكوميدي عن الفنّ وأصوله والجمالية وعمقها والابداع وشروطه و" فلسفة الهزل " وعمق معانيها ، كلما برز للعموم وعلا شأنُه. وكلما ابتعد الخبير عن ميدان الخبرة كلما أصغت له الآذان ونُشرت آراؤه. وكلما خان المتخصّص معارفه واستقلاليته الفكرية كلما حضي بتعاطف عموم الناشئة وبسطاء العقل.
يفيد علماء الاجتماع والتاريخ بان التشكيلات الاقتصادية والاجتماعية تسودها نواميس تحدد ديناميكيتها ومصيرها. ولإنْ اختلف بعضهم حول فحوى هذه النواميس فإنه من المُتّفق عليه ان الشعوب التي لا تكتب تاريخها بارادتها ولا تنظر لواقعها موضوعيا بأعين نخبها المطالبة بالدفاع عن ثوابتها ومقوماتها وبالنأي عن تآكلها وانقسامها وبتوسيع دائرة حرياتها ) حيث يكون الفرد محققا لذاته وصاحب دور في تغيير حاضره لا ذلك الخانع المغترب (، فإن مآلها الزوال وإن بقيت في انتظار مصيرتعصف به رياح سطحيات المسائل ومتاهاتها.
ومن المفارقات ان الانسياق وراء سطحيات المسائل مثل خصوصيات الافراد أوجزئيات القضايا او اخبار عديمة اليقين، يستفحل حين يمرّ البلاد بمنعرجات خطرة مثل الارهاب او باستحقاقات مهمّه مثل الانتخابات أو تململ اجتماعي مطالبا بحقوق مشروعة أوعدم قدرة القائمين بالشأن العام على إدارته..
ومهما كان جزء التآمر من تزامن امّاهات القضايا مع السطحيات المسوّق لها هامّا فهذا لا يبررالبتّة انخراط بعض النخب في هذه الاخيرة. ففي هذه المناسبات يوضع دورالمثقف في المحك. اذ الفراغ االناتج من عدم انخراطه في قضيا المجتمع الهامة مكّن للعديد من السياسيّين من تصفية حساباتهم على حساب مصالح عموم الناس والانتهازيين من اكتساح مساحات من المفروض ان لا يعودوا اليها، والمناوئين من انتقاء جزء من التاريخ لتحديثه عبثا والمشوهين من تبييض خطاياهم. وهذا كان سببا في " عدم الثقة بالآخر " بل في اقصائه وفي اعتماد الحكم على نواياه و في الخوف من التفريط في مكتسبات خيالية تبلورت جرّاء الخلط بين العديد من المصطلحات وإفراغها من محتوياتها. فأصبح الفرد يبحث عن "ملجئ انتمائي" من خلاله يحدد ملامح ذاته وهويته ويحتمي به من مغبة التلاشي ويستعين به على فهم واقع سريع الاحداث عميق التاثير يُنبئُ بمصابرة مفروضة في المستقبل. فتجزّأت الخارطة الاجتماعية بأداة الاستقطاب السياسي الى ابعاد مختلفة حسب الهوية والمرجعية الثقافية بما تفضي اليه من قضايا متعلقة بالتعصب الديني واللائكية والحداثة والمرأة... وكلٌّ يدلو بدلوه في فضاء بقدرما اتسع للسُّذَّج وغير العارفين ، بقدرما ضاق بالعلماء والحكماء... فتعطّلت لغة الحوار وأضحى التواصل حول قضايا جماعية اصطداما بين مواقف حسمٍ مُسبق أفضى الى التوتر و الى التفاف كل طرف حول "ملجئه الانتمائي" أومصلحته المرتقبة. فتهاوى الكثير في حبال نظام لغوي تواصلي سطحي تتغذى مواقفه خارج دائرة اليقين ويُبنى توجهه وتقييمه للمرحلة على أساس انطباعي حيث جزء من النخبة لعب الدورالرئيس. ذلك ان عامة الناس اصبحوا أعوانا مرابطين وسفراء للاستقطاب السياسي الذي هو اجتماعي في آخر المطاف ، يسوّقُون للثنائيات المروّج لها.
ثنائية الفضاء الثقافي بين التهميش والمآرب السياسية
من الثنائيات المترسخة منذ بداية القرن الماضي هي تلك التي نشأت بإرساء المدارس والمعاهد العمومية غيرالقائمة على المناهج الزيتونية (علاوة على المهمة الثقافية للمستعمر والمؤتمرات الافخارستية التي كان يولي لها اهتماما) ثم ترحيل المتفوقين الى الجامعات الفرنسية حيث يستلهمون من القيم الأوروبية ما يكفي لكي تكون فلسفتهم و رؤاهم في المجتمع والسياسة والدّين مختلفةً عن تلك الخاصّة بالمتخرجين من المدارس التقليدية والذين لم تؤخذ مطالبهم بإصلاح التعليم مأخذ الجدّ منذ وقائع الجلازعام 1911 لا من قِبل المستعمرآنذاك ولا من قِبل السلطة إبّان الاستقلال التي اعتبرت الزيتونة جوادا خاسرا لايُراهَنُ عليه. ولأنّ التعليم كان ولا يزال الفضاء الأرحب لترسيخ القيم المجتمعية وارساء النمط الاجتماعي المنشود والتمكين من الترقي الاجتماعي دام محلّ تجاذب بين ذوي المرجعية المُحافِظة من تيارات اسلامية وعروبية تؤمن بعمق هويتها التي تعتبرها متجذرة في تاريخها و بمعاصرةٍ ترنو الى استرداد دور في الحاظر من جهة ، والتيارات اللائكية من جهة أخرى. تؤمن هذه الأخيرة بتحوّل القيم وتأقلمها مع متطلبات الواقع وانصهارها في منظومة قيمية معوْلمَة تمكنهم من دور تقدمي وتلك هي الحداثة في أدبياتهم. وحيث ان هذا التجاذب خلّف مواقف عنيفة طيلة عقود فقد اتسعت دائرته لتدرك الهوية والانماط السلوكية والاصلاحات التربوية والتعليمية. ولكن تختفي هذه المواقف العنيفة تارةً وتطفو على السطح كلّما تزعزعت ثوابت البناء الاجتماعي بأزمات سياسية واقتصادية حافظت الى يومنا هذا على طابعها الدوري. ولن ينتهي هذا النوع من التجاذب الثنائي (حداثة/تقليد) طالما يغذيه تجاذب أعمق وهو المتعلّق بتوزيع مصادر الثروة والإستحواذ على آليات تراكمها تحت مظلات مختلفة تتخذ من تعدد الشرعيات سبيلا لمآرب مصلحية وتجعل من المستقبل ملاذا لن تتحقق فيه المطالب الحقيقية لعموم الناس. فعلى المثقف الانتباه الى الانتقال الذي يبدو طبيعيا ولكنه ليس كذلك بين شرعيات مختلفة (شرعية الشارع وشرعية التوافق وشرعية الانتخابات وشرعية الدستور وشرعية الكفاءة وشرعية النضال..). إذ بعنوان "الذكاء المحلي" و"الابداع التونسي" و"المرونة في التعاطي مع مستوجبات الانتقال الديموقراطي" يتم التخلي على احدى الشرعيات لفائدة الأخرى وفق موازين القوى وكلما تهددت مصالح أصحاب النصيب الأوفر من رأس المال اوالمتربّصين بثروات البلاد اوالمستفيدين من فُتاتِ إدارتها والحالمين بغدٍ أفضل من هؤلاء حتى وان كان ذلك على حساب الكرامة كإحدى العناوين البارزة ذات يوم...
ومن هذا المنطلق افضى هذا التجاذب الثنائي الاجتماعي (اغنياء/فقراء) وهو الأعمق، الى تموقع سياسي لطالما عملت الأجهزة الإعلامية والإستراتيجيات التواصلية والمؤسسات الإحصائية على إخفائه وهو انقسام روّاد وصنّاع الرأي الى المنحازين الى المنظومة القديمة بما تمنحه من عوامل الإستثراء من جهة و المنحازين الى ‘'منظومة جديدة ‘' من جهة أخرى يؤمن روادها بالقطع مع الماضي وبالتصدي للتهميش والفقر والمحسوبية حاملين بالتالي ‘'لمشروع جديد'' . ولأن الشقّ الأول يصبح مهددا إذا ما أفصح عما يرتابه من تفريط في مواقعه، فقد تحالف عضوياًّ وموضوعياًّ مع من لم يندثروا سياسيا من "حداثيين" ليبراليين أو يساريين في الثنائي المذكور سلفا. فهؤلاء فضلوا الانحياز الى شق يعد بنمط مجتمعي "حداثي" بثمن عودة المنظومة القديمة، على الشق المولود من "رحم الثورة" والمُعتبر متوجها نحو نمط مجتمعي "محافظ" و"فاشلا" في ادارة البلاد. ومع تراجع غريمه وتنازله عن مواصلة التحدي فقد توصّل هذا الشق "الحداثي" الى تسويق ثنائية سهلة الإستصاغ من قِبَلِ جزء من النخبة وهي تلك القائمة على "فشل الحاملين لمشروع جديد"عند وصولهم الى الحكم من ناحية و"نجاح بديل في المستقبل" من ناحية أخرى ، جعل الأغلبية النسبية من الناس يلتفّون حوله ويمكنونه من الاستحواذ على آليات إرجاع الامورالى نصابها وتصدير الازمة الحالية متعددة الابعاد الى الخوض في معارك غير مؤكدة االحسم خصوصا الاقتصادية والإجتماعية منها.
وفي هذا الاطار الانتقالي الموصوف بتواصل التجاذبات الثنائية حيث الحلقة الاضعف كانت النخبة المثقفة التي فظلت التأمّل على الانخراط في حسم الثنائيات وتراجعت عن تأطير التحركات الاجتماعية وأضاعت إلى حد الآن فرصة الاضطلاع بأدوار تاريخية وكأنها تنتظر ساعة الخلاص، شهدت البلاد أحداث تصفيات جسدية ذهب ضحيتها العشرات من جنود وظباط وسياسين وسواح عبّر عنها بعض المثقفين دائمي الظهور عبرالاعلام بمواقف انطباعية يبحثون من خلالها عن الجاني وموجهين إصبع الاتهام للحكومة بالفشل وللتيارالديني بدعم الارهاب ورعاية ‘'السلفيين'' إبان الثورة ويطرحون التصدي لمظاهر التدين وظرورة السيطرة على أماكن التعبد وتقنين خطابها...إلى ان انتظم "مؤتمر المثقفين ضد الإرهاب" ليخلص مُنظّرُوه الى نفس التوصيات المصاغة للعموم سلفا في المنابرالاعلامية والحملات الانتخابية.
وفي هذا السياق نعتبر انّ القضيةَ منهجية بالاساس عندما يتحدث المثقف عن الارهاب. فدعنا نتأمّل فيه من هذه الزاوية.
ابستمولوجيا التطرف والإرهاب في تونس
يُعْرَفُ الارهاب بالتخويف الشديد لشخص او لمجموعة من الناس جراء استعمال العنف. وقد شاع استعمال لفظ الارهاب في العصر الحديث منذ الثورة الفرنسية كإرهاب دولة ولكنه استُعمل كذلك في النصوص القرآنية كأمر محمود أثناء الحرب لإرباك العدو وترويعه وتهوين قدراته. وفي التارخ إعتُمِد الارهاب أيضا من قِبل أفراد ومجموعات. فقد ارهب الخوارجُ الناسَ في عهد عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب. و مؤخرا برزت عصابات ارهابية وتنظيمات اجرامية قد تكون مدعومة بدول مثل اليد الحمراء الفرنسية والمافيا الايطالية ومنظمة ايتا الاسبانية والجبهة الوطنية لتحرير كورسيكا ومجموعة العنق احمر بأمريكا والمنظمات الصهيونية كالهاغانا، والإرجون وليحي وغيرها في حقبة تاريخية كان العالم العربي والاسلامي فيها تحت نيرالاستعماروالفاقة والجهل والوهن... فجُلُّ هذه التنظيمات الارهابية بِمُتدَيّنيها وعلمانييها مازالت قائمة الذات الى يومنا هذا وقد اتسعت رقعة أنشطتها وتمكنت من التصلب في رحم مجتمعات وأنظمة قد خطت مراحل متقدمة في الديموقراطية والرقي والرفاه الاجتماعي.
ولعل من المهم التذكير ببعض النقاط المنجية التي نراها أساسيةً لتأطير قضية الارهاب في تونس :
أولا : وجب االبحث في العلاقة بين المُرهِب والضحيّة لا العزل بينهما والسقوط في مأزق منهجي لا يرتقي بعِلْمِيّة الخطاب. هذا ما تذهب اليه المدرسة البنيوية من مبدإ ‘'أسبقية العلاقات على العناصرالتي تربط بينها'' (ل.لويس ألتوسير،و ج. لهوم وج. ب. سارتروغيرهم.. (.. فبالرغم من محدودية هذه المقاربة فإننا نرى أنّ لها مزايا بالنسبة الى تلك القائمة على عزل مكونات الواقع والتعاطي مع كُلٍّ منها على حدى مما يجُرُّ المتأمّل في الظواهر الى بترها وربما الى حجب أهمّ أجزائها. فبالنسبة الى دواعي الارهاب لا يمكن اختزالها في الفقر أو الجهل أو المآرب السياسية. وأما عن تداعياته لا يصحّ الاقتصار على الخسائر الاقتصادية أو الآثار المجتمعية. وأما بالنسبة إلى التوصيات، لا يستقيم الوقوف عند التعاطف مع أهل الهالك أوالانتشاء باستثمارالحدث سياسيا لنفي طرف معيّن أو تطويق البلاد أمنيا يصعب التراجع عنه.
ثايا: بالرجوع الى غاستون باشلار يمكن التفريق بين الافراد على أساس علاقتهم بالمحيط الاجتماعي : (1) فمنهم من يتموقع داخل المجتمع ونواميسه بحيث تنعدم ارادته لفائدة الأعراف الاجتماعية السائدة ويصبح حينئذ مُغترَبًا إجتماعيا بحيث لايُنتظرُ منه إلا المساهمة في اعادة نفس المنظومة الى ما هي عليه بدون الاستقلالية بالفكر ودون التجرء بتحمّل مسؤولية الخروج على المعهود إن اقتضى الأمرودون قراءة نقدية للارتقاء بالواقع وانتاج التاريخ، (2) ومنهم من يتموقع خارج المجتمع وأعرافه مثل الطفل الصغير الذي لم يطور بعد آليات التنشئة الاجتماعية مختزلا الكون في قدراته المحدودة (من حيثُ التجريدُ والتنسيب والمفاهيم والنظام اللغوي بمعنى لودفيغ فيتغنشتاين) في إدراك جوهرالواقع ، فيستلهم تصوراتِه غيرَالمؤطرة من فهمه الذاتي للمعطيات ليفرضها على محيطه الاجتماعي وكأنها حقيقةٌ مطلقة يشعر جرّاء عدم الاعتراف بها إجتماعيا بالتهميش والعزلة وبظرورة استرجاع حقّ قد نُهب. ومثله كذلك ذلك الباحث المبتدئ الذي لم يتمكّن بعدُ من علمه ولم يقدّر ما لا يعلمه، فيعتبر ما تعلّمه حقائقَ "نهائيةً". فتجده كثير الحسم في قضايا معقدة، قليل الاستعداد للتواصل، رافضا للطرف الآخر. ومنه ينشأ الدكتاتور والمستبد والمتطرف والمتعصب والرجعي والظلامي والمتخلف حتى ولو استعمل أحدث التكنلوجيات لأنه يسقط في مغبة "لا أُريكم إلاّ ما أرى" وهي نوع من أنواع التوحّد. فالقاسم المشترك بين هذه التمظهرات هو فرض إقتصارالمسافة مع المحيط الاجتماعي المتصل به وهذا هو معنى العنف الذي يختلف من اللفظ بإهانة الانسان وعدم احترام ذاته الى الصورة المتضمّنة لِمَعانٍ ورسائلَ لا يقدر الناس على مواجهتها الى انتهاك الحرمة المعنوية والجسدية للافراد قصد تطويعهم لشأن معين ، إلى حرمانهم من حقوقهم بنوعية الاكل والشرب ونمط اللباس والحياة الكريمة. فبقدرما يستقوى المتطرف بقدر ما يكون العنف أشدَّ وطأة على الناس وبقدرما يُرهب هؤلاء، (3) وأخيرا، منهم من يتموقع في منزلة بين منزلتيي داخل المجتمع وخارجه ويكون مآله وفق إرادته من عدمها في التخلص من انواع الاغتراب وقدرته على الارتقاء بالواقع نحو انسانية أرقى اعتماداعلى تعريف ابن سينا للحكمة بأنها استكمال للذات البشرية. إذ كلما ابتعد الانسان عن إنسانيته كلما اقترب من صفة الحيوان بصراع من أجل البقاء يخوضه بغرائزه من شهوات وعنف وسيطرة ونفي الآخر. وكلما ارتقى بانسانيته كلما سما مبتعدا عن الحيوانية وتعمق في جواهر الاشياء باستقراء أو استنباط النواميس التي تسودها، كلما سيطرعليها وطوَّعَها لإرادته وقبِل "الآخر" بإنسانيته.
بما ان العلم هو البحث في جوهر الاشياء ولا وجود له خارج المجتمع، وهو السبيل الوحيدة للتّخلص من الإغتراب (أو الاستلاب) لتحقيق الذات بالارتقاء الى أسمى درجات الإنسانية، كان لازما تحديد نوع الاغتراب الذي يتغيّر من مجتمع الى آخرحتى يتسنى فهم خصوصياته وعوامل ارتباطه بالتطرف والارهاب. وحيث أنّ هذا المبحث يمكن تناوله في إطار أرحب، نقتصر هنا بالقول إنّ أهم أشكال الاغتراب الاجتماعي عبر التاريخ قد تغيرت بتقدّم العلم، فانتقلت من "الوثنية اللاهوتية" الى "العصبيّة القبليّة" ثم الى "وثنيّة السّلعة" في المجتمع الرأسمالي الحديث. فمنذ ظهور الرأسمالية المتزامنة مع حقبة الحداثة الاولى شهد التاريخ أول تشكيلة اقتصادية واجتماعية قائمة ضرورةً على قاعدة جغرافية عالمية، حيث تلعب الدولة دورا أساسيا في إعادة توالدها وبسط شبكتها متعددة الابعاد متجاوزةً التنوّعات الثقافية الموجودة. أما عن التشكيلات الاجتماعية القديمة (القبلية والعشائرية) التي مازالت قائمة فقد تراجع دورها في أهمّ التحولات التاريخية التي شهدها العالم الحديث وباتت كياناتٍ عبارةً عن أطلال تجاوزها الحاضر و خاضعةً الى موازين قوى أعظم. و تقوم هذه القوى في ظاهرها على المبادء الانسانية المطلقة من حقوق الانسان ومن عدم المسّ من السيادة الوطنية للدول... وفي باطنها على تجاذبات جغراستراتيجية تدفعدها المصالح. إذ احترام المواثيق الاممية ليست القاعدة المُتَّبعة في كل الحالات مثل إحتلال فلسطين و إحتلال العراق بدعاوٍغير ثابتة والانقلابات العسكرية و التصفيات العرقية سواء في البلقان لعقد من الزمن أو في البورندي حاليا..إنّ شعوبَ ونُخبَ هذه المناطق والمناطق المؤهلة لنفس المصيرلا يمكن لها ان تنأى بنفسها عن مخاطر تعدد المكاييل ففقدت الثقة بالؤسسات الاممية واستصغرت حجم قاداتها السياسيين خصوصا عندما تكون إدارتهم للشأن العام فاقدة لمشروع مجتمعي يراهن على المواطن ويثمن طاقاته ويجعله المنطلق والغاية. بل إن الطبقة الحاكمة لطالما أخفت فشلها الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي بوسيلة الاعلام والسفسطة والتّصحرالثقافي والتمسك بالحكم وتصدير الازمات وترسيخ مقاييس النجاح الاجتماعي القائمة على منطق صوري جاف يقتصر على ظواهر الامورالمعيشية واللجوء آليا إلى الحل الامني. فينعدم التواصل بينها وبين جيل "مجهول المعالم" ومتعدد المرجعيات (باعتبارعالمية المجتمع الرأسمالي وشبكاته المشار إليها آنفا) فاقد لمقومات الكرامة ومتحمل تبعات التجاذبات الثنائية المذكورة أعلاه و ينتظر غدا أسوء. ومن هنا تتعدد المسارات للافراد والمجموعات. فمنهم من يتشبّع بالمنطق السائد وينخرط في المنظومة ويصبح أداةً لها، ومنهم من يمضي خائضاً لمعارك مبدئية نادرة الانتصارات ولكن باهظة الثمن، ومنهم من يتطرف اويكون فريسة لتيارات أو مجموعات متطرفة حيث تلتقي المصالح.
محدوديّة البحث عن الأسباب الفورية للارهاب
أجمع جزء من النخبة على حصر موجة الارهاب التي شهدتها تونس منذ 14 يناير في الظروف الاجتماعية والمعيشية القاسية والفهم الخاطئ للدين الاسلامي وتنكروا حتى للمظاهر''السلفية'' للتدين معتبرين اياها مظاهر تشدد واستشهد بعضهم بضرورة نفي الشريعة والاحاديث النبوية كمصادر لفهم الاسلام إعتمادا على ما ذهب اليه المؤرّخ محمد الطالبي من فصل بين والنص القرآني وما أسماه ‘'الشريعة'' لفهم الدين. ودون الخوض في مدى وجاهة هذا المنحى المنهجي الذي يدعو الى تساؤلات أكثر من أن يقدّم أجوبة لجوهر الارهاب، فإننا نعتبران كل خطاب علمي خارج المجتمع إنما هو ضرب من ضروب الترف الفكري ذلك أنّه من الضروري اعتبارالازمة الاجتماعية المزمنة التي يعاني منها البلاد منذ عقود حتى نفهم طبيعة التعابير الارهابية التي ميزته.
في تشخيص الازمة ، يعتمد البعض على تداعياتها دون تحديد مصادرها وهذا يفضي الى عدم االاهتداء الى معالجتها. ونرى أن اتباع'' المدخل المنظومي '' مناسبا لتعريف الازمة بعدم قدرة النظام الاجتماعي على انتاج الشروط الضرورية لوجوده.
والنظام الاجتماعي هو كيانات تسودها علاقات (مؤسسات بمفهوم كوفمان ( تحدد نواميس ديناميكيته و ترسخ النظام القيمي فيه. فإنّه يمكن القول إن شبه تفتت العلاقات الاجتماعية ضمن الجيل الواحد وبين الاجيال الذي شهدناه في ظل تفاقم الفوارق الاجتماعية بداية من منتصف الثمانيات كان مردّه المفاهيم الوظيفية الضيقة للمؤسّسات الاجتماعية (كالمدرسة والاسرة والجمعية والاحزاب والمساجد..)، وللافراد (كالاستاذ والولي والزوج والتاجر..). وقد أفرغت هذه الطريقةُ المؤسساتِ من أدوارها المتعددة واقلتعت جوهرها الممتد في اللاوعي الجمعي ، إذ الكيانات المؤسسية في النظام الاجتماعي تفرز النواميس التي يتبعها الناس في معاملاتهم وتمنح معان موحدة في النظام التواصلي الاجتماعي وترسي النظام القيمي الذي ترتئيه. ولكن كل هذا في غياب تصور شامل لمشروع مجتمعي أفضى الى تعطل الدور الاجتماعي للمؤسسات بحيث اصبح الفرد يعيش تناقضات قيمية مدعومة بالثنائية الثقافية التي تعرضنا اليها آنفا. فاصبحنا نشهد تعابير ثقافية في الفضاء العام متناقضة مع تلك المعتمدة في الفضاءات الخاصة وتكاثرت ثغرات النظام الاجتماعي وهشاشته وازداد فشله العضوي في اعادة انتاج ثوابته . ثم تفاقمت التناقضات بقدرما عجزت الدولة على احتوائها وتغير نظام الحكم. لكن يبدو ان الانخراط في عملية التغيير، قبل وبعد 14 يناير، لم يشمل الاغلبية الساحقة من الافراد والمؤسسات. فكانت المرحلة الانتقالية المتعثرة التي من اهم مميزاتها انها تعكس مسار صراع من أجل البقاء ونفي الآخر حيث كل الادوات ممكن توظيفها ومن بينها الارهاب في ظل ضعف الدولة. ويعني هذا الاخير ، أي ضعف الدولة، عدم قدرتها على خلق مؤسسات ناجعة ومستقلة تحدث التوازن والاستقرار بينها وتخضع الى قواعد متينة (هذا ما تبيّنه وجهات النظر في الاقتصاد المؤسساتي الحديث: جيمس روبنسُن، وغيره). وفي غياب هذا الدورالذي يضمن استمرارية الدولة يتحمل الفرد او المجموعات خطرانواعٍ شتى من الارهاب: (1) ارهاب السطلة المحلية )اوالاجنبية( بالركون الى الحل الامني وبخضوعها الى إرادة أصحاب المصالح الأقوى تحت غطاء فرض هيبتها أو خوفا من سقوطها او استباقا لخطرمحدق .فتضيق فضاءات الحريات ويضيع كلُّ حقٍّ وراءه طالب، (2) الارهاب الاقتصادي: عندما ينتظر الفرد غدا أسوء في ظل عدم قدرة الدولة على احتواء مخاوفه، أوعندما يُستعمل الاقتصاد "كسلاح في المعارك السياسية" تتعطل منظومة الانتاج وتكثرالبطالة فيشعرالفرد بالقحت والغلاء وضيع المعيشة وانسداد الافق، (3) الارهاب الثقافي والفكري: عندما يشعرالفرد بمخاطر تهدد هويته بالتشتت والانقراض، و(4) الارهاب الاجرامي الدموي المباشرالذي يختزل كل انواع الارهاب هذه في اقصى تعابير عنفها. . فقد انتشر الارهاب في الدول التي ضعفت فيها الدولة بداية من العراق ثم دول " الثورات العربية " فبقيت في حالة عدم استقرار دائم وأضحت رقما في معادلات كبرى يتجاوز استيعابُها قدراتِ المنفذ المباشر لعملية الارهاب.
وأخيرا يمكن القول إن هناك عواملا موضوعية للارهاب وهي متعلقة ب: (1) تموقع الفرد خارج المجتمع كوجه من وجوه الإغتراب، (2) اشتداد الثنائيات الثقافية والاجتماعية بزعامة النخب، (3) الصراع من أجل البقاء ونفي الآخر، و (4) ضعف الدولة. ومن الاجدر أن تتجه التوصيات لمحاربة الارهاب في اتجاه هذه العوامل مجتمعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.